الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب من أتاه سهم غرب فقتله

                                                                                                                                                                                                        2654 حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا حسين بن محمد أبو أحمد حدثنا شيبان عن قتادة حدثنا أنس بن مالك أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء قال يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب من أتاه سهم غرب ) بتنوين سهم وبفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة هذا هو الأشهر وسيأتي بيان الخلاف فيه .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 32 ] قوله : ( حدثنا محمد بن عبد الله ) جزم الكلاباذي وتبعه غير واحد بأنه الذهلي ، وهو محمد بن يحيى بن عبد الله ، نسبه البخاري إلى جده ، ووقع في رواية أبي علي بن السكن " حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء ، فإن لم يكن ابن السكن نسبه من قبل نفسه وإلا فما قاله هو المعتمد . وقد أخرجه ابن خزيمة في التوحيد من صحيحه عن محمد بن يحيى الذهلي عن حسين بن محمد وهو المروزي بهذا الإسناد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن أم الربيع بنت البراء ) كذا لجميع رواة البخاري ، وقال بعد ذلك " وهي أم حارثة بن سراقة " وهذا الثاني هو المعتمد ، والأول وهم نبه عليه غير واحد من آخرهم الدمياطي فقال : قوله أم الربيع بنت البراء وهم ، وإنما هي الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن عمرو ، وقد تقدم ذكر قتل أخيها أنس بن النضر وذكرها في آخر حديثه قريبا وهي أم حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي من بني عدي بن النجار ذكره ابن إسحاق موسى بن عقبة وغيرهما فيمن شهد بدرا ، واتفقوا على أنه رماه حبان بكسر المهملة بعدها موحدة ثقيلة ابن العرقة - بفتح المهملة وكسر الراء بعدها قاف - وهو على حوض فأصاب نحره فمات .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ووقع في رواية ابن خزيمة المذكورة أن الربيع بنت البراء بحذف " أم " فهذا أشبه بالصواب ، لكن ليس في نسب الربيع بنت النضر أحد اسمه البراء فلعله كان فيه " الربيع عمة البراء " فإن البراء بن مالك أخو أنس بن مالك فكل منهما ابن أخيها أنس بن النضر ، وقد رواه الترمذي وابن خزيمة أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فقال " عن أنس أن الربيع بنت النضر أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابنها حارثة بن سراقة أصيب يوم بدر " الحديث ، ورواه النسائي من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال " انطلق حارثة ابن عمتي فجاءت عمتي أمه " وحكى أبو نعيم الأصبهاني أن الحكم بن عبد الملك رواه عن قتادة كذلك وقال : حارثة بن سراقة " قال ابن الأثير في " جامع الأصول " الذي وقع في كتب النسب والمغازي وأسماء الصحابة أن أم حارثة هي الربيع بنت النضر عمة أنس ، وأجاب الكرماني بأنه لا وهم للبخاري لأنه ليس في رواية النسفي إلا الاقتصار على قول أنس : أن أم حارثة بن سراقة ) ، قال فيحمل على أنه كان في رواية الفربري حاشية لبعض الرواة غير صحيحة فألحقت بالمتن انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وقد راجعت أصل النسفي من نسخة ابن عبد البر فوجدتها موافقة لرواية الفربري فالنسخة التي وقعت للكرماني ناقصة وادعاء الزيادة في مثل هذا الكتاب مردود على قائله ، والظاهر أن لفظ أم وبنت وهم كما تقدم توجيهه قريبا ، والخطب فيه سهل ولا يقدح ذلك في صحة الحديث ولا في ضبط رواته . وقد وقع في رواية سعيد بن أبي عروبة التي ضبط فيها اسم الربيع بنت النضر وهم في اسم ابنها فسماه " الحارث " بدل " حارثة " . وقد روى هذا الحديث أبان عن قتادة فقال : أن أم حارثة لم ترد أخرجه أحمد ، وكذلك أخرجه من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ، وسيأتي كذلك في المغازي من طريق حميد عن أنس .

                                                                                                                                                                                                        ثم شرع الكرماني في إبداء احتمالات بعيدة متكلفة لتوجيه الرواية التي في البخاري فقال : يحتمل أن يكون للربيع ابن يسمى الربيع يعني بالتخفيف من زوج آخر غير سراقة يسمى البراء وأن يكون " بنت البراء " خبرا لأن وضمير " هي " راجع إلى الربيع وأن يكون " بنت " صفة لوالدة الربيع فأطلق الأم على الجدة تجوزا وأن تكون إضاقة الأم إلى الربيع للبيان أي الأم التي هي الربيع [ ص: 33 ] و " بنت " مصحف من " عمة " ، قال : وارتكاب بعض هذه التكلفات أولى من تخطئة العدول الأثبات . قلت : إنما اختار البخاري رواية شيبان على رواية سعيد لتصريح شيبان في روايته بتحديث أنس لقتادة ، وللبخاري حرص على مثل ذلك إذا وقعت الرواية عن مدلس أو معاصر ، وقد قال هو في تسمية من شهد بدرا " وحارثة ابن الربيع وهو حارثة بن سراقة " فلم يعتمد على ما وقع في رواية شيبان أنه حارثة بن أم الربيع بل جزم بالصواب ، والربيع أمه وسراقة أبوه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أصابه سهم غرب ) أي لا يعرف راميه ، أو لا يعرف من أين أتى ، أو جاء على غير قصد من راميه قاله أبو عبيد وغيره . والثابت في الرواية بالتنوين وسكون الراء ، وأنكره ابن قتيبة فقال : كذا تقوله العامة والأجود فتح الراء والإضافة ، وحكى الهروي عن ابن زيد : إن جاء من حيث لا يعرف فهو بالتنوين والإسكان ، وإن عرف راميه لكن أصاب من لم يقصد فهو بالإضافة وفتح الراء ، قال : وذكره الأزهري بفتح الراء لا غير ، وحكى ابن دريد وابن فارس والقزاز وصاحب المنتهى وغيرهم الوجهين مطلقا ، وقال ابن سيده : أصابه سهم غرب وغرب إذا لم يدر من رماه ، وقيل إذا أتاه من حيث لا يدري ، وقيل إذا قصد غيره فأصابه ، قال : وقد يوصف به . قلت : فحصلنا من هذا على أربعة أوجه . وقصة حارثة منزلة على الثاني فإن الذي رماه قصد غرته فرماه وحارثة لا يشعر به ، وقد وقع في رواية ثابت عند أحمد أن حارثة خرج نظارا ، زاد النسائي من هذا الوجه : ما خرج لقتال .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( اجتهدت عليه في البكاء ) قال الخطابي : أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا أي فيؤخذ منه الجواز . قلت : كان ذلك قبل تحريم النوح فلا دلالة فيه ، فإن تحريمه كان عقب غزوة أحد ، وهذه القصة كانت عقب غزوة بدر . ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة " اجتهدت في الدعاء " بدل قوله " في البكاء " وهو خطأ ، ووقع ذلك في بعض النسخ دون بعض ، ووقع في رواية حميد الآتية في صفة الجنة من الرقاق وعند النسائي " فإن كان في الجنة لم أبك عليه " وهو دال على صحة الرواية بلفظ البكاء ، وقال في رواية حميد هذه " وإلا فسترى ما أصنعه " ونحوه في رواية حماد عن ثابت عند أحمد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إنها جنان في الجنة ) كذا هنا ، وفي رواية سعيد بن أبي عروبة ، " إنها جنان في جنة " وفي رواية أبان عند أحمد " إنها جنان كثيرة في جنة " وفي رواية حميد المذكورة " إنها جنان كثيرة " فقط ، والضمير في قوله : إنها جنان " يفسره ما بعده ، وهو كقولهم : هي العرب تقول ما شاءت ، والقصد بذلك التفخيم والتعظيم ، ومضى الكلام على " الفردوس " قريبا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية