الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1078 [ ص: 49 ] حديث خامس لابن شهاب عن عبيد الله - مسند

مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة ميتة كان أعطاها مولى لميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألا انتفعتم بجلدها ؟ فقالوا : يا رسول الله إنها ميتة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما حرم أكلها .

التالي السابق


هكذا روى يحيى هذا الحديث ، فجود إسناده أيضا وأتقنه ، وتابعه على ذلك ابن وهب ، وابن القاسم والشافعي ، وابن بكير ، وجويرية ، ومحمد بن الحسن ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ، والصحيح فيه اتصاله وإسناده . وكذلك رواه معمر ويونس والزبيدي وعقيل ، كلهم عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل رواية يحيى ومن تابعه ، عن مالك سواء . وكان ابن عيينة يقول مرارا كذلك ، ومرارا يقول فيه : عن ابن عباس ، عن ميمونة . وكذلك رواه سليمان بن كثير ، عن [ ص: 50 ] الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة قالت : أعطيت مولاة لي من الصدقة - فذكر الحديث وزاد : ودباغ إهابها طهورها . واتفق معمر ، ومالك ، ويونس ، على قوله : إنما حرم أكلها - إلا أن معمرا قال : لحمها ، وذلك سواء ولم يذكر واحد منهم الدباغ . وكان ابن عيينة يقول : لم أسمع أحدا يقول : إنما حرم أكلها إلا الزهري . واتفق الزبيدي وعقيل وسليمان بن كثير على ذكر الدباغ في هذا الحديث ، عن الزهري وكان ابن عيينة مرة يذكره فيه ومرة لا يذكره ، ومرة يجعل الحديث عن ابن عباس عن ميمونة ، ومرة عن ابن عباس فقط . قال محمد بن يحيى النيسابوري : لست أعتمد في هذا الحديث على ابن عيينة لاضطرابه فيه . قال : وأما ذكر الدباغ فيه ، فلا يوجد إلا من رواية يحيى بن أيوب ، عن عقيل ، ومن رواية بقية عن الزبيدي ، ويحيى وبقية ليسا بالقويين ، ولم يذكر مالك ، ولا معمر ، ولا يونس الدباغ ، وهو الصحيح في حديث الزهري ، وبه كان يفتي . قال : وأما رواية غير الزهري ، فذلك محفوظ صحيح عن ابن عباس . قال أبو عمر : قد ذكرنا في باب زيد بن أسلم رواية ابن وعلة وعطاء ، وابن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : دباغ الإهاب [ ص: 51 ] طهوره . وذكرنا هناك في هذا الباب من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما قاله العلماء في ذلك ، ووجوه اختلافهم فيما اختلفوا فيه من هذا الباب ، بأبسط ما يكون من القول وأعظمه فائدة والحمد لله ، وكل ما يجب من القول في هذا الباب فقد مضى ممهدا بما للعلماء في ذلك من المذاهب في باب زيد بن أسلم ، ابن وعلة ، فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا . والقول الذي قاله النيسابوري عن ابن عيينة ، من اضطرابه عن الزهري في هذا الحديث ، قد قاله غيره عن ابن شهاب ، واضطراب ابن شهاب في هذا الحديث وفي حديث ذي اليدين ، كثير جدا ، وهذا الحديث من غير رواية ابن شهاب أصح ، وثبوت الدباغ في جلود الميتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة صحاح ثابتة قد ذكرناها في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، وبينا الحجة على من أنكر الدباغ ، بما فيه كفاية من جهة النظر والأثر وبالله التوفيق . وفي الباب قبل هذا في قصة الفأرة تقع في السمن ، ما يدخل في معنى هذا الباب ويفسر المنع من بيع ما لا يحل أكله ، ويقضي على أن المأكول كله من الميتة حرام ، وفي ذلك كشف معنى قوله في هذا الحديث : إنما حرم أكلها . ومعلوم أن العظم حكمه حكم اللحم ، لأنه لا يقطع ولا ينزع من البهيمة - وهي حية - كما يصنع بالصوف ، وإنما يحرم بالموت ما حرم قطعه من الحي ، ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما قطع من حي فهو ميتة . [ ص: 52 ] وأجمع العلماء على أن جز الصوف عن الشاة - وهي حية - حلال ، وفي هذا بيان ما ذكرنا . وأما قوله عليه الصلاة والسلام : لا تنتفعوا من الميتة بإهاب . فإن معناه حتى يدبغ ، بدليل أحاديث الدباغ ، وقد أوضحنا هذا في باب زيد بن أسلم والحمد لله . ومن أجاز عظم الميتة كالعاج وشبهه في الأمشاط وغيرها ، زعم أن الميتة ما جرى فيه الدم ، وليس كذلك العظم ، واحتجوا بقوله في هذا الحديث : إنما حرم أكلها . وليس العظم مما يؤكل . قالوا : فكل ما لا يؤكل من الميتة جائز الانتفاع به ، لقوله : إنما حرم أكلها وممن رخص في أمشاط العاج وما يصنع من أنياب الفيلة ، وعظام الميتة ، ابن سيرين ، وعروة بن الزبير ، وأبو حنيفة وأصحابه ، قالوا : تغسل وينتفع بها ، وتباع وتشترى ، وبه قال الليث بن سعد ، إلا أنه قال : تغلى بالماء والنار حتى يذهب ما فيها من الدسم . وممن كره العاج وسائر عظام الميتة ، ولم يرخص في بيعها ولا الانتفاع بها عطاء ، وطاوس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومالك بن أنس ، والشافعي ، واختلف فيها عن الحسن البصري . [ ص: 53 ] ومن حجتهم أن الميتة محرمة بالكتاب والسنة المجتمع عليهما ، والعظم ميتة بدليل قوله تعالى من يحيي العظام وهي رميم وأنه لا يؤخذ من الحي ، ولهم في ذلك ما يطول ذكره .




الخدمات العلمية