الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى ( فإن زاد على الثلاث كره لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم { توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال : هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث عمرو بن شعيب هذا فصحيح رواه أحمد بن حنبل وأبو داود والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة . وليس في رواية أحد من هؤلاء قوله : ( أو نقص ) إلا رواية أبي داود فإنه ثابت فيها ، وليس في رواياتهم تصريح بمسح الرأس ثلاثا ، وقد قدمت في الفصول السابقة في مقدمة الكتاب أن جمهور المحدثين صححوا الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وأن المصنف قطع في كتابه اللمع بأنه لا يحتج به لاحتمال [ ص: 467 ] الإرسال وبينت سبب الاختلاف فيه هناك واضحا . وأن الصحيح جواز الاحتجاج به . واختلف أصحابنا في معنى : " أساء وظلم " فقيل : أساء في النقص وظلم في الزيادة فإن الظلم مجاوزة الحد ووضع الشيء في غير موضعه ، وقيل عكسه لأن الظلم يستعمل بمعنى النقص كقوله تعالى : { آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا } وقيل : أساء وظلم في النقص وأساء وظلم أيضا في الزيادة ، واختاره الشيخ أبو عمرو بن الصلاح لأنه ظاهر الكلام ويدل عليه رواية الأكثرين فمن زاد فقد أساء ولم يذكروا النقص .

                                      ( أما حكم المسألة ) فقال أصحابنا إذا زاد على الثلاث كره كراهة تنزيه ولا يحرم هكذا صرح به الأصحاب ، قال إمام الحرمين : الغسلة الرابعة وإن كانت مكروهة فليست معصية قال : ومعنى أساء ترك الأولى وتعدى حد السنة ، وظلم أي : وضع الشيء في غير موضعه . وقال الشيخ أبو حامد في التعليق : قال الشافعي رضي الله عنه في الأم ( أحب ألا يتجاوز الثلاث فإن جاوزها لم يضره ) قال أبو حامد : وأراد بقوله : " لم يضره " أي : لا يأثم ، قال : وأصحابنا يقولون : تحرم الزيادة قال : وليس المذهب هذا والمراد بالإساءة في الحديث غير التحريم لأنه يستعمل أساء فيما لا إثم فيه ، وذكر الروياني في البحر وجها في تحريم الزيادة قال : وليس بشيء . وقال الماوردي : الزيادة على الثلاث لا تسن وهل تكره ؟ فيه وجهان ، قال أبو حامد الإسفراييني : لا تكره وقال سائر أصحابنا : تكره وهو الأصح ، هذا كلام الماوردي . وأما نص الشافعي رضي الله عنه في الأم فقال : لا أحب الزيادة على ثلاث فإن زاد لم أكرهه إن شاء الله . هذا لفظ الشافعي ومعنى لم أكرهه أي : لم أحرمه ، فحصل ثلاثة أوجه ( أحدها ) تحرم الزيادة ( والثاني ) لا تحرم ولا تكره لكنها خلاف الأولى ( والثالث ) وهو الصحيح بل الصواب تكره كراهة تنزيه ، فهذا هو الموافق للأحاديث وبه قطع جماهير الأصحاب ، وقد [ ص: 468 ] أشار الإمام أبو عبد الله البخاري في صحيحه إلى نقل الإجماع على ذلك فإنه قال في أول الكتاب في كتاب الوضوء : ( يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فرض الوضوء مرة ، وتوضأ أيضا مرتين وثلاثا ولم يزد قال : وكره أهل العلم الإسراف فيه ، وأن يجاوز فعل النبي صلى الله عليه وسلم ) .

                                      ( فرع ) المشهور في كتب الفقه وشروح الحديث وغيرها لأصحابنا وغيرهم أن قوله صلى الله عليه وسلم : ( فمن زاد أو نقص ) معناه زاد على الثلاث أو نقص منها ولم يذكر أصحابنا وغيرهم مع كثرة كتبهم وحكاياتهم والوجوه الغريبة والمذاهب المشهورة والمهجورة الراجحة والمرجوحة غير هذا المعنى ، وقال البيهقي في كتابه السنن الكبير : ويحتمل أن المراد بالنقص نقص العضو يعني لم يستوعبه . وهذا تأويل غريب ضعيف مردود ، ومقتضاه أن تكون الزيادة في العضو . وهي غسل ما فوق المرفق والكعب .

                                      إساءة وظلما ، ولا سبيل إلى ذلك بل هو مستحب كما سبق ، والبيهقي ممن نص على استحبابه وعقد فيه بابين ( أحدهما ) باب استحباب إمرار الماء على العضد ( والثاني ) باب الإشراع في الساق ، وذكر فيهما حديث أبي هريرة السابق والله أعلم . فإن قيل : كيف يكون النقص عن الثلاث إساءة وظلما ومكروها وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله كما سبق في الأحاديث الصحيحة ، قلنا : ذلك الاقتصار كان لبيان الجواز فكان في ذلك الحال أفضل لأن البيان واجب والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا زاد على الثلاث فقد ارتكب المكروه ولا يبطل وضوءه ، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة وحكى الدارمي في الاستذكار عن قوم أنه يبطل كما لو زاد في الصلاة وهذا خطأ ظاهر



                                      ( فرع ) إذا شك فلم يدر أغسل مرتين أم ثلاثا فمقتضى كلام الجمهور أنه يبني على حكم اليقين وأنهما غسلتان فيأتي بثالثة ، وحكى إمام الحرمين وجهين أحدهما : قول والده الشيخ أبي محمد الجويني رحمه الله أن يقتصر على ما جرى ولا يأتي بأخرى لأنه متردد بين الرابعة وهي بدعة والثالثة وهي سنة ، وترك سنة أولى من اقتحام بدعة بخلاف المصلي يشك [ ص: 469 ] في عدد الركعات فإنه يأخذ بالأقل ليتيقن أداء الفرض ، والشك هنا ليس في فرض . والوجه الثاني : يغسل أخرى كالصلاة ، والبدعة إنما هي تعمد غسلة رابعة بلا سبب ، مع أن الرابعة وإن كانت مكروهة فليست معصية ، هذا كلام إمام الحرمين ، والصحيح أنه يأتي بأخرى والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال الشيخ أبو محمد الجويني في الفروق : لو توضأ فغسل الأعضاء مرة مرة ثم عاد فغسلها مرة مرة ثم عاد كذلك ثالثة لم يجز قال : ولو فعل مثل ذلك في المضمضة والاستنشاق جاز قال : والفرق أن الوجه واليد متباعدان ينفصل حكم أحدهما عن الآخر فينبغي أن يفرغ من أحدهما ثم ينتقل إلى الآخر : وأما الفم والأنف فكعضو فجاز تطهيرهما معا كاليدين والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية