الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    52 - ( فصل )

                    الطريق السادس الحكم بالشاهد الواحد بلا يمين وذلك في صور :

                    منها : إذا شهد برؤية هلال رمضان شاهد واحد في ظاهر مذهب أحمد ، { لحديث ابن عمر : تراءى الناس الهلال ، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام ، وأمر الناس بالصيام } رواه أبو داود . فعلى هذا : هل يكتفى بشهادة المرأة الواحدة في ذلك ؟ فيه وجهان : مبنيان على أن ثبوته بقول الواحد : هل هو من باب الإخبار ، أو من باب الشهادات ؟ وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس .

                    قال { جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني رأيت الهلال ، فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : نعم ، قال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال : يا بلال ، أذن في الناس فليصوموا غدا } . وعنه رواية أخرى : لا يجب إلا بشهادة اثنين .

                    وحجة هذا القول : ما رواه النسائي وأحمد وغيرهما عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، وأمسكوا ، فإن غم عليكم [ ص: 110 ] فأتموا ثلاثين يوما ، فإن شهد شاهدان ، ذوا عدل فصوموا وأفطروا } .

                    وهذا لا حجة فيه من طريق المنطوق ، ومن طريق المفهوم فيه تفصيل : وهو أنه إن كان المشهود به هلال شوال ، فيشترط شاهدان بهذا النص . وإن كان هلال رمضان : كفى واحد بالنصين الآخرين ، ولا يقوى ما يتوهم من عموم المفهوم على معارضة هذين الخبرين . وأصول الشرع تشهد للاكتفاء بقول الواحد ، فإن ذلك خبر عن دخول وقت العبادة . فاكتفى فيه بالشاهد الواحد ، كالإخبار عن دخول وقت الصلاة بالأذان ، ولا فرق بينهما .

                    وقال أبو بكر عبد العزيز : إن كان الرائي في جماعة لم تقبل إلا شهادة اثنين لأنه يبعد انفراد الواحد من بين الناس بالرؤية ، فإذا شهد معه آخر : غلب على الظن صدقهما وإن كان في سفر فقدم ، قبل قوله وحده ، لظاهر الحديث ، ولأنه قد يكون في السفر وحده ، أو يتشاغل رفقته عن رؤيته ، فيراه هو .

                    وقال أبو حنيفة : إن كان في السماء علة أو غيم أو غبار أو نحو ذلك ، مما يمنع الرؤية قبلت شهادة الواحد العدل ، والحر والعبد والذكر والأنثى في ذلك سواء . وتقبل فيه شهادة المحدود في القذف إذا تاب ، ولا يشترط لفظ الشهادة . قال : وإن لم تكن في السماء علة لم تقبل إلا شهادة جمع يقع العلم بخبرهم ، وهو مفوض إلى رأي الإمام من غير تقدير ، لأن المطالع متحدة ، والموانع مرتفعة ، والأبصار صحيحة ، والدواعي على طلب الرؤية متوفرة ، فلا يجوز أن يختص بالرؤية النفر القليل .

                    وعن أبي حنيفة رواية أخرى : أنه تكفي شهادة الاثنين . قالوا : ولو جاء رجل من خارج المصر ، وشهد به قبل ، وكذا إذا كان على مرتفع في البلد كالمنارة ونحوها ، إذ الرؤية تختلف باختلاف صفاء الجو وكدره ، وباختلاف ارتفاع المكان وهبوطه . والصحيح : قبول شهادة الواحد مطلقا ، كما دل عليه حديثا ابن عمر وابن عباس . ولا ريب أن الرؤية كما تختلف بأسباب خارجة عن الرائي ، فإنها تختلف بأسباب من الرائين ، كحدة البصر وكلاله . وقد شاهد الناس الجمع العظيم يتراءون الهلال ، فيراه الآحاد منهم ، وأكثرهم لا يرونه ، ولا يعد انفراد الواحد بالرؤية من بين الناس كاذبا .

                    وقد كان الصحابة في طريق الحج ، فتراءوا هلال ذي الحجة ، فرآه ابن عباس ولم يره عمر ، فجعل يقول " ألا تراه يا أمير المؤمنين ، فقال : سأراه وأنا مستلق على فراشي " .

                    53 - ( فصل )

                    [ ص: 111 ] ومنها : ما يختص بمعرفة أهل الخبرة والطب ، كالموضحة وشبهها ، وداء الحيوان الذي لا يعرفه إلا البيطار . فتقبل في ذلك شهادة طبيب واحد وبيطار واحد إذا لم يوجد غيره . نص عليه أحمد . وإن أمكن شهادة اثنين ، فقال أصحابنا : لا يكتفى بدونهما ، أخذا من مفهوم كلامه . ويتخرج قبول قول الواحد ، كما يقبل قول القاسم والقائف وحده .

                    54 - ( فصل )

                    ومنها : ما لا يطلع عليه الرجال غالبا ، من الولادة والرضاع والعيوب تحت الثياب ، والحيض والعدة ، فتقبل فيه شهادة امرأة واحدة مع العدالة . والأصل فيه : حديث عقبة بن الحارث قال : { تزوجت امرأة ، فجاءت أمة سوداء ، فقال : فقد أرضعتكما ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فقال : دعها عنك } . وفي هذا الحديث من الأحكام : قبول شهادة العبد ، وقبول شهادة المرأة وحدها ، وقبول شهادة الرجل على فعل نفسه ، كالقاسم والخارص ، والحاكم على حكمه بعد عزله . وعن أحمد : رواية أخرى : لا تقبل فيه إلا شهادة امرأتين ; لأن الله سبحانه أقامهما في الشهادة مقام شاهد واحد ، وهو أقل نصابا في الشهادة .

                    وقال الشافعي ومالك : لا يقبل أقل من أربع نسوة ، لأنهن كرجلين . والله تعالى أمر باستشهاد رجلين ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، فعلم أن المرأتين مقام الشاهد الواحد .

                    وقد احتج الإمام أحمد : أن عليا رضي الله عنه أجاز شهادة القابلة في الاستهلال . قال الشافعي : لو ثبت عن علي لصرنا إليه .

                    وقال إسحاق بن راهويه : لو صحت شهادتها لقلنا به . ولا نعرف اشتراط الأربعة عن أحد قبل عطاء ; فإن ابن جريج روي عنه : " لا يجوز في الاستهلال إلا أربع نسوة " ذكره البيهقي .

                    وقد روي مرفوعا من حديث حذيفة ، رواه الدارقطني من حديث محمد بن عبد الملك الواسطي عن الأعمشي ، عن أبي وائل ، عن حذيفة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة } .

                    وقال الدارقطني : محمد بن عبد الملك الواسطي : لم يسمعه من الأعمش ، بينهما رجل مجهول . هو أبو عبد الرحمن المدائني [ ص: 112 ] .

                    قال ابن الجوزي : وقد روى أصحابنا من حديث ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { يجزئ في الرضاع شهادة امرأة } . قلت : وهذا لا يعرف إسناده ، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بن ثابت وحده ، وجعلها بشهادتين ، وقد احتج به أبو داود على قبول شهادة الرجل وحده ، إذا علم الحاكم صدقه ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى . قال البخاري في صحيحه " : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف عن ابن جريج أخبرهم ، قال : أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة { : أن بني صهيب مولى ابن جدعان - ادعوا بيتين وحجرة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى ذلك صهيبا ، فقال مروان : من يشهد لكما على ذلك ؟ قالوا : ابن عمر ، فدعاه ، فشهد لأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم صهيبا بيتين وحجرة ، فقضى مروان بشهادته } . وهذا غير مختص به ، والذي يشهد به خزيمة يشهد به كل مؤمن بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما بينه خزيمة دون الصحابة لدخول هذا الفرد من أخباره صلى الله عليه وسلم في جملة أخباره ، وأنه يجب تصديقه فيه ، والشهادة بأنه كما أخبر به ، كما يجب تصديقه في سائر أخباره .

                    وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة الشاهد الواحد من غير يمين كما جاء في الصحيحين " من حديث أبي قتادة ، قال { : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين : من قتل قتيلا ، له عليه بينة : فله سلبه ، فقمت ، فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ثم قلت : من يشهد لي ؟ فقال : ما لك يا أبا قتادة ؟ فذكرت أمر القتيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من جلسائه : صدق يا رسول الله ، سلبه عندي ، فأرضه منه ، فقال أبو بكر : لاها الله إذا لا نعطيه أضييع قريش ، وندع أسدا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق ، أعطه إياه . فأداه إلي } .

                    وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال في المذاهب : أحدها : أنه لا بد من شاهدين .

                    والثاني : يكفي شاهد ويمين .

                    والثالث : يكفي شاهد واحد ، وهو الأصح في الدليل ، لهذا الحديث الصحيح الذي لا معارض ولا وجه للعدول عنه .

                    وقال أبو داود في سننه " : " باب إذا علم الحاكم بصدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به " [ ص: 113 ] ثم ذكر حديث خزيمة بن ثابت .

                    قال الشافعي : وذكر عمران بن حدير عن أبي مجلز قال : " قضى زرارة بن أوفى رحمه الله بشهادتي وحدي " .

                    وقال شعبة عن أبي قيس وعن أبي إسحاق : " أن شريحا أجاز شهادة كل واحد منهما وحده " .

                    وقال الأعمش عن أبي إسحاق : " أجاز شريح شهادتي وحدي " .

                    وقال أبو قيس : " شهدت عند شريح على مصحف ، فأجاز شهادتي وحدي .

                    55 - ( فصل )

                    ومنها : قبول شهادة الشاهد الواحد ، بغير يمين في الترجمة ، والتعريف والرسالة ، والجرح والتعديل . نص عليه أحمد في إحدى الروايتين عنه . وترجم عليه البخاري في صحيحه " ، فقال : " باب ترجمة الحكام ، وهل يجوز ترجمان واحد ؟ " قال خارجة بن زيد عن { زيد بن ثابت : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتابة اليهود ، حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه } وقال عمر - وعنده علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف - " ماذا تقول هذه ؟ فقال عبد الرحمن بن حاطب : تخبرك بصاحبها الذي صنع بها " .

                    وقال أبو جمرة : " كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس " . فقال بعض الناس : لا بد للحاكم من مترجمين " . قلت : هذا قول مالك والشافعي ، واختيار الخرقي ، والاكتفاء بواحد قول أبي حنيفة ، وهو الصحيح ، لما تقدم . وهو اختيار أبي بكر .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية