الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 259 ]

                          فصل

                          هو فن آخر يرجع إلى هذا الكلام

                          تفصيل آخر، في العبارتين ترى أنهما يؤديان غرضا واحدا

                          301- قد علم أن المعارض للكلام معارض له من الجهة التي منها يوصف بأنه فصيح وبليغ، ومتخير اللفظ جيد السبك ونحو ذلك من الأوصاف التي نسبوها إلى اللفظ.

                          وإذا كان هذا هكذا، فبنا أن ننظر فيما إذا أتي به كان معارضا ما هو؟ أهو أن يجيء بلفظ فيضعه مكان لفظ آخر، نحو أن يقول بدل " أسد " : " ليث " وبدل " بعد " : " نأى " ومكان " قرب " : " دنا " . أم ذلك ما لا يذهب إليه عاقل ولا يقوله من به طرق؟ كيف؟ ولو كان ذلك معارضة لكان الناس لا يفصلون بين الترجمة والمعارضة . ولكان كل من فسر كلاما معارضا له . وإذا بطل أن يكون جهة للمعارضة، وأن يكون الواضع نفسه في هذه المنزلة معارضا على وجه من الوجوه، علمت أن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني، وإلى ما يدل عليه بالألفاظ، دون الألفاظ أنفسها، لأنه إذا لم يكن في القسمة إلا المعاني والألفاظ وكان لا يعقل تعارض في الألفاظ المجردة، إلا ما ذكرت، لم يبق إلا أن تكون المعارضة معارضة من جهة ترجع إلى معاني الكلام المعقولة، دون ألفاظه المسموعة . وإذا عادت المعارضة إلى جهة المعنى، وكان الكلام يعارض من حيث هو فصيح وبليغ ومتخير اللفظ، حصل من ذلك أن " الفصاحة " و " البلاغة و " تخير اللفظ " عبارة عن خصائص ووجوه تكون [ ص: 260 ] معاني الكلام عليها، وعن زيادات تحدث في أصول المعاني كالذي أريتك فيما بين : " زيد كالأسد " و " كأن زيدا الأسد " . وبأن لا نصيب للألفاظ من حيث هي ألفاظ فيها بوجه من الوجوه.

                          302- واعلم أنك لا تشفي العلة ولا تنتهي إلى ثلج اليقين، حتى تتجاوز حد العلم بالشيء مجملا إلى العلم به مفصلا وحتى لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه، وحتى تكون كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته ومجرى عروق الشجر الذي هو منه . وإنا لنراهم يقيسون الكلام في معنى المعارضة على الأعمال الصناعية كنسج الديباج وصوغ الشنف والسوار وأنواع ما يصاغ، وكل ما هو صنعة وعمل يد، بعد أن يبلغ مبلغا يقع التفاضل فيه ثم يعظم حتى يزيد فيه الصانع على الصانع زيادة يكون له بها صيت ويدخل في حد ما يعجز عنه الأكثرون.

                          وهذا القياس وإن كان قياسا ظاهرا معلوما وكالشيء المركوز في الطباع حتى ترى العامة فيه كالخاصة . فإن فيه أمرا يجب العلم به وهو أنه يتصور أن يبدأ هذا فيعمل ديباجا ويبدع في نقشه وتصويره، فيجيء آخر ويعمل ديباجا آخر مثله في نقشه وهيئته وجملة صفته حتى لا يفصل الرائي بينهما ولا يقع لمن لم يعرف القصة ولم يخبر الحال إلا أنهما صنعة رجل واحد، وخارجان من تحت يد واحدة . وهكذا الحكم في سائر المصنوعات كالسوار يصوغه هذا، ويجيء ذاك فيعمل سوارا مثله، ويؤدي صفته كما هي، حتى لا يغادر منها شيئا البتة .

                          [ ص: 261 ]

                          303- وليس يتصور مثل ذلك في الكلام لأنه لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشعر أو فصل من النثر فتؤديه بعينه وعلى خاصيته وصفته بعبارة أخرى، حتى يكون المفهوم من هذه هو المفهوم من تلك لا يخالفه في صفة ولا وجه ولا أمر من الأمور .

                          ولا يغرنك قول الناس : " قد أتى بالمعنى بعينه وأخذ معنى كلامه فأداه على وجهه " فإنه تسامح منهم . والمراد أنه أدى الغرض، فأما أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كلام الأول، حتى لا تعقل ها هنا إلا ما عقلته هناك، وحتى يكون حالهما في نفسك حال الصورتين المشتبهتين في عينك كالسوارين والشنفين، ففي غاية الإحالة، وظن يفضي بصاحبه إلى جهالة عظيمة، وهي أن تكون الألفاظ مختلفة المعاني إذا فرقت ومتفقتها إذا جمعت وألف منها كلام . وذلك أن ليس كلامنا فيما يفهم من لفظتين مفردتين نحو " قعد " و " جلس " . ولكن فيما فهم من مجموع كلام ومجموع كلام آخر، نحو أن تنظر في قوله تعالى : « ولكم في القصاص حياة » [ سورة البقرة : 179 ] وقول الناس : " قتل البعض إحياء للجميع " فإنه وإن كان قد جرت عادة الناس بأن يقولوا في مثل هذا إنهما عبارتان معبرهما واحد فليس هذا القول قولا يمكن الأخذ بظاهره، أو يقع لعاقل شك أن ليس المفهوم من أحد الكلامين المفهوم من الآخر .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية