الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النوع الثالث عشر : معرفة الشاذ

روينا عن يونس بن عبد الأعلى قال : قال الشافعي رضي الله عنه : " ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره ، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس " .

وحكى الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني نحو هذا عن الشافعي [ ص: 77 ] وجماعة من أهل الحجاز . ثم قال : " الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد ، يشذ بذلك شيخ ثقة كان أو غير ثقة . فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به .

وذكر الحاكم أبو عبد الله الحافظ أن الشاذ هو الحديث الذي يتفرد به ثقة من الثقات ، وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة . وذكر أنه يغاير المعلل من حيث إن المعلل وقف على علته الدالة على جهة الوهم فيه ، والشاذ لم يوقف فيه على علته كذلك .

قلت : أما ما حكم الشافعي عليه بالشذوذ فلا إشكال في أنه شاذ غير مقبول .

وأما ما حكيناه عن غيره فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط ، كحديث : " إنما الأعمال بالنيات " فإنه حديث فرد تفرد به عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تفرد به عن عمر علقمة بن وقاص ، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم ، ثم عنه يحيى بن سعيد على ما هو الصحيح عند أهل الحديث .

[ ص: 78 ] وأوضح من ذلك في ذلك : حديث عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته " . ، تفرد به عبد الله بن دينار .

وحديث مالك ، عن الزهري ، عن أنس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر " . تفرد به مالك عن الزهري .

فكل هذه مخرجة في الصحيحين مع أنه ليس لها إلا إسناد واحد تفرد به ثقة . وفي غرائب الصحيح أشباه لذلك غير قليلة . وقد قال مسلم بن الحجاج : " للزهري نحو تسعين حرفا يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يشاركه فيها أحد ، بأسانيد جياد " . والله أعلم .

فهذا الذي ذكرناه وغيره من مذاهب أئمة الحديث يبين لك أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق الذي أتى به الخليلي والحاكم ، بل الأمر في ذلك على تفصيل نبينه فنقول :

[ ص: 79 ] إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه : فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك ، وأضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا ، وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره ، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره ، فينظر في هذا الراوي المنفرد : فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به ، ولم يقدح الانفراد فيه ، كما فيما سبق من الأمثلة ، وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده به خارما له ، مزحزحا له عن حيز الصحيح .

ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال فيه ، فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ، ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف ، وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به ، وكان من قبيل الشاذ المنكر .

فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان : أحدهما : الحديث الفرد المخالف ، والثاني : الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية