الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1564 [ ص: 94 ] حديث تاسع لابن شهاب عن عبيد الله

مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فقال : إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير . قال ابن شهاب : لا أدري أبعد الثالثة أم الرابعة .

التالي السابق


هكذا روى مالك هذا الحديث عن ابن شهاب بهذا الإسناد وتابعه على إسناده عن ابن شهاب يونس بن يزيد ، ويحيى بن سعيد ، ورواه عقيل ، والزبيدي وابن أخي الزهري ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله أن شبلا أو شبل بن خالد المزني ، أخبره أن عبد الله بن مالك الأوسي أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة ، وذكروا الحديث ، إلا أن عقيلا وحده قال : مالك بن عبد الله الأوسي ، وقال الزبيدي وابن أخي الزهري : عبد الله بن مالك ، وكذلك قال يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن شبل ، عن حامد المزني ، عن عبد الله بن مالك الأوسي ، فجمع يونس بن يزيد [ ص: 95 ] الإسنادين جميعا في هذا الحديث وانفرد مالك فيه بإسناد واحد ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن أبي هريرة وزيد . وعند عقيل ، والزبيدي ، وابن أخي الزهري فيه أيضا إسناد واحد ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن شبل ، عن عبد الله بن مالك ، وجمع يونس الحديثين جميعا ، ورواه ابن عيينة ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن أبي هريرة ، وزيد بن خالد ، وشبل ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال : إذا زنت فاجلدوها وذكر الحديث . هكذا قال ابن عيينة في هذا الحديث . فجعل شبلا مع أبي هريرة وزيد بن خالد فأخطأ ، وأدخل إسناد حديث في آخر ولم يقم حديث شبل . قال أحمد بن زهير : سمعت يحيى بن معين يقول : شبل هذا لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ، وقال عباس : سمعت يحيى بن معين يقول : ليس لشبل صحبة ، يقال : إنه شبل بن معبد ، ويقال : شبل بن حامد ، قال : وأهل مصر يقولون : شبل بن حامد ، عن عبد الله بن مالك الأوسي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال يحيى بن معين : وهذا عندي أشبه ، لأن شبلا ليس له صحبة ، وقال محمد بن يحيى النيسابوري : جمع ابن عيينة في حديثه هذا أبا هريرة ، وزيد بن خالد ، وشبلا ، وأخطأ في ضمه شبلا إلى أبي هريرة وزيد بن خالد في هذا الحديث . قال : وإن كان عبيد الله بن عبد الله قد جمعهم في حديث الأمة ، فإنه رواه عن أبي [ ص: 96 ] هريرة وزيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن شبل ، عن عبد الله بن مالك الأوسي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فترك ابن عيينة عبد الله بن مالك وضم شبلا إلى أبي هريرة وزيد ، فجعله حديثا واحدا ، وإنما هذا حديث وذاك حديث ، قد ميزهما يونس بن يزيد ، قال : وتفرد معمر ومالك بحديث أبي هريرة ، وزيد بن خالد ، قال : وروى الزبيدي وعقيل وابن أخي الزهري حديث شبل ، فاجتمعوا على خلاف ابن عيينة .

قال أبو عمر :

هكذا قال محمد بن يحيى أن معمرا ومالكا انفردا بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد ، وأقول : أن قد تابعهما يحيى بن سعيد الأنصاري من رواية الأوسي : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال ، قال : حدثني أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، قال : قال يحيى : وأخبرني ابن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حدثه أن أبا هريرة ، وزيد بن خالد حدثاه أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسأل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن . فذكر الحديث .

قال أبو عمر :

وزعم الطحاوي أنه لم يقل أحد في هذا الحديث : ولم تحصن ، إلا مالك ، وليس كما ذكر ، لأنا قد وجدنا أن ابن عيينة قد تابعه على ذلك .

[ ص: 97 ] وكذلك في رواية يحيى بن سعيد عن ابن شهاب لهذا الحديث " إذا زنت ولم تحصن " على ما قدمنا بالإسناد المذكور ، وسائر من روى هذا الحديث عن ابن شهاب بالإسنادين جميعا ، لم يقل أحد منهم فيه : ولم تحصن ، غير مالك ، وابن عيينة ، ويحيى بن سعيد الأنصاري .

وقد روى هذا الحديث سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - لم يذكر فيه : ولم تحصن ، رواه جماعة عن سعيد بن أبي سعيد لم يذكروا ذلك فيه .

وممن رواه عن سعيد بن أبي سعيد ، الليث بن سعد ، وأسامة بن زيد ، وعبد الرحمن بن إسحاق ، وأيوب بن موسى ، وعبيد الله بن عمر ، وإسماعيل بن أمية : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى القطان ، عن عبيد الله ، يعني ابن عمر ، قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - قال : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يعيرها - ثلاث مرات - فإن عادت في الرابعة فليجلدها وليبعها بضفير أو بحبل من شعر وفي رواية إسماعيل بن أمية : إذا زنت وليدة أحدكم فتبين زناها وفي رواية أيوب بن موسى ، [ ص: 98 ] فليجلدها الحد ولا نعلم أحدا ذكر فيه الحد غيره ، وكلهم قال فيه : ولا يعيرها ولا يثرب عليها وروى هذا الحديث عن ابن شهاب ، عمارة بن أبي فروة ، وإسحاق بن راشد ، فأخطأ فيه ، قال فيه : عمارة بن أبي فروة ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، وعمرة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا زنت الأمة ، فاجلدوها وقال فيه إسحاق بن راشد عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، والطريقان جميعا خطأ ، وروى حديث عمارة ، عن الليث ، عن زيد بن أبي حبيب ، عن عمارة ، ومن أصحاب الليث بن سعد من يقول فيه : عن عروة ، عن عمرة ، عن عائشة .

وأجمع العلماء على أن الأمة إذا تزوجت فزنت ، أن عليها نصف ما على الحرة البكر من الجلد ; لقول الله عز وجل : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب والإحصان في كلام العرب على وجوه ، منها : الإسلام ، ومنها العفة ، ومنها التزويج ، ومنها الحرية ، إلا أنه في الإماء هاهنا على وجهين ، منهم من يقول : فإذا أحصن : زوجن أو تزوجن ، ومنهم من يقول : إحصانها : إسلامها ، فمن قرأ أحصن - بفتح الألف - فمعناه : تزوجن أو أسلمن على مذهب من قال ذلك ، وأما من قرأ - بضم الألف - فمعناه زوجن أي أحصن بالأزواج [ ص: 99 ] - يريد أحصنهن غيرهن - يعني الأزواج بالنكاح ، وقد قيل : أحصن بالإسلام ، فالزوج يحصنها والإسلام يحصنها ، والمعنيان متداخلان في القولين ، فممن قرأ بضم الألف وكسر الصاد في أحصن : ابن عباس وأبو الدرداء ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وطاوس ، وعكرمة ، وابن كثير ، والأعرج ، وأبو جعفر ، ونافع ، وسلام ، والقاسم ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو رجاء ، ومحمد بن سيرين ، على اختلاف عنه ، وأبو عمرو ، وقتادة ، وعيسى ، وسلام ، ويعقوب ، وأيوب بن المتوكل ، وابن عامر ، وأبو عبد الرحمن المقرئ .

واختلف في ذلك عن الحسن ، وعاصم ، فروي عنهما الوجهان جميعا . وكان ابن عباس يقول : إذا أحصن بالأزواج ، وكان يقول : ليس على الأمة حد حتى تحصن بزوج ، وروى عطية بن قيس ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء مثله . وهو مذهب كل من قرأ بهذه القراءة . وروى أهل مكة عن عمر بن الخطاب ما يضارع هذا المذهب ، روى عمرو بن دينار ، وعطاء بن أبي رباح ، عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، عن أبيه ، أنه سأل عمر بن الخطاب ، عن الأمة كم حدها ؟ فقال : ألقت فروتها وراء الدار ، قال أبو عبيد : لم يرد عمر - رحمه الله - بقوله هذا الفروة [ ص: 100 ] بعينها لأن الفروة جلدة الرأس . كذا قال الأصمعي ، وكيف تلقي جلدة رأسها من وراء الدار ، ولكن إنما أراد بالفروة القناع ، يقول : ليس عليها قناع ولا حجاب ; لأنها تخرج إلى كل موضع يرسلها أهلها إليه ، لا تقدر على الامتناع من ذلك ; ولذلك لا تكاد تقدر على الامتناع من الفجور . فكأنه رأى أن لا حد عليها إذا فجرت بهذا المعنى . قال : وقد روي تصديق هذا في حديث مفسر حدثناه يزيد عن جرير بن حازم ، عن عيسى بن عاصم ، قال : تذاكرنا يوما قول عمر هذا ، فقال سعيد بن حرملة : إنما ذلك من قول عمر في الرعايا فأما اللواتي قد أحصنهن مواليهن ، فإنهن إذا أحدثن جردن ، قال أبو عبيد : أما الحديث : فرعايا ، وأما العربية : فرواعي .

قال أبو عمر :

ظاهر حديث عمر أن لا حد على الأمة ، إلا أن تحصن بالتزويج ، وقد قيل إن معناه أن لا حد على الأمة - كانت ذات زوج أو لم تكن - لأنها لا حجاب عليها ولا قناع وإن كانت ذات زوج .

[ ص: 101 ] وقد روي عن ابن عباس : أن لا حد على عبد ولا ذمي ، وهو محتمل يحتمل التأويل ، وروي عنه أيضا : أن ليس على الأمة حد حتى تحصن بحر ، رواه ابن عيينة عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عنه . وهو قول طاوس وعطاء . روى ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه أنه كان لا يرى على العبد حدا ، إلا أن ينكح الأمة حر فيحصنها فيجب عليها شطر الجلد ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : فزنى عبد ولم يحصن ، قال : جلد غير حد .

قال أبو عمر :

هذا مذهب كل من لا يرى على الأمة حدا حتى تنكح ، أنها تؤدب وتجلد دون الحد إذا زنت . وتأولوا حديث أبي هريرة وزيد بن خالد على هذا المعنى . وممن قرأ بفتح الألف والصاد - أحصن - علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وشيبة بن نصاح ، ومسلم بن جندب ، والزهري ، وعطاء ، والشعبي ، وزر بن حبيش ، والأسود بن يزيد ، وإبراهيم النخعي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وطلحة بن مصرف ، وعيسى الكوفي ، وطلحة بن سليمان ، وخلف بن هشام ، وابن أبي ليلى ، وأبان بن ثعلب ، وعاصم الحجدري ، وعمرو بن ميمون ، والحكم بن عتيبة ، ويونس بن عبيد ، وحمزة ، والكسائي ، وابن إدريس .

[ ص: 102 ] واختلف في ذلك عن عاصم ، والحسن ، وابن سيرين ، وكل هؤلاء يرون الحد على الأمة إذا زنت . وهي مسلمة ذات زوج كانت أو غير ذات زوج خمسين جلدة ، وتأويل " أحصن " عند هؤلاء من أهل العلم على وجهين : أحدهما أسلمن ، والثاني : عففن ، وليس " عففن " بشيء ; لأنه يستحيل أن يكون : " عففن " فإن أتين بفاحشة يعني الزنا والله أعلم .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا حجاج ، قال هارون : أخبرني معمر ، عن الزهري ، قال : سألته عنها فقال تقرأ " أحصن " مفتوحة الألف ، وتفسيره على وجهين : على : أسلمن وعففن .

ورواه وهيب عن هارون فجعل التفسير من قول هارون ، قال وهيب : أخبرنا هارون عن معمر ، عن الزهري : فإذا أحصن - منصوبة - قال هارون : وتفسير هذا على وجهين : بعضهم يقول : إذا أسلمن ، وبعضهم يقول : إذا عففن .

وروى الثوري عن حماد ، عن إبراهيم : أن معقل بن مقرن المزني ، جاء إلى عبد الله بن مسعود فقال : إن جارية لي زنت ، قال : اجلدها خمسين ، قال : ليس لها زوج ، قال : إسلامها إحصانها . وروى أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه أنه كان يقرأ فإذا أحصن يقول : فإذا أسلمن .

[ ص: 103 ] وروى أهل المدينة عن عمر بن الخطاب ما وافق هذا المعنى وهو أصح إن شاء الله .

رواه يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سليمان بن يسار ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، قال : أحدث ولائد من رقيق الإمارة ، فأمر بهن عمر بن الخطاب ، وأمر شبابا من شباب قريش فجلدوهن الحد ، قال : فكنت فيمن جلدوهن . رواه عن يحيى بن سعيد . مالك ، وابن جريج ، وابن عيينة ، وغيرهم ، وروى معمر عن الزهري : أن عمر بن الخطاب جلد ولائد من الخمس أبكارا في الزنا .

قال أبو عمر :

فهذا خلاف حديث ألقت فروتها من وراء الدار عن عمر وهو أثبت . واختلف عن أنس في هذه المسألة ، فروى سلام بن مسكين ، عن حبيب بن أبي فضالة ، عن صالح بن كريز ، عن أنس أنه قال في أمة له : لا تجلدوها ، وما كان عليك من ذنب فعلي .

وروى هشيم ، عن داود ، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس قال : شهدت أنس بن مالك يضرب إماءه الحد إذا زنين - تزوجن أو لم يتزوجن - وروى معمر عن الزهري ، عن سالم ، ابن عمر في الأمة إذا زنت ، قال : إذا [ ص: 104 ] كانت ليست ذات زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصنات من العذاب ، وإن كانت ذات زوج رفع أمرها إلى السلطان .

قال أبو عمر :

ظاهر قول الله عز وجل يقضي أن لا حد على الأمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج ، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن ، فكان ذلك زيادة بيان .

قال الله عز وجل : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات فوصفهن بالإيمان ثم قال : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة .

والإحصان : التزويج هاهنا ، لأن ذكر الإيمان قد تقدم ، ثم جاءت السنة في الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فقيل : جلد دون الحد ، وقيل : بل الحد ويكون زيادة بيان كنكاح المرأة على عمتها وخالتها ، ونحو ذلك مما يطول ذكره . وقد مضى مكررا هذا المعنى في غير موضع من كتابنا هذا والحمد لله . قال الزهري : مضت السنة أن يحد العبد والأمة أهلوهم في الزنا ، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان ، فليس لأحد أن يفتات عليه .

[ ص: 105 ] قال أبو عمر :

روى الثوري عن عبد الأعلى ، عن ميسرة ، عن علي ، أن النبي - عليه السلام - قال : أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم .

واختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث ، فقال مالك : يحد المولى عبده وأمته في الزنا وشرب الخمر والقذف ، إذا شهد عنده الشهود ، ولا يقطعه في السرقة ، وإنما يقطعه الإمام . وهو قول الليث ، وقال أبو حنيفة : يقيم الحدود على العبيد والإماء السلطان دون المولى في الزنا وفي سائر الحدود . وهو قول الحسن بن حي ، وقال الثوري في رواية الأشجعي عنه : يحده المولى في الزنا ، وهو قول الأوزاعي ، وقال الشافعي : : يحده المولى في كل حد ، ويقطعه وحجته قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها . وقوله - صلى الله عليه وسلم - أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم .

وروي عن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا الحدود على عبيدهم ، منهم ابن عمر ، وابن مسعود ، وأنس ، ولا مخالف لهم من الصحابة ، وروي عن ابن أبي ليلى قال : أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم .

وحجة أبي حنيفة ومن قال بقوله ، ما روي عن الحسن ، وعبد الله بن محيريز ، ومسلم بن يسار ، أنهم قالوا : الجمعة والزكاة والحدود والفيء والحكم ، إلى السلطان ، وروي عن الأعمش أنه ذكر له إقامة عبد الله بن مسعود حدا بالشام ، فقال الأعمش : هم أمراء حيثما كانوا .

[ ص: 105 ] وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديثنا المذكور في هذا الباب : ثم ليبعها ولو بضفير . فهذا على وجه الاختيار والحض على مباعدة الزانية ، لما في ذلك من الاطلاع ربما على المنكر والمكروه ، ومن العون على الخبث . قالت أم سلمة : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث . وتفسيره عند أهل العلم أولاد الزنا .

وقد احتج بهذا الحديث من لم ير نفي الإماء بعد إقامة الحد عليهن ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها . ولم يقل : فانفوها ، وقد تقدم اختلاف العلماء في نفي الزناة في الباب قبل هذا والحمد لله .

وأجمع الفقهاء أن الأمة الزانية ليس بيعها بواجب لازم على ربها ، وإن اختاروا له ذلك ، وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها إذا زنت في الرابعة ، منهم داود وغيره .

وفي هذا الحديث دليل على أن التغابن في البيع ، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ما له القدر الكبير بالتافه اليسير ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك . واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك ، فقال قوم : إذا عرف قدر ذلك جاز ، كما تجوز الهبة لو وهب . وقال آخرون : عرف قدر ذلك أو لم يعرف ، فهو جائز إذا كان رشيدا حرا بالغا .

[ ص: 107 ] والحجة لمن ذهب هذا المذهب قوله - صلى الله عليه وسلم - : دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ، ولا يبع حاضر لباد . وسنوضح هذا المعنى في أولى المواضع به من كتابنا هذا إن شاء الله . والضفير : الحبل ، قيل : من سعف النخيل ، وقيل : حبل الشعر ، والله أعلم بالصواب .




الخدمات العلمية