الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 383 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( والمستحب أن يوجه الذبيحة إلى القبلة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ضحوا وطيبوا أنفسكم فإنه ما من مسلم يستقبل بذبيحته القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسنات في ميزانه يوم القيامة } ولأنه قربة لا بد فيها من جهة ، فكانت جهة القبلة أولى . ويستحب أن يسمي الله تعالى لحديث أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى وكبر } ويستحب أن يقول ( اللهم تقبل مني ) لما روي عن ابن عباس أنه قال ليجعل أحدكم ذبيحته بينه وبين القبلة . ثم يقول : من الله وإلى الله والله أكبر ، اللهم منك ولك ، اللهم تقبل ) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا ضحى قال ( من الله والله أكبر ، واللهم منك ولك ، اللهم تقبل مني ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أنس رواه البخاري ومسلم ، ولفظ مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { باسم الله والله أكبر } ولفظ البخاري { سمى وكبر } وأما حديث عائشة فذكره البيهقي وقال إسناده ضعيف . وأما الأثر عن ابن عباس فرواه البخاري بمعناه ، ويغني عنه حديث عائشة المذكور في الفرع قبل هذا ، وهو في صحيح مسلم ودلالته ظاهرة ، ويا ليت المصنف احتج به . ( أما الأحكام ) فمقصود الفصل بيان آداب الذبح وسننه ، سواء في ذلك الهدي والأضحية وغيرهما ، وفيه مسائل ( إحداها ) يستحب تحديد السكين وإراحة الذبيحة ، وقد ذكره المصنف في باب الصيد والذبائح بدليله ، وهناك نشرحه إن شاء الله تعالى .

                                      ( الثانية ) يستحسن إمرار السكين بقوة وتحامل ذهابا وعودا ، ليكون أرجى وأسهل .

                                      ( الثالثة ) استقبال الذابح القبلة وتوجيه الذبيحة إليها ، وهذا مستحب في كل ذبيحة ، لكنه في الهدي والأضحية أشد استحبابا ; لأن الاستقبال في العبادات مستحب وفي بعضها واجب ، وفي كيفية توجيهها ثلاثة أوجه حكاها الرافعي ( أصحها ) يوجه مذبحها إلى القبلة ، ولا يوجه [ ص: 384 ] وجهها ليمكنه هو أيضا الاستقبال ( والثاني ) يوجهها بجميع بدنها ( والثالث ) يوجه قوائمها . ويستحب أن ينحر البعير قائما على ثلاث قوائم معقول الركبة وإلا فباركا ويستحب أن يضجع البقر والشاة على جنبها الأيسر ، هكذا صرح به البغوي والأصحاب ، قالوا ويترك رجلها اليمنى ويشد قوائمها الثلاث .

                                      ( الرابعة ) التسمية مستحبة عند الذبح والرمي إلى الصيد وإرسال الكلب ونحوه فلو تركها عمدا أو سهوا حلت الذبيحة ، لكن تركها عمدا مكروه على المذهب الصحيح كراهة تنزيه لا تحريم ، وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه يأثم به ، والمشهور الأول ، وهل يتأدى الاستحباب بالتسمية عند عض الكلب وإصابة السهم ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) نعم ، وهذا الخلاف في كمال الاستحباب . فأما إذا ترك التسمية عند الإرسال فيستحب تداركها عند الإصابة بلا خلاف كما لو ترك التسمية في أول الوضوء والأكل ، يستحب التسمية في أثنائهما . قال أصحابنا : ولا يجوز أن يقول الذابح : باسم محمد ، ولا باسم الله واسم محمد ، بل من حق الله تعالى أن يجعل الذبح باسمه واليمين باسمه ، والسجود له لا يشاركه في ذلك مخلوق . وذكر الغزالي في الوسيط أنه لا يجوز أن يقول : باسم الله ومحمد رسول الله ; لأنه تشريك ، قال : ولو قال باسم الله ومحمد رسول الله فلا بأس . قال الرافعي : ويناسب هذه المسائل ما حكى في الشامل وغيره عن نص الشافعي رحمه الله : أنه لو كان لأهل الكتاب ذبيحة يذبحونها باسم غير الله تعالى كالمسيح لم تحل .

                                      وفي كتاب القاضي ابن كج أن اليهودي [ ص: 385 ] لو ذبح لموسى أو النصراني لعيسى صلى الله عليهما وسلم أو للصليب حرمت ذبيحته ، وأن المسلم لو ذبح للكعبة أو ذبح لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيقوى أن يقال : يحرم ; لأنه ذبح لغير الله تعالى قال وخرج أبو الحسين بن القطان وجها آخر أنها تحل ; لأن المسلم يذبح لله تعالى ولا يعتقد في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعتقده النصراني في عيسى قالوا : وإذا ذبح للصنم لم تؤكل ذبيحته ، سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا ، وفي تعليق الشيخ إبراهيم المروروذي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل نجران بتحريمه ; لأنه مما أهل به لغير الله تعالى . قال الرافعي : واعلم أن الذبح للمعبود وباسمه نازل منزلة السجود ، وكل واحد منهما من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى ، الذي هو المستحق للعبادة فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحل ذبيحته وكان فعله كفرا كمن يسجد لغير الله تعالى سجدة عبادة ، فكذا لو ذبح له أو لغيره على هذا الوجه ، فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه بأن ضحى أو ذبح للكعبة تعظيما لها لكونها بيت الله أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه رسول الله ، فهو لا يجوز أن يمنع حل الذبيحة ، وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل أهديت للحرم أو الكعبة ، ومن هذا القبيل الذبح عند استقبال السلطان ; لأنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود .

                                      ومثل هذا لا يوجب الكفر ، وكذا السجود للغير تذللا وخضوعا لا يوجب الكفر ، وإن كان ممنوعا وعلى هذا فإذا قال الذابح : باسم الله واسم محمد ، وأراد أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد ، فينبغي أن لا يحرم ، وقول من قال : لا يجوز ذلك يمكن حمله على أن اللفظة مكروهة ; لأن المكروه يصح نفي الجواز والإباحة المطلقة عنه . قال : ووقعت منازعة بين جماعة ممن لقيناهم من فقهاء قزوين في أن من ذبح باسم الله واسم رسوله هل تحرم ذبيحته [ ص: 386 ] وهل يكفر بذلك ؟ وأفضت تلك المنازعة إلى فتنة ، قال : والصواب ما بيناه هذا كلام الرافعي ، وقد أتقن رحمه الله هذا الفصل ، ومما يؤيد ما قاله واختاره ما ذكره إبراهيم المروروذي في تعليقه ، قال : حكى صاحب التقريب عن الشافعي رحمه الله أن النصراني إذا سمى غير الله تعالى كالمسيح لم تحل ذبيحته ، قال صاحب التقريب : معناه أن يذبحها له ، فأما إن ذكر المسيح على معنى الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجائز ، قال وقال الحليمي : تحل مطلقا وإن سمى المسيح ، والله أعلم . .



                                      ( فرع ) قال ابن كج : من ذبح شاة وقال أذبح لرضاء فلان حلت الذبيحة ; لأنه يتقرب إليه بذلك بخلاف من ذبح للصنم وذكر الروياني أن من ذبح للجن وقصد به التقرب إلى الله تعالى ليصرف شرهم عنه فهو حلال وإن قصد الذبح لهم فحرام . .



                                      ( فرع ) يستحب مع التسمية على الذبيحة أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الذبح ، نص عليه الشافعي في الأم ، وبه قطع المصنف في التنبيه وجماهير الأصحاب . وفيه وجه لابن أبي هريرة أنه لا يستحب ولا يكره . وعجب أن المصنف هنا كيف أهمل ذكر هذه المسألة مع شهرتها وذكره إياها في التنبيه ، والله أعلم .

                                      هذا مذهبنا ونقل القاضي عياض عن مالك وسائر العلماء كراهتها ، قالوا : ولا يذكر عند الذبح إلا الله وحده .



                                      [ ص: 387 ] فرع ) يستحب أن يقول عند التضحية مع التسمية : اللهم منك وإليك تقبل مني . وحكى الماوردي وجها أنه لا يستحب ، وهذا شاذ ضعيف والمذهب ما سبق . ولو قال : تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك ومحمد عبدك ورسولك صلى الله عليهما وسلم لم يكره ، ولم يستحب ، كذا نقله الروياني في البحر عن الأصحاب ، واتفق أصحابنا على استحباب التكبير مع التسمية فيقول : بسم الله والله أكبر لحديث أنس المذكور ، وهو صحيح كما سبق . قال الماوردي : يختار في الأضحية أن يكبر الله تعالى قبل التسمية وبعدها ثلاثا فيقول : الله أكبر الله أكبر الله أكبر . والله أعلم . .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في التسمية على ذبح الأضحية وغيرها من الذبائح وعلى إرسال الكلب والسهم وغيرهما إلى الصيد . مذهبنا أنها سنة في جميع ذلك . فإن تركها سهوا أو عمدا حلت الذبيحة ولا إثم عليه ، قال العبدري : وروي هذا عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء ، وقال أبو حنيفة : التسمية شرط للإباحة مع الذكر دون النسيان ، وهذا مذهب جماهير العلماء . وعن أصحاب مالك قولان ( أصحهما ) كمذهب أبي حنيفة ( والثاني ) كمذهبنا وعن أحمد ثلاث روايات ( الصحيحة ) عندهم والمشهورة عنه أن التسمية شرط للإباحة ، فإن تركها عمدا أو سهوا في صيد فهو ميتة ( والثانية ) كمذهب أبي حنيفة ( والثالثة ) إن تركها على إرسال السهم ناسيا أكل وإن تركها على الكلب والفهد لم يؤكل ، قال : وإن تركها في ذبيحة سهوا حلت ، وإن تركها عمدا فعنه روايتان وقال ابن سيرين وأبو ثور وداود : لا تحل سواء تركها عمدا أو سهوا . هذا نقل العبدري .

                                      وقال ابن المنذر عن الشعبي ونافع كمذهب ابن سيرين ، قال : وممن [ ص: 388 ] أباح أكل ما تركت التسمية عليه ابن عباس وأبو هريرة وسعيد بن المسيب وطاوس وعطاء والحسن البصري والنخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد والحكم وربيعة ومالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة ، واحتج لمن شرط التسمية بقوله تعالى { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } . وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله ، وكل ما أمسك عليك } وفي رواية { فإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل ، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره } وفي رواية { إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله } وفي رواية { إذا رميت سهمك فاذكر الله } رواه البخاري ومسلم بهذه الروايات .

                                      وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له { وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله تعالى عليه فكل } وفي رواية { فما صدت بقوسك فاذكر اسم الله ثم كل ، وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل } . واحتج أصحابنا بقول الله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم } إلى قوله تعالى { إلا ما ذكيتم } فأباح المذكى ، ولم يذكر التسمية ، فإن قيل لا يكون مذكى إلا بالتسمية ( قلنا ) الذكاة في اللغة الشق والفتح وقد وجدا ، وأيضا قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } فأباح ذبائحهم ولم يشترط التسمية ، وبحديث عائشة رضي الله عنها أنهم قالوا { يا رسول الله إن قومنا حديثو عهد بالجاهلية يأتون بلحمان لا ندري [ ص: 389 ] أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا فنأكل منها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سموا وكلوا } حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه ، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة كلها ، فإسناد النسائي وابن ماجه على شرط البخاري ومسلم ، وإسناد أبي داود على شرط البخاري قال أصحابنا : وقوله صلى الله عليه وسلم { سموا وكلوا } هذه التسمية المستحبة عند أكل كل طعام وشرب كل شراب ، فهذا الحديث هو المعتمد في المسألة ، وأحاديث أبي هريرة قال { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت الرجل يذبح وينسى أن يسمي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم اسم الله على كل مسلم } فهذا حديث منكر مجمع على ضعفه ذكره البيهقي وبين أنه منكر ولا يحتج به ، وهذا حديث الصلت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر } فهذا حديث مرسل ذكره أبو داود في المراسيل والبيهقي . وأجاب أصحابنا عن الآية التي احتج بها الأولون أن المراد ما ذبح للأصنام كما قال تعالى في الآية الأخرى { وما ذبح على النصب } { وما أهل لغير الله به } ولهذا قال تعالى { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ، وإنه لفسق } وقد أجمعت الأمة على أن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق ، فوجب حملها على ما ذكرناه ، ويجمع بينها وبين الآيات السابقات مع حديث عائشة .

                                      ( وأجاب ) بعض أصحابنا بجواب آخر وهو حمل النهي على كراهة التنزيه جمعا بين الأدلة ( والجواب ) عن حديثي علي وأبي ثعلبة أن ذكر التسمية للندب ( وجواب ) آخر عن قوله صلى الله عليه وسلم " فإنما سميت على كلبك " أن المراد بالتسمية الإرسال والله أعلم .

                                      [ ص: 390 ] فرع ) في مذاهبهم في مسائل مما سبق . يستحب عندنا أن يقول في ذبح الأضحية ( اللهم منك ولك فتقبل مني ) وبه قال ابن عباس وكرهه ابن سيرين ومالك وأبو حنيفة . دليلنا حديث عائشة السابق وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح فمستحبة عندنا . وكرهها الليث بن سعد وابن المنذر . .




                                      الخدمات العلمية