الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    49 - ( فصل )

                    الطريق الرابع والخامس الحكم بالنكول وحده ، أو به مع رد اليمين : قال الإمام أحمد رحمه الله " قدم عبد الله بن عمر إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في عبد له فقال له عثمان احلف أنك ما بعت العبد وبه عيب علمته . فأبى ابن عمر أن يحلف فرد عليه العبد " .

                    فيقول له الحاكم : إن لم تحلف وإلا قضيت عليك - ثلاثا - فإن لم يحلف قضى عليه . وهذا اختيار أصحاب أحمد . وبه قال أبو حنيفة وأصحابه .

                    وقال الأوزاعي وشريح وابن سيرين والنخعي إذا نكل ردت اليمين على المدعي فإن حلف قضي له . وهذا مذهب الشافعي ومالك وقد صوبه الإمام أحمد . واختاره أبو الخطاب وشيخنا في صورة الحكم بمجرد النكول في صورة ، كما سنذكره .

                    وهذا : قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقد روى الدارقطني من حديث نافع عن ابن عمر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب [ ص: 102 ] الحق } ، واحتج لهذا القول بأن الشارع شرع اليمين مع الشاهد الواحد كما سيأتي . فلم يكتف في جانب المدعي بالشاهد وحده ، حتى يأتي باليمين ، تقوية لشاهده . قالوا : ونكول المدعى عليه أضعف من شاهد المدعي ، فهو أولى أن يقوى بيمين الطالب . فإن النكول ليس بينة من المدعى عليه ، ولا إقرارا ، وهو حجة ضعيفة ، فلم يقو على الاستقلال بالحكم ، فإذا حلف معها المدعي قوي جانبه ، فاجتمع النكول من المدعى عليه واليمين من المدعي ، فقاما مقام الشاهدين أو الشاهد واليمين . قالوا : ولهذا لم يحكم على المرأة في اللعان بمجرد نكولها دون يمين الزوج ، فإذا حلف الزوج ، ونكلت عن اليمين ، حكم عليها : إما بالحبس حتى تقر أو تلاعن كما يقول أحمد وأبو حنيفة ، وإما بالحد كما يقول الشافعي ومالك ، وهو الراجح ; لأن الله سبحانه وتعالى إنما درأ عنها العذاب بشهادتها أربع شهادات : والعذاب المدروء عنها بالتعانها هو العذاب المذكور في قوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } وهو عذاب الحد . ولهذا ذكره معرفا فاللام العهد ، فعلم أن العذاب هو العذاب المعهود ذكره أولا . ولهذا بدئ أولا بأيمان الزوج لقوة جانبه ، ومكنت المرأة من أن تعارض إيمانه بأيمانها ، فإذا نكلت لم يكن لأيمانه ما يعارضها ، فعملت عملها ، وقواها نكول المرأة ، فحكم عليها بأيمانه ونكولها . فإن قيل : فكان من الممكن أن يبدأ بأيمانها ، فإن نكلت حلف الزوج وحدت ، كما إذا ادعى عليه حقا ، فنكل عن اليمين ، فإنها ترد على المدعي ، ويقضي له ، فهلا شرع اللعان كذلك والمرأة هي المدعى عليها ؟ بل شرعت اليمين في جانب المدعي أولا ، وهذا لا نظير له في الدعاوى .

                    قيل : لما كان الزوج قاذفا لها كان موجب قذفه أن يحد لها ، فمكن أن يدفع الحد عن نفسه بالتعانه ، ثم طولبت هي بعد ذلك بأن تقر أو تلاعن . فإن أقرت حدت ، وإن أنكرت والتعنت درأت عنها الحد بلعانها ، كما له أن يدرأ الحد عن نفسه بلعانه . وكانت البداءة به أولى لأنه مدع ، وأيمانه قائمة مقام البينة .

                    ولكن لما كانت دون الشهود الأربعة في القوة مكنت المرأة من دفعها بأيمانها . فإذا أبت أن تدفعها ترجح جانبه ، فوجب عليها الحد ، فلم تحد بمجرد التعانه ، ولا بمجرد نكولها ، بل بمجموع [ ص: 103 ] الأمرين . وأكدت الأيمان بكونها أربعا ، كما أكدت أيمان المدعين في القسامة بكونها خمسين ، ولتقوم الأيمان مقام الشهود . وفي المسألة قول ثالث ، وهو : أنه لا يقضى بالنكول ، ولا بالرد ، ولكن يحبس المدعى عليه حتى يجيب بإقرار أو إنكار يحلف معه . وهذا قول في مذهب أحمد . وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي . وهذا قول ابن أبي ليلى ، فإنه قال : لا أدعه حتى يقر أو يحلف .

                    واحتج لهذا القول بأن المدعى عليه قد وجب عليه أحد الأمرين : إما الإقرار ، وإما الإنكار : فإذا امتنع من أداء الواجب عليه عوقب بالحبس ونحوه حتى يؤديه . قالوا : وكل من عليه حق ، فامتنع من أدائه ، فهذا سبيله . والآخرون فرقوا بين الموضعين ، وقالوا : لو ترك ونكوله لأفضى إلى ضياع حقوق الناس بالصبر على الحبس . فإذا نكل عن اليمين ضعف جانب البراءة الأصلية فيه ، وقوي جانب المدعي فقوي عن اليمين . وهذا كما أنه لما قوي جانب المدعين للدم باللوث بدئ بأيمانهم ، وأكدت بالعدد . والمقصود : أن الناس اختلفوا في الحكم بالنكول على أقوال . أحدها : أنه من طرق الحكم . وهذا هو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه وقضى به شريح .

                    قال أبو عبيد : حدثنا يزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سالم بن عبد الله " أن أباه - عبد الله بن عمر - باع عبدا له بثمانمائة درهم بالبراءة ، ثم إن صاحب العبد خاصم فيه ابن عمر إلى عثمان بن عفان ، فقال عثمان لابن عمر : أحلف بالله لقد بعته وما به من داء علمته ، فأبى ابن عمر أن يحلف ، فرد عليه العبد " .

                    وقال ابن أبي شيبة ، عن شريك ، عن مغيرة ، عن الحارث ، قال : " نكل رجل عند شريح عن اليمين ، فقضى عليه ، فقال : أنا أحلف ، فقال شريح : قد قضي قضاؤك " . وهذا قول الإمام أحمد في إحدى الروايتين ، وقول أبي حنيفة .

                    والقول الثاني : أنه لا يقضى بالنكول ، بل ترد اليمين عن المدعي . فإن حلف قضى له ، وإلا صرفها . وهذا مروي عن ابن عمر وعلي ، والمقداد بن الأسود وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم .

                    فروى البيهقي وغيره من حديث مسلمة بن علقمة ، عن داود ، عن الشعبي " أن المقداد استقرض من عثمان سبعة آلاف درهم ، فلما تقاضاه ، قال : إنما هي أربعة آلاف درهم ، فخاصمه إلى عمر . فقال المقداد : أحلف أنها سبعة آلاف ، فقال عمر رضي الله عنه : أنصفك . فأبى أن يحلف ، فقال [ ص: 104 ] عمر : خذ ما أعطاك " ورواه أبو عبيد عن عفان بن مسلم عن سلمة .

                    ورواه البيهقي من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي ، قال : " اليمين مع الشاهد ، فإن لم تكن له بينة فاليمين على المدعى عليه ، إذا كان قد خالطه ، فإن نكل حلف المدعي " .

                    وذكر البيهقي أيضا من حديث سليمان بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن مسروق ، عن إسحاق بن الفرات ، عن الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم : رد اليمين على طالب الحق }

                    رواه الحاكم في " المستدرك " قلت : ومحمد بن مسروق - هذا - ينظر من هو ؟

                    وقال عبد الملك بن حبيب : حدثنا أصبغ بن الفرج ، عن ابن وهب ، عن حيوة بن شريح أن سالم بن غيلان التجيبي أخبره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من كانت له طلبة عند أحد : فعليه البينة ، والمطلوب أولى باليمين . فإن نكل حلف الطالب وأخذ } وهذا مرسل .

                    واحتج لرد اليمين بحديث القسامة وفي الاستدلال به ما فيه ، فإنه عرض اليمين على المدعين أولا ، واليمين المردودة : هي التي تطلب من المدعي ، بعد نكول المدعى عليه عنها . لكن يقال : وجه الاستدلال : أنها جعلت من جانب المدعي لقوة جانبه باللوث ، فإذا تقوى جانبه بالنكول شرعت في حقه .

                    والقول الثالث : أنه يجبر على اليمين - شاء أم أبى - بالضرب والحبس ، ولا يقضى عليه بنكول ولا برد يمين . قال أصحاب هذا القول : ولا ترد اليمين إلا في ثلاثة مواضع لا رابع لها : أحدها : القسامة .

                    والثاني : الوصية في السفر إذا لم يشهد عليها إلا الكفار . والثالث : إذا أقام شاهدا واحدا حلف معه . وهذا قول ابن حزم ومن وافقه من أهل الظاهر . قالوا : لم يأت قرآن ولا سنة ولا إجماع على القضاء بالنكول ولا باليمين المردودة . وجاء نص القرآن برد اليمين في مسألة الوصية .

                    ونص السنة بردها في مسألة القسامة ، والشاهد واليمين . فاقتصرنا على ما جاء به كتاب الله . وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم نعد ذلك إلى غيره ، وليس قول أحد حجة سوى قول المعصوم صلى الله عليه وسلم وكل من سواه : مأخوذ من قوله ومتروك .

                    [ ص: 105 ] وأما قول مالك في " الموطإ " - في باب اليمين مع الشاهد في كتاب الأقضية : أرأيت رجلا ادعى على رجل مالا ، أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه ، فإن حلف بطل ذلك عنه ، وإن أبى أن يحلف ، ونكل عن اليمين ، حلف طالب الحق : إن حقه لحق ، وثبت حقه على صاحبه ؟ فهذا ما لا خلاف فيه عند أحد من الناس ، ولا في بلد من البلدان . فبأي شيء أخذ هذا ؟ أم في أي كتاب وجده ؟ فإذا أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد ، وإن لم يكن ذلك في كتاب الله تعالى هذا لفظه .

                    قال أبو محمد بن حزم : إن كان خفي عليه قضاء أهل العراق بالنكول ، فإنه لعجيب . ثم قوله : " أذا أقر برد اليمين وإن لم يكن في كتاب الله : فليقر باليمين مع الشاهد ، وإن لم يكن في كتاب الله " فعجب آخر ; لأن اليمين مع الشاهد ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في كتاب الله .

                    قال الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } . قلت : ليس في واحد من الأمرين من عجب .

                    أما حكايته الإجماع فإنه لم يقل : لا خلاف أنه لا يحكم بالنكول بل إذا نكل ، ورد اليمين ، حكم له بالاتفاق ، فإن فقهاء الأمصار على قولين : منهم من يقول : يقضي بالنكول . ومنهم من يقول : إذا نكل ردت اليمين على المدعي فإن حلف حكم له . فهذا الذي أراد مالك رحمه الله : أنه إذا رد اليمين مع نكول المدعى عليه لم يبق فيه اختلاف في بلد من البلدان ، وإن كان فيه اختلاف شاذ .

                    وأما تعجبه من قوله " إن الشاهد واليمين ليس في كتاب الله " فتعجبه هو المتعجب منه ، فإن المانعين من الحكم بالشاهد واليمين يقولون : ليس هو في كتاب الله تعالى ، بل في كتاب الله خلافه ، وهو اعتبار الشاهدين .

                    فقال مالك رحمه الله تعالى : إذا كنتم تقضون بالنكول ، ويقضي الناس كلهم بالرد مع النكول ، وليس في كتاب الله ، فهكذا الشاهد مع اليمين يجب أن يقضي به وإن لم يكن في كتاب الله تعالى ، كما دلت عليه السنة ؟ فهذا إلزام لا محيد عنه ، والله أعلم .

                    قال ابن حزم : وأما رد اليمين على الطالب ، إذا نكل المطلوب فما كان من كتاب الله تعالى ، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فبين الأمرين فرق كما بين السماء والأرض . فيقال : بل أرشد إليه كتاب الله وسنة رسوله . أما الكتاب : فإنه سبحانه شرع الأيمان في جانب المدعي إذا احتاج إلى ذلك ، وتعذرت عليه إقامة البينة ، وشهدت القرائن بصدقه ، كما في اللعان ، وشرع عذاب المرأة بالحد بنكولها ، مع يمينه فإذا كان هذا شرعه في الحدود التي تدرأ بالشبهات ، وقد أمرنا بدرئها ما استطعنا فلأن يشرع الحكم [ ص: 106 ] بها بيمين المدعي مع نكول المدعى عليه في درهم وثوب ونحو ذلك أولى وأحرى . ولكن أبو محمد وأصحابه سدوا على نفوسهم باب اعتبار المعاني والحكم التي علق بها الشارع الحكم ، ففاتهم بذلك حظ عظيم من العلم ، كما أن الذين فتحوا على نفوسهم باب الأقيسة والعلل - التي لم يشهد لها الشارع بالقبول - دخلوا في باطل كثير ، وفاتهم حق كثير . فالطائفتان في جانب إفراط وتفريط .

                    وأما إرشاد السنة إلى ذلك : فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين في جانب المدعي إذا أقام شاهدا واحدا ، لقوة جانبه بالشاهد ، ومكنه من اليمين بغير بذل خصمه ورضاه ، وحكم له بها مع شاهده ، فلأن يحكم به باليمين التي يبذلها خصمه مع قوة جانبه بنكول خصمه أولى وأحرى . وهذا مما لا يشك فيه من له حوض في حكم الشريعة وعللها ومقاصدها . ولهذا شرعت الأيمان في القسامة في جانب المدعي ، لقوة جانبه باللوث . وهذه هي المواضع الثلاثة التي استثناها منكرو القياس . ولما كانت أفهام الصحابة رضي الله عنهم فوق أفهام جميع الأمة ، وعلمهم بمقاصد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقواعد دينه وشرعه ، أتم من علم كل من جاء بعدهم : عدلوا عن ذلك إلى غير هذه المواضع الثلاثة : وحكموا بالرد مع النكول في موضع ، وبالنكول وحده في موضع . وهذا من كمال ، فهمهم وعلمهم بالجامع والفارق والحكم والمناسبات ، ولم يرتضوا لأنفسهم عبارات المتأخرين واصطلاحاتهم وتكلفاتهم ، فهم كانوا أعمق الأمة علما ، وأقلهم تكلفا . والمتأخرون عكسهم في الأمرين .

                    فعثمان بن عفان قال لابن عمر : " أحلف بالله لقد بعت العبد وما به داء علمته " ، فأبى . فحكم عليه بالنكول ، ولم يرد اليمين في هذه الصورة على المدعي ، ويقول له : احلف أنت أنه كان عالما بالعيب ، لأن هذا مما لا يمكن أن يعلمه المدعي ، ويمكن المدعى عليه معرفته ، فإذا لم يحلف المدعى عليه لم يكلف المدعي اليمين . فإن ابن عمر كان قد باعه بالبراءة من العيوب ، وهو إنما يبرأ إذا لم يعلم بالعيب ، فقال له : " احلف أنك بعته وما به عيب تعلمه " . وهذا مما يمكن أن يحلف عليه دون المدعي ، فإنه قد تعذر عليه اليمين : أنه كان عالما بالعيب ، وأنه كتمه مع علمه به .

                    وأما أثر عمر بن الخطاب - وقول المقداد : " احلف أنها سبعة آلاف " ، فأبى أن يحلف ، فلم يحكم له بنكول عثمان - فوجهه : أن المقرض إن كان عالما بصدق نفسه وصحة دعواه ، حلف وأخذه ، وإن لم يعلم ذلك لم تحل له الدعوى بما لا يعلم صحته ، فإذا نكل عن اليمين لم يقض له بمجرد نكول خصمه . إذ خصمه قد لا يكون عالما بصحة دعواه ، فإذا قال للمدعي : إن كنت عالما بصحة دعواك فاحلف وخذ ، فقد أنصفه جد الإنصاف . [ ص: 107 ] فلا أحسن مما قضى به الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا التفصيل في المسألة هو الحق ، وهو اختيار شيخنا قدس الله روحه قال أبو محمد بن حزم ، محتجا لمذهبه : ونحن نقول : إن نكول الناكل عن اليمين في كل موضع عليه ، يوجب أيضا عليه حكما ، وهو الأدب الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل من أتى منكرا يوجب تغييره باليد . فيقال له : قد يكون معذورا في نكوله ، غير آثم به ، بأن يدعي أنه أقرضه ويكون قد وفاه ، ولا يرضى منه إلا بالجواب على وفق الدعوى . وقد يتحرج من الحلف ، مخافة موافقة قضاء وقدر ، كما روي عن جماعة من السلف .

                    فلا يجوز أن يحبس حتى يحلف . وقولهم : " إن هذا منكر يجب تغييره باليد " كلام باطل ، فإن تورعه عن اليمين ليس بمنكر ، بل قد يكون واجبا أو مستحبا أو جائزا ، وقد يكون معصية .

                    وقولهم : " إن الحلف حق قد وجب عليه ، فإذا أبى أن يقوم به ضرب حتى يؤديه " فيقال : إن في اليمين حقا له وحقا عليه . فإن الشارع مكنه من التخلص من الدعوى باليمين ، وهي واجبة عليه للمدعي ، فإذا امتنع من اليمين فقد امتنع من الحق الذي وجب عليه لغيره ، وامتنع من تخليص نفسه من خصمه باليمين . فقيل : يحبس أو يضرب ، حتى يقر أو يحلف ، وقيل : يقضى عليه بنكوله ، ويصير كأنه مقر بالمدعى . وقيل : ترد اليمين على المدعي . والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد .

                    وقول رابع بالتفصيل كما تقدم ، وهو اختيار شيخنا . وفي المسألة قول خامس : وهو أنه إذا كان المدعي متهما : ردت عليه ، وإن لم يكن متهما قضي عليه بنكول خصمه . وهذا القول : يحكى عن ابن أبي ليلى ، وله حظ في الفقه ، فإنه إذا لم يكن متهما غلب على الظن صدقه ، فإذا نكل خصمه قوي ظن صدقه ، فلم يحتج إلى اليمين . وأما إذا كان متهما لم يبق معنا إلا مجرد النكول ، فقويناه برد اليمين عليه ، وهذا نوع من الاستحسان .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية