الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1725 حديث تاسع لإسحاق ، عن أنس مسند أيضا

مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه - ضعيفا أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء ؟ فقالت : نعم ، قال : فأخرجت أقراصا من شعير ، ثم أخذت خمارا لها ثم لفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ، وردتني ببعضه ، ثم أرسلتني إلى رسول الله ، صلى الله عليه . قال : فذهبت به فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا في المسجد [ ص: 289 ] ومعه الناس ، فقمت عليهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرسلك أبو طلحة ، فقلت : نعم ، فقال : بطعام ، قال : قلت : نعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن معه : قوموا . فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته ، فقال أبو طلحة : يا أم سليم قد جاء رسول الله والناس ، وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم ، فقالت : الله ورسوله أعلم ، قال : فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه حتى دخلا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هلمي يا أم سليم ما عندك ، فأتت بذلك الخبز ، فأمر به ففت ، وعصرت عليه أم سليم عكة لها ، فأدمته ثم قال رسول الله ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : إيذن لعشرة ، فأذن لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : إيذن لعشرة ، فأذن لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : إيذن لعشرة ، فأكل القوم كلهم وشبعوا ، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا .

التالي السابق


قال أبو عمر : هذا من أثبت ما يروى من الحديث وأحسنه اتصالا ، وكذلك سائر حديث إسحاق عن أنس .

قال أبو عمر : احتج بعض أصحابنا بهذا الحديث في جواز شهادة الأعمى على الصوت ، وقال : لم يمنع أبا طلحة ضعف صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تمييزه لعلمه به ، فكذلك الأعمى إذا عرف الصوت ، وعارضه بعض من لا يرى شهادة الأعمى جائزة على الكلام بأن أبا طلحة قد تغير عنده صوت رسول الله - صلى الله عليه - مع علمه بصوته [ ص: 290 ] ولولا رؤيته له لاشتبه عليه في حين سماعه منه وما عرفه ، والتشغيب في هذه المسألة طويل .

وفي هذا الحديث ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من ضيق الحال ، وشظف العيش ، وأنه كان - صلى الله عليه - يجوع حتى يبلغ به الجوع والجهد إلى ضعف الصوت وهو غير صائم .

وفيه أن الطعام الذي لمثله يدعى الضيف - ولا يدعى إلا لأرفع ما يقدر عليه - كان عندهم الشعير ، وقد كان أكثر طعامهم التمر في أول الإسلام ، وكان يمر بهم الشهر والشهران ما توقد في بيت أحدهم نار ، وذلك محفوظ معناه من حديث عائشة ، وغيرها .

وفيه قبول مواساة الصديق وأكل طعامه ، وأن ذلك ليس بصدقة ، وإنما كان صلة وهدية ، ولو كان صدقة ما أكله رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

وفيه أن الرجل إذا دعي إلى طعام جاز لجلسائه أن يأتوا معه إذا دعاهم الرجل ، وإن لم يدعهم صاحب الطعام ، وذلك عندي محمول على أنهم علموا أن صاحب الطعام تطيب لهم نفسه بذلك ، ووجه آخر أن يكون الطعام يكفيهم ، وقد قال مالك : لا ينبغي لمن دعي إلى طعام أن يحمل مع نفسه غيره إذ لا يدري هل يسر بذلك صاحب الطعام أم لا ، قال مالك : إلا أن يقال له : ادع من لقيت .

وفيه اكتراث المومن عند ضيق الحال إذا نزل به ضيف وليس معه ما يكفيه من الطعام .

[ ص: 291 ] وفيه فضل فطنة أم سليم ; لحسن جوابها زوجها حين شكى إليها كثرة من حل به مع قلة طعامه ، فقالت له : الله ورسوله أعلم ، أي لم يأت بهم إلا وسيطعمهم .

وفيه الخروج إلى الطريق لمن قصد له إذا كان أهلا لذلك لأنه من البر .

وفيه أن صاحب الدار لا يستأذن في داره ، وأن من دخل معه يستغني عن الإذن .

وفيه أن الصديق الملاطف يأمر في دار صديقه بما يحب ، ويظهر دالته في الأمر والنهي والتحكم ; لأنه اشترط عليهم أن يفت الخبز وهو فعل يرضاه أهل الكرم من الضيف ، ولقد أحسن القائل :


يستأنس الضيف في أبياتنا أبدا فليس يعرف خلق أينا الضيف

وفيه أن الإنسان لا يدخل عليه بيته إلا معه أو بإذنه ، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - إيذن لعشرة ، وقد استحب أهل العلم أن لا يكون على الخوان الذي عليه الطعام أكثر من عشرة ، وفيه أن الثريد أعظم بركة من غيره من الطعام ، ولذلك اشترط به رسول الله ، والله أعلم .

وفيه أن لصاحب الطعام أن يقدم إلى طعامه ممن حضره من شاء من غير قرعة ، وإن كان قد دعاهم جميعا إذا علم أن كل واحد منهم يصل من الطعام إلى ما يكفيه في ذلك الوقت .

[ ص: 292 ] وفيه إباحة الشبع للصالحين ، وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان آخرهم أكلا ، وذلك من مكارم الأخلاق ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ساقي القوم آخرهم شربا .

وفيه العلم الساطع النير ، والبرهان الواضح من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ، وقد روي هذا المعنى وشبهه من وجوه كثيرة ، منها ما حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن عبد الواحد بن أيمن ، عن أبيه ، قال : قلت لجابر بن عبد الله ، حدثنا بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرويه عنك ، قال : فقال جابر : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق نحفره ، فلبثنا ثلاثة أيام لا نطعم طعاما ولا نقدر عليه ، فعرضت في الخندق كدية فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله هذه كدية قد عرضت في الخندق ، فرششنا عليها الماء ، فقام رسول الله وبطنه معصوب بحجر ، فأخذ المعول - أو المسحاة - ثم سمى ثلاثا ثم ضرب فعادت كثيبا أهيل ، فلما رأيت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : يا رسول الله إيذن لي ، فأذن لي ، فجئت امرأتي فقلت : ثكلتك أمك ، إني قد رأيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا لا صبر لي عليه ، فما عندك ؟ قالت : عندي [ ص: 293 ] صاع من شعير ، قال : فطحنا الشعير وذبحنا العناق وأصلحناها وجعلناها في البرمة وعجنت الشعير ، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلبثت ساعة ثم استأذنت الثانية فأذن لي ، فجئت فإذا العجين قد أمكن ، فأمرتها بالخبز وجعلت القدر على الأثافي ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فساررته ، فقلت : يا رسول الله إن عندنا طعاما لنا ، فإن رأيت أن تقوم معي أنت ورجل أو رجلان معك فعلت ، فقال : كم هو ؟ وما هو ؟ فقلت : صاع من شعير وعناق ، قال : ارجع إلى أهلك فقل لها لا تنزع القدر من الأثافي ، ولا تخرج الخبز من التنور حتى آتي ، ثم قال للناس : قوموا إلى بيت جابر ، فاستحييت حياء لا يعلمه إلا الله ، فقلت لامرأتي : ثكلتك أمك قد جاء رسول الله بأصحابه أجمعين ، فقالت : أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألك كم الطعام ؟ قلت : نعم ، فقالت : الله ورسوله أعلم ، قد أخبرته بما كان عندنا ، قال : فذهب عني بعض ما أجد وقلت لقد صدقت ، قال : فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل وقال لأصحابه : لا تضاغطوا ، قال : ثم برك على التنور وعلى البرمة ، فجعلنا نأخذ من التنور الخبز ونأخذ اللحم من البرمة فنثرد ونغرف ونقرب إليهم ، وقال رسول الله : ليجلس على الصحفة سبعة أو ثمانية ، فلما أكلوا كشفنا التنور والبرمة ، فإذا هما قد عادا إلى أملأ مما كانا ، فنثرد ، ونغرف ونقرب [ ص: 294 ] إليهم ، فلم يزل ذلك كلما فتحنا عن التنور وكشفنا عن البرمة وجدناهما أملأ مما كانا ، حتى شبع المسلمون كلهم ، وبقي طائفة من الطعام ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه - : إن الناس قد أصابتهم مخمصة فكلوا وأطعموا ، قال : فلم نزل يومنا نأكل ونطعم ، قال : وأخبرني جابر أنهم كانوا ثمانمائة ، أو ثلاثمائة ، شك أيمن .

حدثنا خلف بن قاسم الحافظ قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن ناصح المفسر ، قال : حدثنا أحمد بن علي بن سعيد قال : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، عن سعيد الجريري ، عن أبي الورد ، عن أبي محمد الحضرمي ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : صنعت لرسول الله ولأبي بكر طعاما قدر ما يكفيهما وأتيتهما به ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار ، قال : فشق ذلك علي ، وقلت : ما عندي شيء أزيده ، قال : فكأني تغافلت ثم قال : اذهب فادع لي ثلاثين من أشرافالأنصار ، قال : فدعوتهم فجاءوا فقال : اطعموا ، فأكلوا ثم صدروا ثم شهدوا أنه رسول الله ، ثم بايعوه قبل أن يخرجوا ، ثم قال : اذهب فادع لي بستين من الأنصار ، قال أبو أيوب : فوالله لأنا بالستين أجود مني بالثلاثين ، قال : فدعوتهم ، فقال [ ص: 295 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلوا ، فأكلوا حتى صدروا ، وشهدوا أنه رسول الله ، وبايعوه قبل أن يخرجوا ، ثم قال : اذهب فادع لي بتسعين من الأنصار ، قال : فلأنا أجود بالتسعين والستين مني بالثلاثين ، قال : فدعوتهم فأكلوا حتى صدروا ، وشهدوا أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبايعوه قبل أن يخرجوا ، قال : فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا .




الخدمات العلمية