الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ثم يمسح رأسه وهو فرض لقوله تعالى - : { وامسحوا برءوسكم } والرأس ما اشتمل عليه منابت الشعر المعتاد والنزعتان منه ، لأنه في منبت الناصية والصدغ من الرأس ; لأنه من منابت شعره ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) يقال : مسح برأسه ومسح رأسه ، والنزعتان بفتح النون والزاي هذه اللغة الفصيحة المشهورة ، وحكيت لغة بإسكان الزاي ، وقد بسطت الكلام فيهما في تهذيب الأسماء واللغات ، والنزعتان هما الموضعان المحيطان بالناصية في جانبي الجبينين اللذين ينحسر شعر الرأس عنهما في بعض الناس ، وأما الناصية فهي الشعر بين النزعتين ذكره القاضي أبو الطيب في تعليقه والشيخ نصر في الانتخاب وحكاه عن أهل اللغة قال ابن فارس : هي قصاص الشعر وجمعها نواص ، ويقال للناصية ناصاة بلغة طيئ كما يقولون للجارية جارة ونحوه .

                                      أما حكم المسألة : فمسح الرأس واجب بالكتاب والسنة والإجماع ، وقوله ( والرأس ما اشتملت عليه منابت الشعر المعتاد ) هكذا قاله أصحابنا ، وقوله : " والنزعتان منه " هذا مذهبنا نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب وبه قال جمهور العلماء ، وحكى الماوردي وغيره عن قوم من العلماء أنهم قالوا : النزعتان من الوجه لذهاب الشعر عنهما واتصالهما بالوجه ، ودليلنا أنهما داخلتان في حد الرأس فكانتا منه وليس ذهاب الشعر مخرجا لهما عن حكم الرأس كما لو ذهب شعر ناصيته ، قال الماوردي : والعرب مجمعة على أن النزعة من الرأس ، وذلك ظاهر في شعرهم ، ونص الشافعي في الأم على استحباب غسل النزعتين مع الوجه ، ونقل النص عنه الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما قالوا : وإنما استحب ذلك للخروج من خلاف من أوجب غسلهما مع الوجه ، والله أعلم .

                                      وأما الصدغ فهو بالصاد ويقال بالسين ، لغتان الصاد أشهر وهو المحاذي [ ص: 429 ] لرأس الأذن نازلا إلى أول العذار ، هكذا ضبطه صاحب البحر وآخرون . وقال الشيخ أبو حامد : هو المحاذي لرأس الأذن وموضع التحذيف قال : وربما تركه بعض الناس عند الحلق قال : وينبغي ألا يترك . واختلف أصحابنا فيه فقطع المصنف والأكثرون بأن الصدغ من الرأس ، ممن قطع بذلك الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي وسليم الرازي في الكفاية والقاضي حسين وابن الصباغ والشيخ نصر والبغوي وآخرون ، وحكى الماوردي فيه ثلاثة أوجه : ( أحدها ) من الرأس .

                                      ( والثاني ) من الوجه .

                                      ( والثالث ) وهو قول أبي الفياض وجمهور البصريين أن ما استعلى على الأذنين منه فهو من الرأس ، وما انحدر عنهما فمن الوجه ، قال الروياني : هذا الثالث هو الصحيح وقال صاحب المستظهري : هذا الثالث ظاهر الفساد . وأنكر الشيخ أبو عمرو على الجمهور كونهم قطعوا بأنه من الرأس وقال : الذي رأيته منصوصا صريحا للشافعي في مختصر الربيع ومختصر البويطي أن الصدغ من الوجه ، ثم ذكر كلام الماوردي والروياني ثم قال : والمذهب ما نقلته عن النص وكأن من خالفه لم يطلع عليه إلا السرخسي صاحب الأمالي فاطلع عليه وتأوله ، وقال : أراد بالصدغ العذار وهذا متروك عليه ، هذا كلام أبي عمرو .

                                      وقد قال أبو العباس بن سريج في كتابه الأقسام وابن القاص في التلخيص والقفال في شرح التلخيص : الصدغان من الوجه لكن ظاهر كلامهم أنهم أرادوا بالصدغ العذار . فإن ابن القاص قال : وإذا لم يصل الماء بشرة وجهه أجزأه إن كان شعره كثيرا إلا في أربعة مواضع : الحاجبين والشاربين والعنفقة ومواضع الصدغين . هذا لفظ ابن القاص ، ولفظ القفال مثله ، وزاد القفال بيانا فقال في أحد تعليلي ذلك : لأن الوجه أحاط بالصدغين من وجهين ; لأن البياض الذي وراء الصدغ إلى الأذن من الوجه ، وهذا تصريح بأن مرادهم بالصدغ العذار ، فبهذا علل الأصحاب غسل العذار في أحد التعليلين كما سبق . وأما نص الشافعي في البويطي فمحتمل أنه أراد بالصدغ العذار كما قال السرخسي ، وكذا تأوله البندنيجي ، فإن الشافعي قال : وإذا غسل الأمرد [ ص: 430 ] وجهه غسله كله ولحيته وصدغه إلى أصول أذنيه . وإذا غسل الملتحي وجهه غسل ما أقبل من شعر اللحية إلى وجهه وأمر الماء على الصدغ وما خلف الصدغ إلى الأذن ، فإن ترك من هذا شيئا أعاد . هذا نصه بحروفه ومن مختصر الربيع والبويطي نقلته . ونقل الروياني في البحر نصه في البويطي بحروفه ثم قال : قال أصحابنا أراد بالصدغ هنا العذار .

                                      ( قلت ) : وهذا تأويل صحيح وهو ظاهر ، ولعل سبب هذا الخلاف الاختلاف في تحقيق ضبط الصدغ وتحديده والله أعلم . وروى أبو داود بإسناد حسن عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فمسح رأسه ما أقبل منه وأدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة }




                                      الخدمات العلمية