الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1161 حديث سادس لإسحاق ، عن أنس مسند

مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، أنه سمع أنس بن مالك يقول : إن خياطا دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعه ، قال أنس : فذهبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك الطعام ، فقرب إليه خبزا من شعير ومرقا فيه دباء ، قال أنس : فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتتبع الدباء من حول القصعة ، فلم أزل أحب الدباء بعد ذلك اليوم .

التالي السابق


هكذا هذا الحديث في الموطأ عند جميع رواته فيما علمت بهذا الإسناد ، وزاد بعضهم فيه ذكر القديد ، وسنذكره في هذا الباب إن شاء الله .

[ ص: 272 ] أدخل مالك رحمه الله هذا الحديث في باب الوليمة للعرس ، ويشبه أن يكون وصل إليه من ذلك علم ، وقد روي عنه نحو هذا ، وليس في ظاهر الحديث ما يدل على أنها وليمة عرس ، وإجابة الدعوة عندي واجبة إذا كان طعام الداعي مباحا أكله ، ولم يكن هناك شيء من المعاصي وجوب سنة لا ينبغي لأحد تركها في وليمة العرس وغيرها ، وإتيان طعام وليمة العرس عندي أوكد لقول أبي هريرة : ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله ، على أنه يحتمل - والله أعلم - من لم ير إتيان الدعوة فقد عصى الله ورسوله ، وهذا أحسن وجه حمل عليه هذا الحديث إن شاء الله .

وقد اختلف فيما يجب الإجابة إليه من الدعوات ، فذهب مالك ، والثوري إلى أن إجابة الوليمة واجب دون غيرها ، وخالفهم في ذلك غيرهم ، وسنذكر اختلافهم في ذلك في باب ابن شهاب ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة عند قوله " شر الطعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك المساكين ، ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله " إن شاء الله .

والصحيح عندنا ما ذكرنا أن إجابة الدعوة سنة مؤكدة مندوب إليها لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أهدي إلي كراع لقبلت ، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت رواه شعبة ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجيبوا الدعوة إذا دعيتم رواه أيوب السختياني ، وموسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 273 ] وروى عبيد الله بن عمر ، ومالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها زاد عبيد الله في حديثه " فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليدع " قال : وكان ابن عمر إذا دعي أجاب ، فإن كان صائما ترك ، وإن كان مفطرا أكل ، فإن قيل ليس في حديث أيوب ، وموسى بن عقبة حجة ; لأن لفظ حديثهما مجمل وقد فسر بحديث مالك ، وعبيد الله ، فكأنه قال : أجيبوا الدعوة إلى الوليمة إذا دعيتم - قيل له : قد رواه معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، فقال فيه : عرسا كان أو غيره ، ذكره عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا دعا أحدكم أخاه فليجبه عرسا كان أو غيره وذكر أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا عبد الرزاق بإسناده مثله ، وقال " عرسا كان أو دعوة " قال أبو داود : وكذلك رواه الزبيدي ، عن نافع مثل حديث معمر ، عن أيوب ، ومعناه سواء ، وهذا قاطع لموضع الخلاف ، وروى الأعمش ، عن شقيق ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية ولا تضروا المسلمين وقد ذهب أهل الظاهر إلى إيجاب إتيان كل دعوة وجوب فرض بظاهر هذه الأحاديث ، وحملها سائر أهل العلم على الندب للتآلف والتحاب .

وقد احتج بعض من لا يرى إتيان الدعوة إذا لم يكن عرسا بقول عثمان بن أبي العاص " ما كنا ندعى إلى الختان ولا نأتيه " وهذا لا حجة [ ص: 274 ] فيه ، وقال بعضهم : إنما يجب إتيان طعام القادم من سفر ، وطعام الختان وطعام الوليمة ، والحجة قائمة بما قدمنا من الآثار الصحاح التي نقلها الأئمة متصلة إلى النبي عليه السلام ، وهي على عمومها لا تخص دعوة من دعوة .

أخبرني خلف بن القاسم قال : حدثنا جعفر بن محمد بن الفضل البغدادي قال : حدثنا محمد بن العباس قال : حدثنا محمد بن أحمد بن أبي المثنى قال : حدثنا جعفر بن عون قال : حدثنا سليمان الشيباني أبو إسحاق ، عن أشعث بن أبي الشعثاء ، عن معاوية بن سويد بن مقرن ، عن البراء بن عازب قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع ، أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنائز وإفشاء السلام وإجابة الداعي وتشميت العاطس ونصر المظلوم وإبرار القسم ، ونهانا عن الشراب في الفضة فإنه [ ص: 275 ] من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة ، وعن التختم بالذهب وعن ركوب المياثر وعن لباس القسي والحرير والديباج والإستبرق .

قال البراء : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ، فذكر منها إجابة الداعي ، وذكر منها أشياء منها ما هو فرض على الكفاية ومنها ما هو واجب وجوب سنة ، فكذلك إجابة الدعوة ، والله نسأله العصمة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن محمد البرتي قال : حدثنا أبو معمر قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه - قال : إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل يقول : فليدع .

قال أبو عمر : قد جاء في هذا الحديث مع صحة إسناده " إلى طعام " لم يخص طعاما من طعام ، وحدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا وهب بن مسرة قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعي أحدكم فليجب ، فإن شاء أكل وإن شاء ترك وهذا أيضا على عمومه .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر [ ص: 276 ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه - أجيبوا الدعوة إذا دعيتم وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا إبراهيم بن حمزة ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أجيبوا الدعوة إذا دعيتم لها وهذا أيضا على عمومه سنة مسنونة ، وبالله التوفيق .

قال أبو عمر : زاد القعنبي وابن بكير في حديث مالك هذا ، عن إسحاق ، عن أنس ذكر القديد ، فقال : بطعام فيه دباء وقديد ، وتابعهما على ذلك قوم ، منهم أبو نعيم إلا أنه اختصر ألفاظا من هذا الحديث ، أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بمرق فيه دباء وقديد ، فرأيته يتبع الدباء يأكله .

وفي هذا الحديث أيضا إباحة إجالة اليد في الصحفة ، وهذا عند أهل العلم على وجهين : أحدهما أن ذلك لا يحسن ولا يجمل إلا بالرئيس ورب البيت ، والآخر أن المرق والإدام وسائر الطعام إذا كان فيه نوعان أو أنواع فلا بأس أن تجول اليد فيه للتخير مما وضع في المائدة والصحفة من صنوف الطعام ؛ لأنه لذلك قدم ، ليأكل كل ما أراد ، وهذا كله مأخوذ من هذا الحديث ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالت يده في الصحفة يتبع الدباء ، فكذلك سائر الرؤساء ، ولما كان [ ص: 277 ] في الصحفة نوعان ، وهما اللحم والدباء ، حسن بالآكل أن تجول يده فيما اشتهى من ذلك بدليل هذا الحديث ، ولا يجوز ذلك على غير هذين الوجهين لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أبي سلمة سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك .

وإنما أمره أن يأكل مما يليه ; لأن الطعام كله كان نوعا واحدا ، والله أعلم ، كذلك فسره أهل العلم .

وفيه أيضا ما كان القوم عليه من شظف العيش في أكل الشعير وما أشبهه ، وما كانوا عليه من المواساة وإطعام الطعام مع ما كانوا فيه من هذه الحال ، وقد روي أنهم كانوا يكثرون طعامهم بالدباء .

ذكر الحميدي عن سفيان قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن حكيم بن جابر الأحمسي ، عن أبيه ، قال : دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت عنده الدباء ، فقلت : ما هذا ؟ فقال : نكثر به طعامنا .

ومن صريح الإيمان حب ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه ، واتباع ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله . صلى الله عليه ، ألا ترى إلى قول أنس " فلم أزل أحب الدباء بعد ذلك اليوم " .

[ ص: 278 ] حدثنا خلف بن قاسم بن سهل قال : حدثنا أبو الطاهر محمد بن عبد الله القاضي بمصر ، قال : حدثنا موسى بن هارون بن عبد الله الحمال قال : حدثنا محمد بن عباد قال : حدثنا سفيان - يعني ابن عيينة - عن مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبع الدباء في القصعة ، فلا أزال أحبه ، ورواه جماعة من أصحاب ابن عيينة عنه ، عن مالك بإسناده هذا .




الخدمات العلمية