الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( والإفراد أن يحج ثم يعتمر ، والتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحج من عامه ، والقران أن يحرم بهما جميعا ، فإن أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف جاز ويصير قارنا ، لما روي { أن عائشة رضي الله عنها أحرمت بالعمرة فحاضت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلي بالحج واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي } وإن أدخل عليها الحج بعد الطواف لم يجز ، واختلف أصحابنا في علته ، ( فمنهم ) من قال : لا يجوز لأنه قد أخذ في التحلل ، ( ومنهم ) من قال : لا يجوز لأنه قد أتى بمقصود العمرة ، وإن أحرم بالحج وأدخل عليه العمرة ففيه قولان : ( أحدهما ) يجوز لأنه أحد النسكين فجاز إدخاله على الآخر كالحج ، ( والثاني ) لا يجوز ; لأن أفعال العمرة استحقت بإحرام الحج ، فلا يعد إحرام العمرة شيئا .

                                      ( فإن قلنا ) : إنه يجوز ، هل يجوز بعد الوقوف ؟ يبنى على العلتين في إدخال الحج على العمرة بعد الطواف ، ( فإن قلنا ) : لا يجوز إدخال الحج على العمرة بعد الطواف ; لأنه أخذ في التحلل جاز ههنا بعد الوقوف ; لأنه لم يأخذ في التحلل ( وإن قلنا ) : لا يجوز لأنه أتى بالمقصود لم يجز ههنا ; لأنه قد أتى بمعظم المقصود ، وهو الوقوف ، وإن أحرم بالعمرة وأفسدها ثم أدخل عليها الحج ففيه وجهان : ( أحدهما ) ينعقد الحج ، ويكون فاسدا لأنه إدخال حج على عمرة ، فأشبه إذا كان صحيحا ( والثاني ) لا ينعقد لأنه لا يجوز أن يصح لأنه إدخال حج على إحرام فاسد ، ولا يجوز أن يفسد لأن إحرامه لم يصادفه الوطء فلا يجوز إفساده ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عائشة رواه البخاري ومسلم إلا قوله : " ولا تصلي " فإنها لفظة غريبة ليست معروفة . [ ص: 168 ] أما حكم المسألة فقال أصحابنا : لكل واحدة من الأنواع الثلاثة صور مختلف في بعضها ، ( أما ) الإفراد فصورته الأصلية أن يحرم بالحج وحده ويفرغ منه ثم يحرم بالعمرة ، وسيأتي باقي صوره في شروط التمتع الموجب للدم إن شاء الله - تعالى - ( وأما ) التمتع فصورته الأصلية أن يحرم بالعمرة . من ميقات بلده ، ويدخل مكة ويفرغ من أفعال العمرة ، ثم ينشئ الحج من مكة ، ويسمى متمتعا لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بينهما ، فإنه يحل له جميع المحظورات إذا تحلل من العمرة ، سواء كان ساق الهدي أم لا ، ويجب عليه دم ، ولوجوبه شروط تأتي إن شاء الله - تعالى - .

                                      ( وأما ) القران فصورته الأصلية أن يحرم بالحج والعمرة معا ، فتدرج أعمال العمرة في أعمال الحج ، ويتحد الميقات والفعل فيكفي لهما طواف واحد ، وسعي واحد وحلق واحد وإحرام واحد فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج أي أحرم به نظر إن أدخل في غير أشهر الحج لغا إدخاله ولم يتغير إحرامه بالعمرة وإن أدخله في أشهره نظر إن كان أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج ففي صحة إدخاله وجهان : ( أحدهما ) وهو اختيار الشيخ أبي علي السنجي بكسر السين المهملة وبالجيم وحكاه عن عامة الأصحاب أنه لا يصح الإدخال ، لأنه يؤدي إلى صحة الإحرام بالحج قبل أشهره ، ( وأصحهما ) يصح وهو اختيار القفال وبه قطع صاحبا الشامل والبيان وآخرون ، لأنه أحرم بكل واحد منهما في وقته ، ولأنه إنما يصير محرما بالحج في حال إدخاله ، وهو وقت صالح للحج ، لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم أدخله عليها في أشهره فإن لم يكن شرع في شيء من طوافها صح ، وصار قارنا بلا خلاف .

                                      وإن كان قد شرع فيه وخطى منه خطوة لم يصح إحرامه بالحج بلا خلاف وإن وقف عند الحجر الأسود للشروع في الطواف ، ولم يمسه ثم أحرم بالحج صح وصار قارنا ; لأنه لم يتلبس بشيء من الطواف ، وإن [ ص: 169 ] استلم الحجر ولم يمش ثم أحرم قبل شروعه في المشي فإن كان استلامه ليس بنية الاستلام للطواف صح إحرامه بالحج بلا خلاف ، كذا صرح به الماوردي وإن كان استلامه بنية أن يطوف ففي صحة إحرامه بالحج بعده وجهان حكاهما الصيمري وصاحبه الماوردي وصاحب البيان وآخرون : ( أحدهما ) يصح لأنه مقدمة للطواف ، ( والثاني ) لا يصح لأنه أحد أبعاض الطواف ، وينبغي أن يكون الأول أصح ، ولو شك هل أحرم بالحج قبل الشروع في الطواف أو بعده ؟ قال الماوردي : قال أصحابنا : صح إحرامه لأن الأصل جواز إدخال الحج على العمرة حتى يتيقن المنع ، فصار كمن أحرم وتزوج ، ولم يدر هل كان إحرامه قبل تزوجه أم بعده ؟ قال الشافعي : أجزأه وصح تزوجه ، هذا كلام الماوردي قال أصحابنا : وإذا شرع المحرم بالعمرة في الطواف ثم أحرم بالحج . فقد قلت : إنه لا يصح بلا خلاف ، وفي غاية بطلانه أربعة أوجه مشهورة حكى المصنف منها اثنين ، ( أحد الأربعة ) أنه اشتغل بعمل من أعمال العمرة ، ( والثاني ) لأنه شرع في فرض من فروضها ( والثالث ) لأنه أتى بمعظم أفعالها ، ( والرابع ) لأنه شرع في سبب التحلل وهذا الرابع هو الأصح وهو نص الشافعي نقله أبو بكر الفارسي في عيون المسائل وصحح البندنيجي الثالث ، وتظهر فائدة هذا الخلاف فيما لو أحرم بحج ثم أدخل عليه العمرة ، وجوزناه كما سنذكره الآن إن شاء الله - تعالى - .

                                      هذا كله إذا كانت العمرة التي أدخل عليها الحج صحيحة ، فإن كانت فاسدة بأن أفسدها بجماع ثم أدخل عليها حجا ففي صحة إدخاله ومصيره محرما بالحج وجهان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليلهما : ( أصحهما ) عند الأكثرين يصير محرما ، وبه قال ابن سريج والشيخ أبو زيد ( والثاني ) لا يصير وصححه صاحب البيان ، وإن قلنا : يصير فهل يكون حجه صحيحا [ ص: 170 ] مجزئا ؟ فيه وجهان : ( أحدهما ) نعم ، لأن المفسد متقدم ، ( وأصحهما ) لا ، لأنه تابع لعمرة فاسدة فعلى هذا هل ينعقد فاسدا من أصله ؟ أم صحيحا ثم يفسد ؟ فيه وجهان : ( أحدهما ) ينعقد صحيحا ثم يفسد ، كما لو أحرم فجامع فإنه ينعقد صحيحا ثم يفسد على أحد الأوجه ، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله - تعالى - ( وأصحهما ) ينعقد فاسدا ، إذ لو انعقد صحيحا لم يفسد إذا لم يوجد بعد انعقاده مفسد .

                                      ( فإن قلنا ) : ينعقد فاسدا أو صحيحا ثم يفسد لزمه المضي في النسكين ، ولزمه قضاؤهما ( وإن قلنا ) : ينعقد صحيحا ولا يفسد قضى العمرة دون الحج وعلى الأوجه الثلاثة يلزمه دم القران ، ولا يجب عليه بالإفساد إلا بدنة واحدة . كذا قاله الشيخ أبو علي السنجي وحكى إمام الحرمين وجهين آخرين إذا حكمنا بانعقاد حجه فاسدا : ( أحدهما ) يلزمه بدنة أخرى لفساد الحج ، ( والثاني ) يلزمه بدنة للعمرة وشاة للحج كما لو جامع ثم جامع ، وهذان الوجهان ضعيفان ، والصحيح ما ذكره أبو علي والله أعلم .

                                      هذا كله في الإحرام للحج بعد الإحرام بالعمرة ( أما ) إذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة فقولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : ( القديم ) صحته ويصير قارنا ( والجديد ) لا يصح وهو الأصح ( فإن قلنا ) : بالقديم ، فإلى متى يجوز الإدخال ؟ فيه أربعة أوجه مفرعة على الأوجه الأربعة السابقة فيمن أحرم بالعمرة ثم بالحج : ( أحدها ) يجوز ما لم يشرع في طواف القدوم أو غيره من أعمال الحج ، قال البغوي : هذا أصحها ، ( والثاني ) يجوز بعد طواف القدوم ما لم يشرع في السعي أو غيره من فروض الحج . قاله الخضري ، ( والثالث ) يجوز ، وإن فعل فرضا ما لم يقف بعرفات ، فعلى هذا لو كان قد سعى لزمه إعادة السعي ليقع عن النسكين جميعا . كذا قاله الشيخ أبو علي السنجي وغيره ، ( والرابع ) يجوز ؟ وإن وقف ما لم [ ص: 171 ] يشتغل بشيء من أسباب التحلل من الرمي وغيره ، وعلى هذا لو كان قد سعى فقياس ما ذكره أبو علي وجوب إعادته ، وحكى إمام الحرمين فيه . وجهين وقال : المذهب أنه لا يجب والله أعلم . .




                                      الخدمات العلمية