الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) .

إذ : اسم ثنائي الوضع مبني ، لشبهه بالحرف وضعا أو افتقارا ، وهو ظرف زمان للماضي ، وما بعده جملة اسمية أو فعلية ، وإذا كانت فعلية قبح تقديم الاسم على الفعل وإضافته إلى المصدرة بالمضارع ، وعمل المضارع فيه مما يجعل المضارع ماضيا ، وهو ملازم للظرفية إلا أن يضاف إليه زمان ، ولا يكون مفعولا به ، ولا حرفا للتعليل أو المفاجأة ، ولا ظرف مكان ، ولا زائدة ، خلافا لزاعمي ذلك ، ولها أحكام غير هذا ذكرت في النحو . الملك : ميمه أصلية وهو فعل من الملك ، وهو القوة ، ولا حذف فيه ، وجمع على فعائلة شذوذا ، قاله أبو عبيدة ، وكأنهم توهموا أنه ملاك على وزن فعال ، وقد جمعوا فعالا المذكر والمؤنث على فعائل قليلا . وقيل : وزنه في الأصل فعأل نحو شمأل ثم نقلوا الحركة وحذفوا ، وقد جاء فيه ملأك ، فيحتمل أن يكون فعأ ، وعلى هذا تكون الهمزة زائدة في فاء الكلمة وعينها ، فمنهم من قال : الفاء لام ، والعين همزة ، من لاك : إذا أرسل ، وهي لغة محكية ، فملك أصله ملأك ، فخفف بنقل الحركة والحذف إلى فعل ، قال الشاعر :


فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب



فجاء به على الأصل ، وهذا قول أبي عبيدة ، واختاره أبو الفتح ، وملائكة على هذا القول مفاعلة . ومنهم من قال : الفاء همزة ، والعين لام من الألوكة ، وهي الرسالة ، فيكون على هذا أصله مألكا ، ويكون ملأك مقلوبا ، جعلت فاؤه مكان عينه ، وعينه مكان فائه ، فعلى هذا القول يكون في وزنه معلا . ومنهم [ ص: 138 ] من قال : الفاء لام والعين واو ، من لاك الشيء : أداره في فيه ، وصاحب الرسالة يديرها في فيه ، فهو مفعل من ذلك ، نحو : معاذ ، ثم حذفوا العين تخفيفا . فعلى هذا القول يكون وزنه معلا ، وملائكة على القول مفاعلة ، والهمزة أبدلت من واو كما أبدلت في مصائب . وقال النضر بن شميل : الملك لا تشتق العرب فعله ولا تصرفه ، وهو مما فات علمه . انتهى .

والتاء في الملائكة لتأنيث الجمع ، وقيل : للمبالغة ، وقد ورد بغير تاء ، قال الشاعر :


أنا خالد صلت عليك الملائك



خليفة : فعيلة ، وفعيلة تأتي بمعنى الفاعل للمبالغة ، كالعليم ، أو بمعنى المفعول كالنطيحة ، والهاء للمبالغة . السفك : الصب والإراقة ، لا يستعمل إلا في الدم ، ويقال : سفك وسفك وأسفك بمعنى ، ومضارع سفك يأتي على يفعل ويفعل . الدماء : جمع دم ، ولامه ياء أو واو محذوفة لقولهم : دميان ودموان ، وقصره وتضعيفه مسموعان من لسان العرب . والمحذوف اللام ، قيل : أصله فعل ، وقيل : فعل . التسبيح : تنزيه الله وتبرئته عن السوء ، ولا يستعمل إلا لله تعالى ، وأصله من السبح ، وهو الجري . والمسبح جار في تنزيه الله تعالى . التقديس : التطهير ، ومنه بيت المقدس والأرض المقدسة ، ومنه القدس : السطل الذي يتطهر به ، والقداس : الجمان ، قال الشاعر :


كنظم قداس سلكه متقطع



وقال الزمخشري : من قدس في الأرض : إذا ذهب فيها وأبعد .

علم : منقول من علم التي تتعدى لواحد ، فرقوا بينها وبين علم التي تتعدى لاثنين في النقل ، فعدوا تلك بالتضعيف ، وهذه بالهمزة ، قاله الأستاذ أبو علي الشلوبين ، وسيأتي الكلام عليه عند الشرح . آدم : اسم أعجمي كآزر وعابر ، ممنوع الصرف للعلمية والعجمة ، ومن زعم أنه أفعل مشتق من الأدمة ، وهي كالسمرة ، أو من أديم الأرض ، وهو وجهها ، فغير صواب ; لأن الاشتقاق من الألفاظ العربية قد نص التصريفيون على أنه لا يكون في الأسماء الأعجمية ، وقيل : هو عبري من الإدام ، وهو التراب ، ومن زعم أنه فاعل من أديم الأرض ، فجعلوه ظاهرا لعدم صرفه ، وأبعد الطبري في زعمه أنه فعل رباعي سمي به . العرض : إظهار الشيء حتى تعرف جهته . الإنباء : الإخبار ، ويتعدى فعله الواحد بنفسه والثاني بحرف جر ، ويجوز حذف ذلك الحرف ، ويضمن معنى ( أعلم ) فيتعدى إلى ثلاثة . هؤلاء : اسم إشارة للقريب ، وها : للتنبيه ، والاسم أولاء : مبني على الكسر ، وقد تبدل همزته هاء فيقال : هلاء ، وقد يبنى على الضم فيقال : أولاء ، وقد تشبع الضمة قبل اللام فيقال : أولاء ، قاله قطرب . وقد يقال : هولاء بحذف ألف ها وهمزة أولاء وإقرار الواو التي بعد تلك الهمزة ، حكاه الأستاذ أبو علي الشلوبين ، وأنشد قوله :


تجلد لا تقل هولاء هذا     بكى لما بكى أسفا عليكا



وذكر الفراء : أن المد في أولاء لغة الحجاز ، والقصر لغة تميم ، وزاد غيره أنها لغة بعض قيس وأسد ، وأنشد للأعشى :


هؤلا ثم هؤلا كلا     أعطيت نعالا محذوة بنعال



والهمزة عند أبي علي لام الفعل ، ففاؤه ولامه همزة ، وعند أبي العباس بدل من الياء وقعت بعد ألف فقلبت همزة . سبحانك : معناه تنزيهك ، وسبحان اسم وضع موضع المصدر ، وهو مما ينتصب بإضمار فعل من معناه لا يجوز إظهاره ، وهو من الأسماء التي لزمت النصب على المصدرية ، ويضاف ويفرد ، فإذا أفرد كان منونا ، نحو قول الشاعر :


سبحانه ثم سبحانا نعوذ به     وقبلنا سبح الجودي والجمد



فقيل : صرفه ضرورة ، وقيل : لجعله نكرة وغير منون ، نحو قول الشاعر :


أقول لما جاءني فخره     سبحان من علقمة الفاجر



جعله علما فمنعه الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون . وزعم بعض النحويين أنه إذا أفرد كان [ ص: 139 ] مقطوعا عن الإضافة ، فعاد إليه التنوين ، ومن لم ينونه جعله بمنزلة قبل وبعد ، وقد رد هذا القول في كتب النحو .

الحكيم : فعيل بمعنى مفعل ، من أحكم الشيء : أتقنه ومنعه من الخروج عما يريده . الإبداء : الإظهار ، والكتم : الإخفاء .

( وإذ قال ربك للملائكة ) : لم يرد في سبب نزول هذه الآيات شيء ، ومناسبتها لما قبلها أنه لما امتن عليهم بخلق ما في الأرض لهم ، وكان قبله إخراجهم من العدم إلى الوجود ، أتبع ذلك ببدء خلقهم ، وامتن عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه وجعله خليفة وإسكانه دار كرامته ، وإسجاد الملائكة تعظيما لشأنه وتنبيها على مكانه واختصاصه بالعلم الذي به كمال الذات وتمام الصفات ، ولا شك أن الإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع ، وشرف الفرع بشرف الأصل .

واختلف المعربون في ( إذ ) فذهب أبو عبيدة وابن قتيبة إلى زيادتها ، وهذا ليس بشيء ، وكان أبو عبيدة وابن قتيبة ضعيفين في علم النحو ، وذهب بعضهم إلى أنها بمعنى قد ، التقدير : وقد قال ربك ، وهذا ليس بشيء ، وذهب بعضهم إلى أنه منصوب نصب المفعول به باذكر ، أي واذكر : ( إذ قال ربك ) ، وهذا ليس بشيء ; لأن فيه إخراجها عن بابها ، وهو أنه لا يتصرف فيها بغير الظرفية ، أو بإضافة ظرف زمان إليها . وأجاز ذلك الزمخشري وابن عطية وناس قبلهما وبعدهما ، وذهب بعضهم إلى أنها ظرف . واختلفوا ؛ فقال بعضهم : هي في موضع رفع ، التقدير : ابتداء خلقكم . وقال بعضهم في موضع نصب ، التقدير : وابتداء خلقكم إذ قال ربك . وناسب هذا التقدير لما تقدم قوله : ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ، وكلا هذين القولين لا تحرير فيه ; لأن ابتداء خلقنا لم يكن وقت قول الله للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) ; لأن الفعل العامل في الظرف لا بد أن يقع فيه ، أما أن يسبقه أو يتأخر عنه فلا ; لأنه لا يكون له ظرفا . وذهب بعضهم إلى أن ( إذ ) منصوب بـ ( قال ) بعدها ، وليس بشيء ; لأن ( إذ ) مضافة إلى الجملة بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف . وذهب بعضهم إلى أن نصبها بـ ( أحياكم ) تقديره : ( وهو الذي أحياكم ) ، ( إذ قال ربك ) ، وهذا ليس بشيء ; لأنه حذف بغير دليل ، وفيه أن الإحياء ليس واقعا في وقت قول الله للملائكة ، وحذف الموصول وصلته ، وإبقاء معمول الصلة . وذهب بعضهم إلى أنه معمول لـ ( خلقكم ) من قوله تعالى : ( اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) ( إذ قال ربك ) ، فتكون الواو زائدة ، ويكون قد فصل بين العامل والمعمول بهذه الجمل التي كادت أن تكون سورا من القرآن ; لاستبداد كل آية منها بما سيقت له ، وعدم تعلقها بما قبلها التعلق الإعرابي .

التالي السابق


الخدمات العلمية