الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء من أحق بالإمامة

                                                                                                          235 حدثنا هناد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش قال وحدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو معاوية وعبد الله بن نمير عن الأعمش عن إسمعيل بن رجاء الزبيدي عن أوس بن ضمعج قال سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا ولا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه قال محمود بن غيلان قال ابن نمير في حديثه أقدمهم سنا قال أبو عيسى وفي الباب عن أبي سعيد وأنس بن مالك ومالك بن الحويرث وعمرو بن سلمة قال أبو عيسى وحديث أبي مسعود حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم قالوا أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنة وقالوا صاحب المنزل أحق بالإمامة وقال بعضهم إذا أذن صاحب المنزل لغيره فلا بأس أن يصلي به وكرهه بعضهم وقالوا السنة أن يصلي صاحب البيت قال أحمد بن حنبل وقول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه فإذا أذن فأرجو أن الإذن في الكل ولم ير به بأسا إذا أذن له أن يصلي به

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( وابن نمير ) بالتصغير هو عبد الله بن نمير الهمداني الخارفي أبو هشام الكوفي ثقة صاحب حديث من أهل السنة روى عن الأعمش وغيره ، قال ابنه محمد : مات سنة 199 تسع وتسعين ومائة ( عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي ) بضم الزاي مصغرا أبي إسحاق الكوفي ، ثقة تكلم فيه الأزدي بلا حجة ( عن أوس بن ضمعج ) بفتح المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة مفتوحة ثم جيم بوزن جعفر الكوفي ، ثقة مخضرم من الثانية قاله الحافظ ( سمعت أبا مسعود الأنصاري ) اسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة البدري صحابي جليل ( عن أوس بن ضمعج ) بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم وفتح العين المهملة بعدها جيم .

                                                                                                          قوله : ( يؤم القوم ) قال الطيبي بمعنى الأمر أي ليؤمهم ( أقرؤهم لكتاب الله ) قيل المراد به [ ص: 28 ] الأفقه ، وقيل هو على ظاهره وبحسب ذلك اختلف الفقهاء . قال النووي : قال أصحابنا : الأفقه مقدم على الأقرأ فإن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط ، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط ، فقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصلاة فيه إلا كامل الفقه ، ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة على الباقين مع أنه صلى الله عليه وسلم نص على أن غيره أقرأ منه كأنه عنى حديث أقرؤكم أبي ، قال : وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه انتهى . قال الحافظ في الفتح : وهذا الجواب يلزم منه أن من نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر فيفسد الاحتجاج ، بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه انتهى . ثم قال النووي بعد ذلك : إن قوله في حديث أبي مسعود : فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم في الهجرة ، يدل على تقديم الأقرأ مطلقا انتهى ، قال الحافظ : وهو واضح للمغايرة ، وهذه الرواية أخرجها مسلم من وجه آخر عن إسماعيل بن رجاء ، ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة ، فأما إذا كان جاهلا بذلك فلا يقدم اتفاقا ، والسبب فيه أن أهل ذلك العصر كانوا يعرفون معاني القرآن لكونهم أهل اللسان ، فالأقرأ منهم بل القارئ كان أفقه في الدين من كثير من الفقهاء الذين جاءوا بعدهم انتهى كلام الحافظ ، وقال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر حديث الباب : ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه إلا أن الحاكم قال : عوض قوله فأعلمهم بالسنة فأفقههم فقها ، فإن كانوا في الفقه سواء فأكبرهم سنا انتهى ، قال : وقد أخرج مسلم في صحيحه هذا الحديث ولم يذكر فيه فأفقههم فقها ، وهي لفظة عزيزة غريبة بهذا الإسناد الصحيح ، وسنده عن يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن جرير بن حازم ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن أوس بن ضمعج ، عن أبي مسعود فذكره ، ثم أخرجه الحاكم ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن إسماعيل بن رجاء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤم القوم أقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأفقههم في الدين ، فإن كانوا في الفقه سواء فأقرؤهم للقرآن والحديث ، وسكت عنه ، والباقون من الأئمة يخالفوننا في هذه المسألة ويقولون : إن الأقرأ لكتاب الله يقدم على العالم كما هو لفظ الحديث ، حتى إذا اجتمع من يحفظ القرآن وهو غير عالم وفقيه يحفظ يسيرا من القرآن يقدم حافظ القرآن عندهم ، ونحن نقول : يقدم الفقيه ، وأجاب صاحب الكتاب بأن الأقرأ في ذلك الزمان كان أعلمهم ، وهذا يرده لفظ الحاكم الأول ، ويؤيد مذهبنا لفظه الثاني ، إلا أنه معلول بالحجاج بن أرطاة ، قال ويشهد للخصم أيضا حديث عمرو بن سلمة ، ثم ذكره عن البخاري ، وفيه وبدر أبي قومهم بإسلامهم فلما قدم قال : جئتكم والله من عند النبي حقا ، فقالوا صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكثركم [ ص: 29 ] قرآنا ، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني لما كنت أتلقى من الركبان ، فقدموني بين أيديهم ، وأنا ابن ست أو سبع سنين إلخ

                                                                                                          قلت : القول الظاهر الراجح عندي هو تقديم الأقرأ على الأفقه ، وقد عرفت في كلام الحافظ أن محل تقديم الأقرأ حيث يكون عارفا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة " فأعلمهم بالسنة " قال الطيبي : أراد بها الأحاديث فالأعلم بها كان هو الأفقه في عهد الصحابة " فأقدمهم هجرة " أي انتقالا من مكة إلى المدينة قبل الفتح فمن هاجر أولا فشرفه أكثر ممن هاجر بعده . قال تعالى : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل الآية ( ولا يؤم الرجل ) بصيغة المجهول ، وفي رواية مسلم لا يؤمن الرجل الرجل ( في سلطانه ) أي في مظهر سلطنته ومحل ولايته أو فيما يملكه أو في محل يكون في حكمه ، ويعضد هذا التأويل الرواية الأخرى في أهله ، ورواية أبي داود في بيته ولا في سلطانه ، ولذا كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج ، وصح عن ابن عمر أن إمام المسجد مقدم على غير السلطان ، وتحريره أن الجماعة شرعت لاجتماع المؤمنين على الطاعة وتآلفهم وتوادهم ، فإذا أم الرجل الرجل في سلطانه أفضى ذلك إلى توهين أمر السلطنة وخلع ربقة الطاعة ، وكذلك إذا أمه في قومه وأهله أدى ذلك إلى التباغض والتقاطع وظهور الخلاف الذي شرع لدفعه الاجتماع ، فلا يتقدم رجل على ذي السلطنة لا سيما في الأعياد والجماعة ، ولا على إمام الحي ورب البيت إلا بالإذن قاله الطيبي ( ولا يجلس ) بصيغة المجهول ( على تكرمته ) كسجادته أو سريره وهي في الأصل مصدر كرم تكريما أطلق مجازا على ما يعد للرجل إكراما له في منزله ( إلا بإذنه ) قال ابن الملك متعلق بجميع ما تقدم ، قلت : كل من قال إن صاحب المنزل إذا أذن لغيره فلا بأس أن يصلي بهم يقول : إن ( إلا بإذنه ) متعلق بجميع ما تقدم ، وكل من لم يقل به يقول أنه متعلق بقوله ولا يجلس فقط .

                                                                                                          قوله : ( قال محمود ) يعني ابن غيلان ( قال ابن نمير في حديثه أقدمهم سنا ) أي قال هذا اللفظ مكان لفظ أكبرهم سنا .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن أبي سعيد وأنس بن مالك ، ومالك بن الحويرث ، وعمرو بن سلمة )

                                                                                                          [ ص: 30 ] أما حديث أبي سعيد فأخرجه مسلم والنسائي ، وأما حديث أنس فلم أقف عليه ، وأما حديث مالك بن الحويرث فأخرجه الجماعة ، وأما حديث عمرو بن سلمة فأخرجه البخاري .

                                                                                                          قوله : ( حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح ) وأخرجه مسلم .

                                                                                                          قوله : ( وقال بعضهم إذا أذن صاحب المنزل لغيره فلا بأس أن يصلي بهم ) قال في المنتقى : وأكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود إلا بإذنه ويعضده عموم ما روى ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة . عبد أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل أم قوما وهم به راضون ، ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كل ليلة ، رواه الترمذي ، وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوما إلا بإذنهم ، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم ، فإن فعل فقد خانهم ، رواه أبو داود ( وكرهه بعضهم ) أي وإن أذن صاحب المنزل وقالوا : السنة أن يصلي صاحب البيت أي يؤم صاحب البيت ولا يؤم الزائر لحديثمالك بن الحويرث ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم . رواه الخمسة إلا ابن ماجه . وقال هؤلاء قوله : ( إلا بإذنه ) أي حديث الباب متعلق بقوله لا يجلس على تكرمته وليس متعلقا بقوله لا يؤم الرجل ( فإذا أذن فأرجو أن الإذن في الكل ) فقوله إلا بإذنه متعلق بكلا الفعلين عند أحمد قال الشوكاني في النيل : ويعضده عموم قوله في حديث ابن عمرو هم به راضون ، وقوله في حديث أبي هريرة إلا بإذنه كما قال المصنف يعني صاحب المنتقى فإنه يقتضي جواز إمامة الزائر عند رضا المزور ، قال العراقي ويشترط أن يكون المزور أهلا للإمامة فإن لم يكن أهلا كالمرأة في صورة كون الزائر رجلا والأمي في صورة كون الزائر قارئا ونحوهما فلا حق له في الإمامة .

                                                                                                          واعلم أن الإمام البخاري قال في صحيحه : باب إذا زار الإمام قوما فأمهم ، ثم ذكر فيه [ ص: 31 ] حديث عتبان بن مالك قال : استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت له فقال : أين تحب أن أصلي من بيتك فأشرت إلى المكان الذي أحب فقام وصففنا خلفه ، ثم سلم وسلمنا . قال الحافظ في الفتح قيل أشار بهذه الترجمة إلى أن حديث مالك بن الحويرث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه مرفوعا : من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم ، محمول على من عدا الإمام الأعظم وقال الزين بن المنير مراده أن الإمام الأعظم ومن يجري مجراه إذا حضر بمكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار ، ولكن ينبغي للمالك أن يأذن له ليجمع بين الحقين حق الإمام في التقدم وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه انتهى ملخصا ، ويحتمل أنه أشار إلى ما في حديث أبي مسعود ولا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه فإن مالك الشيء سلطان عليه والإمام الأعظم سلطان على المالك ، وقوله إلا بإذنه يحتمل عوده على الأمرين الإمامة والجلوس ، وبذلك جزم أحمد كما حكاه الترمذي فتحصل بالإذن مراعاة الجانبين انتهى .




                                                                                                          الخدمات العلمية