الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وباع رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترى ، وكان شراؤه بعد أن أكرمه الله تعالى برسالته أكثر من بيعه ، وكذلك بعد الهجرة لا يكاد يحفظ عنه البيع إلا في قضايا يسيرة أكثرها لغيره ، كبيعه القدح والحلس فيمن يزيد ، وبيعه يعقوب المدبر غلام أبي مذكور ، وبيعه عبدا أسود بعبدين .

وأما شراؤه فكثير ، وآجر واستأجر ، واستئجاره أكثر من إيجاره ، وإنما يحفظ عنه أنه أجر نفسه قبل النبوة في رعاية الغنم ( وأجر نفسه من خديجة في سفره بمالها إلى الشام )

وإن كان العقد مضاربة ، فالمضارب أمين ، وأجير ، ووكيل ، وشريك ، [ ص: 155 ] فأمين إذا قبض المال ، ووكيل إذا تصرف فيه ، وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل ، وشريك إذا ظهر فيه الربح .

وقد أخرج الحاكم في "مستدركه" من حديث الربيع بن بدر ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : ( آجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة بنت خويلد سفرتين إلى جرش كل سفرة بقلوص ) وقال صحيح الإسناد .

قال في "النهاية" : جرش بضم الجيم وفتح الراء من مخاليف اليمن ، وهو بفتحهما بلد بالشام .

قلت : إن صح الحديث ، فإنما هو المفتوح الذي بالشام ، ولا يصح ، فإن الربيع بن بدر هذا هو عليلة ، ضعفه أئمة الحديث . قال النسائي ، والدارقطني ، والأزدي : متروك ، وكأن الحاكم ظنه الربيع بن بدر مولى طلحة بن عبيد الله .

وشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما قدم عليه شريكه ، قال : أما تعرفني ؟ قال " أما كنت شريكي ؟ فنعم الشريك كنت لا تداري ولا تماري " .

وتدارئ بالهمزة من المدارأة ، وهي مدافعة الحق ، فإن ترك همزها ، صارت من المداراة ، وهي المدافعة بالتي هي أحسن .

ووكل وتوكل ، وكان توكيله أكثر من توكله .

وأهدى ، وقبل الهدية ، وأثاب عليها ، ووهب واتهب ، فقال لسلمة بن [ ص: 156 ] الأكوع ، وقد وقع في سهمه جارية : "هبها لي" فوهبها له ، ففادى بها من أهل مكة أسارى من المسلمين.

واستدان برهن ، وبغير رهن ، واستعار ، واشترى بالثمن الحال والمؤجل .

وضمن ضمانا خاصا على ربه على أعمال من عملها كان مضمونا له بالجنة ، وضمانا عاما لديون من توفي من المسلمين ولم يدع وفاء أنها عليه وهو يوفيها ، وقد قيل : إن هذا الحكم عام للأئمة بعده ، فالسلطان ضامن لديون المسلمين إذا لم يخلفوا وفاء ، فإنها عليه يوفيها من بيت المال ، وقالوا : كما يرثه إذا مات ولم يدع وارثا فكذلك يقضي عنه دينه إذا مات ولم يدع وفاء ، وكذلك ينفق عليه في حياته إذا لم يكن له من ينفق عليه .

ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا كانت له جعلها صدقة في سبيل الله ، وتشفع وشفع إليه ، وردت بريرة شفاعته في مراجعتها مغيثا ، فلم يغضب عليها ، ولا عتب ، وهو الأسوة والقدوة ، وحلف في أكثر من ثمانين موضعا ، وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع ، فقال : [ ص: 157 ] تعالى : ( ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق ) [ يونس : 53 ] وقال تعالى : ( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم ) [ سبأ : 3 ] وقال تعالى : ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ) [ التغابن : 7 ] وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر محمد بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه ، فتحاكم إليه يوما هو وخصم له ، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود فتهيأ للحلف ، فقال له القاضي إسماعيل : أوتحلف ! ومثلك يحلف يا أبا بكر ؟ فقال : وما يمنعني من الحلف وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه ، قال أين ذلك ؟ فسردها له أبو بكر ، فاستحسن ذلك منه جدا ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم .

وكان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة ويكفرها تارة ويمضي فيها تارة ، والاستثناء يمنع عقد اليمين ، والكفارة تحلها بعد عقدها ، ولهذا سماها الله تحلة .

وكان يمازح ويقول في مزاحه الحق ، ويوري ولا يقول في توريته إلا الحق ، مثل أن يريد جهة يقصدها فيسأل عن غيرها كيف طريقها ؟ وكيف مياهها ومسلكها ؟ أو نحو ذلك . وكان يشير ويستشير . وكان يعود المريض ، ويشهد الجنازة ، ويجيب الدعوة ، ويمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم ، وسمع مديح الشعر وأثاب عليه ، ولكن ما قيل فيه من المديح فهو جزء يسير جدا من محامده ، وأثاب على الحق . وأما مدح غيره من الناس فأكثر ما يكون بالكذب فلذلك أمر أن يحثى في وجوه المداحين التراب

التالي السابق


الخدمات العلمية