الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في الرخصة في الإقعاء

                                                                                                          283 حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاوسا يقول قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين قال هي السنة فقلنا إنا لنراه جفاء بالرجل قال بل هي سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون بالإقعاء بأسا وهو قول بعض أهل مكة من أهل الفقه والعلم قال وأكثر أهل العلم يكرهون الإقعاء بين السجدتين

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          تقدم في الباب المتقدم أن الإقعاء على نوعين ، وسيظهر لك أن الرخصة في الإقعاء بالمعنى الثاني ( إنا لنراه جفاء بالرجل ) قال الحافظ في التلخيص : ضبط ابن عبد البر بالرجل بكسر الراء وإسكان الجيم ، وغلط من ضبطه بفتح الراء وضم الجيم وخالفه الأكثرون . وقال النووي : رد [ ص: 139 ] الجمهور على ابن عبد البر وقالوا : الصواب الضم وهو الذي يليق به إضافة الجفاء إليه ، انتهى . ويؤيد ما ذهب إليه أبو عمر ما روى أحمد في مسنده في هذا الحديث بلفظ : جفاء بالقدم ، ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور ما رواه ابن أبي خيثمة بلفظ : لنراه جفاء المرء ، فالله أعلم بالصواب ، انتهى كلام الحافظ . والجفاء غلظ الطبع وترك الصلة والبر ( بل هي سنة نبيكم ) هذا الحديث نص صريح في أن الإقعاء سنة . واختلف العلماء في الجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث الواردة في النهي عن الإقعاء ، فجنح الخطابي والماوردي إلى أن الإقعاء منسوخ ، ولعل ابن عباس لم يبلغه النسخ ، وجنح البيهقي إلى الجمع بينهما بأن الإقعاء ضربان : أحدهما أن يضع إليتيه على على عقبيه وتكون ركبتاه في الأرض ، وهذا هو الذي رواه ابن عباس وفعلته العبادلة ونص الشافعي في البويطي على استحبابه بين السجدتين ، لكن الصحيح أن الافتراش أفضل منه لكثرة الرواة له ، ولأنه أعون للمصلي وأحسن في هيئة الصلاة . والثاني أن يضع إليتيه ويديه على الأرض وينصب ساقيه ، وهذا هو الذي وردت الأحاديث بكراهته ، وتبع البيهقي على هذا الجمع ابن الصلاح والنووي وأنكرا على من ادعى فيهما النسخ ، وقالا : كيف ثبت النسخ مع عدم تعذر الجمع وعدم العلم بالتاريخ ، كذا في التلخيص الحبير . وقال في النيل : وهذا الجمع لا بد منه وأحاديث النهي والمعارض لها يرشد لما فيها من التصريح بإقعاء الكلب ، ولما في أحاديث العبادلة من التصريح بالإقعاء على القدمين وعلى أطراف الأصابع . وقد روي عن ابن عباس أيضا أنه قال : من السنة أن تمس عقبيك إليتيك ، وهو مفسر للمراد ، فالقول بالنسخ غفلة عن ذلك وعما صرح به الحفاظ من جهل تاريخ هذه الأحاديث وعن المنع من المصير إلى النسخ مع إمكان الجمع ، وقد روي عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم فعله كما قال النووي ، ونص الشافعي في البويطي والإملاء على استحبابه ، انتهى ما في النيل .

                                                                                                          قلت : الأمر كما قال الشوكاني وقد اختار هذا الجمع بعض الأئمة الحنفية كابن الهمام وغيره .

                                                                                                          فائدة : قال ابن حجر المكي الافتراش بين السجدتين أفضل من الإقعاء المسنون بينهما ; لأن ذلك هو الأكثر من أحواله عليه السلام ، انتهى . قال القاري في المرقاة بعد نقل كلام بن حجر هذا ما لفظه : وفيه أن الأول أن يحمل الأكثر على أنه هو المسنون وغيره إما لعذر أو لبيان الجواز ، انتهى .

                                                                                                          قلت : لو كان لعذر لم يقل ابن عباس رضي الله عنهما هي سنة نبيكم ، والظاهر هو ما قال ابن حجر ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                          [ ص: 140 ] قوله : ( وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون بالإقعاء بأسا ) قال الحافظ في التلخيص ، وللبيهقي عن ابن عمر أنه كان إذا رفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه ، ويقول : إنه السنة ، وفيه عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يقعيان ، وعن طاوس قال : رأيت العبادلة يقعون ، أسانيدها صحيحة ، انتهى .

                                                                                                          قلت : لكن إقعاء هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم كان بالمعنى الثاني ، ولم يكن كإقعاء الكلب كما تقدم ( وهو قول بعض أهل مكة من أهل الفقه والعلم ) وهو قول عطاء وطاوس وابن أبي مليكة ونافع والعبادلة ، كذا نقل العيني عن ابن تيمية ( وأكثر أهل العلم يكرهون الإقعاء بين السجدتين ) وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، كذا قيل : وقد عرفت أن الشافعي نص في البويطي وغيره على استحبابه . وقال بعض الحنفية : لنا ما في موطأ مالك عن ابن عمر تصريح أنه ليس بسنته ، ومن المعلوم عند المحدثين أن زيادة الاعتماد في نقل السنة على ابن عمر ، فإن ابن عباس ربما يقول باجتهاده ورأيه ويعبره بالسنة ، انتهى .

                                                                                                          قلت : هذا مجرد ادعاء ، ولو سلم فإنما يكون تعبيره بالسنة لا بسنة نبيكم ، وقد قال في الإقعاء : هي سنة نبيكم على أنه قد صرح ابن عمر أيضا بأنه سنة ، كما روى البيهقي عنه أنه كان إذا رفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه ، ويقول : إنه السنة ، وإسناده صحيح كما عرفت .




                                                                                                          الخدمات العلمية