الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1382 حديث ثان لابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن مرسل يتصل من وجوه .

مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أيما رجل باع متاعا ، فأفلس الذي ابتاعه ، ولم يقض الذي باعه من ثمنه شيئا ، فوجده بعينه فهو أحق به ، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء .

[ ص: 406 ]

التالي السابق


[ ص: 406 ] هكذا هو في جميع الموطآت التي رأينا ، وكذلك رواه جميع الرواة عن مالك فيما علمنا مرسلا إلا عبد الرزاق ، فإنه رواه عن مالك ، عن ابن شهاب ( ، عن أبي بكر ) ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسنده ، وقد اختلف في ذلك ( عن ) عبد الرزاق .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن قاسم ، قال : حدثنا مالك بن عيسى ، قال : حدثنا عبد الله بن بركة الصنعاني ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أيما رجل باع متاعا ، فأفلس المبتاع ، ولم يقبض من الثمن شيئا ، فإن وجد البائع سلعته بعينها ، فهو أحق بها ، وإن مات المشتري فهو أسوة الغرماء .

وكذلك رواه محمد بن علي ، ، وإسحاق بن إبراهيم بن جوى الصنعانيان ، عن عبد الرزاق ، عن مالك بهذا الإسناد ، مسندا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه محمد بن يوسف الحذامي ، وإسحاق بن إبراهيم البيري ، عن عبد الرزاق ، عن [ ص: 407 ] مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا كما في الموطإ ليحيى وغيره .

وذكر الدارقطني أنه قد تابع عبد الرزاق على إسناده عن مالك أحمد بن موسى ، وأحمد بن أبي طيبة ، وإنما هو في الموطإ مرسل .

قال أبو عمر : واختلف أصحاب ابن شهاب عليه في هذا الحديث أيضا نحو الاختلاف على مالك ، فرواه صالح بن كيسان ، ويونس بن يزيد ، ومعمر بن راشد ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( مرسلا كما ) في الموطإ ، ورواه موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسندا حدث به هشام بن عمار ، عن إسماعيل بن عياش ، عن موسى بن عقبة ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أيما رجل باع سلعة ، فوجدها بعينها عند رجل قد أفلس ، ولم يكن قبض من ثمنها شيئا ، فهي له ، وإن كان قبض من ثمنها شيئا ، فهو أسوة الغرماء ذكره بقي ( بن مخلد ) ، ومحمد بن يحيى النيسابوري ، وغيرهما عن هشام هكذا .

وإسماعيل بن عياش فيما روى عن أهل المدينة ليس بالقوي ، ورواه الزبيدي ، واسمه محمد بن الوليد حمصي يكنى أبا الهذيل ، عن [ ص: 408 ] الزهري ، عن أبي بكر ، عن أبي هريرة مسندا ، كما رواه موسى بن عقبة حدث به عبد الله بن عبد الجبار الخبائري ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن الزبيدي ذكر أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن عوف الطائي ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد الجبار الخبائري ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن الزبيدي فذكره .

وذكره ابن الجارود : حدثنا محمد بن عوف : حدثنا عبد الله بن عبد الجبار : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن موسى بن عقبة ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أيما رجل باع سلعة ، وأدرك سلعته بعينها عند رجل أفلس ، ولم يقبض من ثمنها شيئا ( فهي له ، وإن كان قضاه من ثمنها شيئا ) فهو أسوة الغرماء .

فجمع إسماعيل بن عياش حديث موسى بن عقبة وحديث الزبيدي جميعا ، وإنما ذكر أبو داود روايته عن الزبيدي ; لأنه من أهل بلده وحديثه عند ( أكثر ) أهل العلم بالحديث ، وحديثه عن غير أهل بلده فيه تخليط كثير ، فهم لا يقبلونه ، وفي رواية الزبيدي [ ص: 409 ] بعد قوله : فإن كان قضاه من ثمنها شيئا ، فما بقي فهو أسوة الغرماء قال ، وأيما امرئ هلك ، وعنده متاع امرئ بعينه اقتضى منه شيئا أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء .

قال : وقد روى هذا الحديث عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، وهو خطأ ، والله أعلم .

وإنما يحفظ للزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن لا عن أبي سلمة .

أخبرنا سعيد بن عثمان : حدثنا أحمد بن دحيم : حدثنا أبو عروبة الحسين بن محمد الحراني : حدثنا عمرو بن عثمان : حدثنا اليمان بن عدي ، قال : أخبرنا الزبيدي ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أيما رجل أفلس ، وعنده مال امرئ بعينه ، اقتضى منه شيئا أو لم يقتض منه شيئا ، فهو أسوة الغرماء .

قال أبو عمر : ليس هذا الحديث محفوظا من رواية أبي سلمة ، وإنما هو معروف لأبي بكر بن عبد الرحمن ، وقد تكون رواية من أسنده عن ابن شهاب ، عن أبي بكر ، عن أبي هريرة صحيحة ; لأن يحيى بن سعيد يروي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن [ ص: 410 ] أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ( بن هشام ) ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التفليس مثله سواء ، إلا أنه لم يذكر الموت ، ولا حكمه ، وفي حديث ابن شهاب أن الغريم في الموت أسوة الغرماء ، وإن وجد ماله بعينه .

وروى بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله في التفليس ، ولم يذكر حكم الموت ، والحديث محفوظ لأبي هريرة لا يرويه غيره فيما علمت .

وحدثنا أبو عبد الله محمد بن رشيق ، قال : حدثنا المغيرة بن عمر العدني بمكة قال : حدثنا أحمد بن زيد بن هارون ، قال : حدثنا عبد الأعلى بن حماد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أفلس الرجل ، فوجد غريمه متاعه بعينه ، فهو أحق به .

وروى أيوب ، وابن عيينة ، وابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن هشام بن يحيى ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته بعينها ، فهو أحق بها دون الغرماء .

وحديث التفليس هذا من رواية الحجازيين ( والبصريين حديث صحيح عند أهل النقل ثابت ، وأجمع فقهاء [ ص: 411 ] الحجازيين ) وأهل الأثر على القول بجملته ، وإن اختلفوا في أشياء من فروعه .

ودفعه من أهل العراق أبو حنيفة وأصحابه ، وسائر الكوفيين ، وردوه ، وهو مما يعد عليهم من السنن التي ردوها بغير سنة صاروا إليها ، وأدخلوا النظر حيث لا مدخل له فيه ، ولا مدخل للنظر مع صحيح الأثر .

وحجتهم أن السلعة ملك المشتري ، وثمنها في ذمته ، فغرماؤه أحق بها كسائر ماله ، وهذا ما لا يخفى على أحد لولا أن صاحب الشريعة جعل لصاحب السلعة إذا وجدها بعينها أخذها وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما .

ولو جاز أن ترد مثل هذه السنة المشهورة عند علماء المدينة ، وغيرهم بأن الوهم ، والغلط ممكن فيها لجاز ذلك في سائر السنن حتى لا تبقى بأيدي المسلمين سنة إلا قليل مما اجتمع عليه ، وبالله التوفيق .

( ذكر الحسن الحلواني ) قال : حدثنا بشر بن عمر ، قال : سمعت مالك بن أنس كثيرا إذا حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث ، فيقال له : وما تقول أنت أو رأيك ؟ فيقول مالك فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .

( قال أبو عمر : من أقبح ما جاء به أهل الكوفة في هذه المسألة دعواهم أن ذلك في الودائع والأمانات ، وهذا تجليح وتصريح برد [ ص: 412 ] السنة بالرأي ; لأن في حديث هذا الباب قوله : من باع متاعا فأفلس المبتاع ، فذكر البيع من وجوه كثيرة بألفاظ البيع ، والابتياع لا بوديعة ، ولا بشيء من الأمانات ، وهذا لا خفاء به على من استحيى ونصح نفسه ، وبالله التوفيق ( لا بأحد سواه ) .

وهذه السنة أصل في نفسها فلا سبيل أن ترد إلى غيرها ; لأن الأصول لا تنقاس ، وإنما تنقاس الفروع ردا على أصولها ، وممن قال بهذا الحديث ، واستعمله ، وأفتى به فقهاء المدينة ، وفقهاء الشام ، وفقهاء البصرة ، وجماعة أهل الحديث ، ولا أعلم لأهل الكوفة سلفا في هذه المسألة ، إلا ما رواه قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن علي ، قال : هو فيها أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها .

وروى الثوري ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : هو ، والغرماء فيه شرع سواء .

وأحاديث خلاس ( ، عن علي ) يضعفونها ، والواجب ( كان ) على إبراهيم النخعي الرجوع إلى ما عليه الجماعة ، فكيف أن يتبع ويقلد ، والله المستعان .

واختلف مالك ، والشافعي في المفلس يأبى غرماؤه دفع السلعة إلى صاحبها ، وقد وجدها بعينها ، ويريدون دفع الثمن إليه من قبل أنفسهم لما لهم في قبض السلعة من الفضل ، فقال مالك : ذلك لهم ، وليس لصاحب السلعة أخذها إذا دفع إليه الغرماء الثمن .

[ ص: 413 ] وقال الشافعي : ليس للغرماء في هذا مقال ، قال : وإذا لم يكن للمفلس ، ولا لورثته أخذ السلعة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل صاحبها أحق بها منهم ، فالغرماء أبعد من ذلك ، وإنما الخيار لصاحب السلعة إن شاء أخذها ، وإن شاء تركها ، وضرب مع الغرماء بثمنها .

وبهذا قال أبو ثور ، وأحمد بن حنبل ، وجماعة .

واختلف مالك ، والشافعي أيضا إذا اقتضى صاحب السلعة من ثمنها شيئا ، فقال ابن وهب وغيره ، عن مالك : إن أحب صاحب السلعة أن يرد ما قبض من الثمن ، ويقبض سلعته ، كان ذلك له ، وإن أحب أن يحاص الغرماء كان ذلك له .

وقال أشهب : سئل مالك عن رجل باع من رجل عبدين بمائة دينار ، وانتقد من ذلك خمسين ، وبقيت على الغريم خمسون ، ثم أفلس غريمه فوجد عنده - بائع العبدين منه - أحد عبديه بعينه ، وفات الآخر فأراد أخذه بالخمسين له على غريمه ، وقال : الخمسون التي أخذت ثمن ( العبد الذاهب ، وقال الغرماء : بل الخمسون التي أخذت ثمن ) هذا ، فقال مالك : إن كانت قيمة العبدين سواء رد نصف ، وهو خمسة وعشرون دينارا ، وأخذ العبد ، وذلك أنه من ثمن كل عبد خمسة وعشرون دينارا فليس عليه أن يرد إلا ما اقتضى ، قال : ولو كان باعه عبدا واحدا بمائة دينار فاقتضى من ثمنه خمسين دينار رد الخمسين إن أحب وأخذ العبد ، وكذلك العمل في روايا الزيت ، وغيرها على هذا القياس .

[ ص: 414 ] وقال الشافعي : لو كانت السلعة عبدا ، فأخذ نصف ثمنه ثم أفلس الغريم ، كان له نصف العبد ; لأنه بعينه ، وبيع النصف الثاني الذي بقي للغريم لغرمائه ، ولا يرد شيئا مما أخذ ; لأنه مستوف لما أخذ ، ولو زعمت أنه يرد شيئا مما أخذ جعلت له أن يرد الثمن كله لو أخذه ، ويأخذ سلعته ، ومن قال هذا فقد خالف السنة والقياس ، وقال : في المسألة التي ذكرناها عن أشهب ، عن مالك : أن صاحب العبد أحق به من الغرماء إذا كانت قيمة العبدين سواء من قبل أنه وجد عين ماله بعينه عند معدم ، والذي قبض من الثمن ، إنما هو بدل لما فات إذا كانت القيمة سواء ، ثم يأخذ عين ماله ; لأنه لم يقبض منه شيئا .

وقال جماعة من العلماء : إذا اقتضى من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء ، وسواء كانت السلعة شيئا واحدا أو أشياء كثيرة .

وبهذا قال أحمد بن حنبل ، وحجته ما ذكر في الحديث المذكور في هذا الباب قوله : فلم يقبض البائع من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء فجعل شرط كونه أحق بها إذا لم يقبض من ثمنها ( شيئا ) فوجب أن يكون حكمه إذا قبض من ثمنها شيئا بخلاف ذلك .

ومسائل التفليس كثيرة ، وفروعها جمة نحو : تغير السلعة عنده بزيادة أو نقصان ، أو ولادة الحيوان ، أو خلطها بغيرها ، أو اختلاف سوقها ، وليس يصلح ( بنا ) في [ ص: 415 ] هذا الموضع ذكرها .

واختلف مالك ، والشافعي أيضا في المفلس يموت قبل الحكم عليه ، وقبل توقيفه ، فقال مالك : ليس ( حكم الفلس ) كحكم الموت ، وبائع السلعة إذا وجدها بعينها أسوة الغرماء في الموت ، بخلاف الفلس ، وبهذا قال أحمد بن حنبل ، وحجة من قال بهذا القول حديث ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن المذكور في هذا الباب ، وفيه النص على الفرق بين الموت والفلس ، وهو قاطع لموضع الخلاف .

ومن جهة القياس بينهما فرق آخر ، وذلك أن المفلس يمكن أن تطرأ له ذمة وليس الميت كذلك ، وقال الشافعي : الموت والفلس سواء ، وصاحب السلعة أحق بها إذا وجدها بعينها في الوجهين جميعا ، وحجة من قال بهذا القول ما رواه ابن أبي ذئب ( ، عن ) عمرو بن رافع ، عن عمر بن خلدة الزرقي ، قال : أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس فقال أبو هريرة : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 416 ] " أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " فجعل الشافعي ذكر الموت زيادة مقبولة في حديث أبي هريرة ، وغيره لا يقبلها ; لأن حديث ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ذكر حكم الموت في ذلك بخلاف الفلس ، وزعم الشافعي أن حديث ابن أبي ذئب هذا متصل وذلك مرسل ، والمتصل أولى ، وزعم غيره أن المذكور في هذا الحديث ليس بمعروف بحمل العلم ، والله أعلم .

وروى حديث ابن أبي ذئب عنه جماعة منهم ابن أبي فديك وغيره .




الخدمات العلمية