الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 267 ]

                          فصل

                          بيان في استعمال " اللفظ " والمراد به دلالة المعنى على المعنى

                          310- ومن الصفات التي تجدهم يجرونها على " اللفظ " ثم لا تعترضك شبهة ولا يكون منك توقف في أنها ليست له ولكن لمعناه قولهم : لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه . ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك- وقولهم : " يدخل في الأذن بلا إذن " فهذا مما لا يشك العاقل في أنه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى وأنه لا يتصور أن يراد به دلالة اللفظ على معناه الذي وضع له في اللغة، ذاك لأنه لا يخلو السامع من أن يكون عالما باللغة وبمعاني الألفاظ التي يسمعها أو يكون جاهلا بذلك، فإن كان عالما لم يتصور أن يتفاوت حال الألفاظ معه فيكون معنى لفظ أسرع إلى قلبه من معنى لفظ آخر، وإن كان جاهلا كان ذلك في وصفه أبعد، وجملة الأمر أنه إنما يتصور أن يكون لمعنى أسرع فهما منه لمعنى آخر إذا كان ذلك مما يدرك بالفكر، وإذا كان مما يتجدد له العلم به عند سمعه للكلام . وذلك محال في دلالات الألفاظ اللغوية لأن طريق معرفتها التوقيف والتقدم بالتعريف .

                          311- وإذا كان ذلك كذلك، علم علم الضرورة أن مصرف ذلك إلى دلالات المعاني على المعاني، وأنهم أرادوا أن من شرط البلاغة أن يكون المعنى الأول الذي تجعله دليلا على المعنى الثاني ووسيطا بينك وبينه متمكنا في دلالته مستقلا بوساطته، يسفر بينك وبينه أحسن سفارة ويشير لك إليه [ ص: 268 ] أبين إشارة حتى يخيل إليك أنك فهمته من حاق اللفظ، وذلك لقلة الكلفة فيه عليك، وسرعة وصوله إليك، فكان من الكناية مثل قوله :


                          لا أمتع العوذ بالفصال ولا أبتاع إلا قريبة الأجل



                          ومن الاستعارة مثل قوله :


                          وصدر أراح الليل عازب همه     تضاعف فيه الحزن من كل جانب



                          ومن التمثيل مثل قوله :


                          لا أذود الطير عن شجر     قد بلوت المر من ثمره



                          312- وإن أردت أن تعرف ما حاله بالضد من هذا، فكان منقوص القوة في تأدية ما أريد منه، لأنه يعترضه ما يمنعه أن يقضي حق السفارة فيما بينك وبين معناك، ويوضح تمام الإيضاح عن مغزاك، فانظر إلى قول العباس بن الأحنف :


                          سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا     وتسكب عيناي الدموع لتجمدا



                          [ ص: 269 ]

                          بدأ فدل بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد فأحسن وأصاب لأن من شأن البكاء أبدا أن يكون أمارة للحزن وأن يجعل دلالة عليه وكناية عنه كقولهم : " أبكاني وأضحكني " على معنى " ساءني وسرني " وكما قال :


                          أبكاني الدهر ويا ربما     أضحكني الدهر بما يرضي



                          ثم ساق هذا القياس إلى نقيضه، فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله: " لتجمدا " . وظن أن الجمود يبلغ له في إفادة المسرة والسلامة من الحزن ما بلغ سكب الدمع في الدلالة على الكآبة والوقوع في الحزن . ونظر إلى أن الجمود خلو العين من البكاء وانتفاء الدموع عنها . وأنه إذا قال : " لتجمدا " فكأنه قال : أحزن اليوم لئلا أحزن غدا، وتبكي عيناي جهدهما لئلا تبكيا أبدا . وغلط فيما ظن، وذاك أن الجمود هو أن لا تبكي العين مع أن الحال حال بكاء . ومع أن العين يراد منها أن تبكي ويستراب في أن لا تبكي، ولذلك لا ترى أحدا يذكر عينه بالجمود إلا وهو يشكوها ويذمها وينسبها إلى البخل، ويعد امتناعها من البكاء تركا لمعونة صاحبها على ما به من الهم، ألا ترى إلى قوله :


                          ألا إن عينا لم تجد يوم واسط     عليك بجاري دمعها لجمود



                          [ ص: 270 ]

                          فأتى بالجمود تأكيدا لنفي الجود، ومحال أن يجعلها لا تجود بالبكاء . وليس هناك التماس بكاء، لأن الجود والبخل يقتضيان مطلوبا يبذل أو يمنع ، ولو كان الجمود يصلح لأن يراد به السلامة من البكاء، ويصح أن يدل به على أن الحال حال مسرة وحبور، لجاز أن يدعى به للرجل فيقال : " لا زالت عينك جامدة " كما يقال : " لا أبكى الله عينك " . وذاك مما لا يشك في بطلانه .

                          وعلى ذلك قول أهل اللغة : " عين جمود لا ماء فيها وسنة جماد لا مطر فيها " وناقة جماد لا لبن فيها " . وكما لا تجعل السنة والناقة جمادا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر، والناقة لا تسخو بالدر . كذلك حكم العين لا تجعل " جمودا " إلا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها، وما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأن قد جادت وسخت . وإذا لم تبك مسيئة موصوفة بأن قد ضنت وبخلت.

                          313- فإن قيل : إنه أراد أن يقول : " إني اليوم أتجرع غصص الفراق، وأحمل نفسي على مره، وأحتمل ما يؤديني إليه من حزن يفيض الدموع من عيني ويسكبها، لكي أتسبب بذلك إلى وصل يدوم ومسرة تتصل، حتى لا أعرف بعد ذلك الحزن أصلا، ولا تعرف عيني البكاء، وتصير في أن لا ترى باكية أبدا، كالجمود التي لا يكون لها دمع.

                          فإن ذلك لا يستقيم ويستتب لأنه يوقعه في التناقض ويجعله كأنه قال : " أحتمل البكاء لهذا الفراق عاجلا، لأصير في الآجل بدوام الوصل واتصال السرور في صورة من يريد من عينه أن تبكي ثم لا تبكي، لأنها خلقت جامدة لا ماء فيها " . وذلك من التهافت والاضطراب بحيث لا تنجع الحيلة فيه.

                          [ ص: 271 ] وجملة الأمر أنا لا نعلم أحدا جعل جمود العين دليل سرور وأمارة غبطة، وكناية عن أن الحال حال فرح .

                          فهذا مثال فيما هو بالضد مما شرطوا- من أن لا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك لأنك ترى اللفظ يصل إلى سمعك، وتحتاج إلى أن تخب وتوضع في طلب المعنى .

                          ويجري لك هذا الشرح والتفسير في " النظم " كما جرى في " اللفظ " لأنه إذا كان النظم سويا، والتأليف مستقيما، كان وصول المعنى إلى قلبك تلو وصول اللفظ إلى سمعك . وإذا كان على خلاف ما ينبغي وصل اللفظ إلى السمع وبقيت في المعنى تطلبه وتتعب فيه . وإذا أفرط الأمر في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا : " إنه يستهلك المعنى ".

                          314- واعلم أن لم تضق العبارة ولم يقصر اللفظ ولم ينغلق الكلام في هذا الباب إلا لأنه قد تناهى في الغموض والخفاء إلى أقصى الغايات، وأنك لا ترى أغرب مذهبا وأعجب طريقا وأحرى بأن تضطرب فيه الآراء منه . وما قولك في شيء قد بلغ من أمره أن يدعى على كبار العلماء أنهم لم يعلموه ولم يفطنوا له؟ فقد ترى أن البحتري قال حين سئل عن مسلم وأبي نواس : أيهما أشعر؟ فقال : أبو نواس : فقيل : فإن أبا العباس ثعلبا لا يوافقك على هذا . فقال : ليس هذا من شأن ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون [ ص: 272 ] عمله، إنما يعلم ذلك من دفع في مسلك طريق الشعر إلى مضايقه وانتهى إلى ضروراته.

                          315- ثم لم ينفك العالمون به والذين هم من أهله من دخول الشبهة فيه عليهم، ومن اعتراض السهو والغلط لهم . روي عن الأصمعي أنه قال : كنت أشدو من أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر . وكانا يأتيان بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ ، ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له، حتى يأتي وقت الزوال ، ثم ينصرفان . وأتياه يوما فقالا : ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة قال : هي التي بلغتكم . قالوا : بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب . قال : نعم، بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف . قالوا : فأنشدناها يا أبا معاذ . فأنشدهما :


                          بكرا صاحبي قبل الهجير     إن ذاك النجاح في التبكير



                          حتى فرغ منها، فقال له خلف : لو قلت يا أبا معاذ مكان " إن ذاك النجاح في التبكير " :

                          [ ص: 273 ]


                          بكرا فالنجاح في التبكير



                          كان أحسن . فقال بشار : إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت : " إن ذاك النجاح في التبكير " كما يقول الأعراب البدويون . ولو قلت : " بكرا فالنجاح " كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذاك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة . قال : فقام خلف فقبل بين عينيه " . فهل كان هذا القول من خلف والنقد على بشار ، إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه ؟

                          " إن " تغني غناء " الفاء " في ربط الجملة بما قبلها

                          316- واعلم أن من شأن " إن " : إذا جاءت على هذا الوجه أن تغني غناء " الفاء " العاطفة مثلا، وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا . فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف ومقطوعا موصولا معا . أفلا ترى أنك لو أسقطت " إن " من قوله : " إن ذاك النجاح في التبكير " لم تر الكلام يلتئم ولرأيت الجملة الثانية لا تتصل بالأولى، ولا تكون منها بسبيل حتى تجيء بالفاء فتقول : " بكرا صاحبي قبل الهجير، فذاك النجاح في التبكير " ومثله قول بعض العرب :


                          فغنها وهي لك الفداء     إن غناء الإبل الحداء



                          فانظر إلى قوله : " إن غناء الإبل الحداء " وإلى ملاءمته الكلام قبله، وحسن تشبثه به، وإلى حسن تعطف الكلام الأول عليه . ثم انظر إذا تركت [ ص: 274 ] " إن " فقلت : فغنها وهي لك الفداء، غناء الإبل الحداء، كيف تكون الصورة؟ وكيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر؟ وكيف يشئم هذا ويعرق ذاك؟ حتى لا تجد حيلة في ائتلافهما حتى تجتلب لهما " الفاء " فتقول : فغنها وهي لك الفداء، فغناء الإبل الحداء " ثم تعلم أن ليست الألفة بينهما من جنس ما كان، وأن قد ذهبت الأنسة التي كنت تجد، والحسن الذي كنت ترى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية