الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 216 ] قالوا : حديث يكذبه النظر .

        26 - رهن درع النبي - صلى الله عليه وسلم - .

        قالوا : رويتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بأصواع من شعير فيا سبحان الله أما كان في المسلمين مواس ولا مؤثر ولا مقرض ، وقد أكثر الله - عز وجل - الخير وفتح عليهم البلاد وجبوا ما بين أقصى اليمن إلى أقصى البحرين وأقصى عمان ، ثم بياض نجد والحجاز ، وهذا مع أموال الصحابة كعثمان وعبد الرحمن وفلان وفلان ، فأين كانوا ؟ قالوا : وهذا كذب وقائله أراد مدحه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالزهد وبالفقر ، وليس هكذا تمدح الرسل ، وكيف يجوع من يجهز الجيوش ، ومن يسوق المئين من البدن ؟ وله مما أفاء الله عليه مثل فدك وغيرها .

        وذكر مالك بن أنس عن أبي الزبير عن جابر قال : نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية سبعين بدنة كل بدنة عن سبعة واستاق في عمرة القضاء مكان عمرته التي صده المشركون ستين بدنة . [ ص: 217 ] وكيف يجوع من وقف سبع حوائط متجاورة بالعالية .

        ثم لا يجد مع هذا من يقرضه أصواعا من شعير حتى يرهن درعه .

        قال أبو محمد : ونحن نقول : إنه ليس في هذا ما يستعظم بل ما ينكر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤثر على نفسه بأمواله ويفرقها على المحقين من أصحابه وعلى الفقراء والمساكين وفي النوائب التي تنوب المسلمين ولا يرد سائلا ولا يعطي إذا وجد إلا كثيرا ، ولا يضع درهما فوق درهم .

        وقالت له أم سلمة : يا رسول الله أراك ساهم الوجه ، أمن علة ؟ فقال : لا ولكنها السبعة الدنانير التي أتينا بها أمس نسيتها في خصم الفراش فبت ولم أقسمها وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقول في بكائها عليه : بأبي من لم ينم على الوثير ولم يشبع من خبز الشعير .

        وليس يخلو قولها هذا من أحد أمرين إما أن يكون يؤثر بما عنده حتى لا يبقى عنده ما يشبعه ، وهذا بعض صفاته ، والله - عز وجل - يقول : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة أو يكون لا يبلغ الشبع من الشعير ولا من غيره ، لأنه كان يكره إفراط الشبع ، وقد كره ذلك كثير من الصالحين والمجتهدين ، وهو - صلى الله عليه وسلم - أولاهم بالفضل وأحراهم بالسبق .

        [ ص: 218 ] وحدثنا أبو الخطاب قال أنا أبو عاصم عبيد الله بن عبد الله قال أنا المحبر بن هارون عن أبي يزيد المدني عن عبد الرحمن بن المرقع قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله تعالى لم يخلق وعاء ملئ شرا من بطن فإن كان لا بد فاجعلوا ثلثا للطعام وثلثا للشراب وثلثا للريح وقد قال مالك بن دينار : إنما مثل المؤمن مثل المأبورة ، يريد أكلت في العلف إبرة فهي لا تأكل إذا أكلت في العلف إلا قليلا ولا ينجع فيها العلف .

        وقد قيل لابن عمر في الجوارشن شيء ؟ فقال : وما أصنع به وأنا لم أشبع منذ كذا يريد أنه كان يدع الطعام وبه إليه الحاجة ، وقال الحسن لرجل دخل عليه وهو يأكل : كل ، فقال : قد أكلت فما أشتهي شيئا ، قال : يا سبحان الله وهل يأكل أحد حتى لا يشتهي شيئا .

        وقال مالك بن دينار أو غيره : لوددت أن رزقي في حصاة أمصها ، ولقد استحييت من الله تعالى لكثرة دخولي إلى الخلاء .

        وقال بكر بن عبد الله : لم أجد طعم العيش حتى استبدلت الخمص بالكظة وحتى لم ألبس من ثيابي ما يستخدمني وحتى لم آكل إلا ما لا أغسل يدي منه [ ص: 219 ] فلما بكته - صلى الله عليه وسلم - عائشة - رضي الله عنها - فقالت : بأبي من يشبع من خبز الشعير وقد كان يأكل خبز الحنطة وخبز الشعير غير أنه لا يبلغ الشبع منه إما للحال الأولى أو للحال الأخرى . فذكرت أخس الطعامين وأرادت أنه إذا كان لا يشبع منه على خساسته فغيره أحرى أن لا يشبع منه .

        وقد قال عمر - رضي الله عنه - : لو شئت لدعوت بصلاء وصناب وكراكر وأسنمة . وقال : لو شئت لأمرت بفتية فذبحت وأمرت بدقيق فنخل وأمرت بزبيب فجعل في سعن حتى يصير كدم الغزال ، هذا وأشباهه ، ولكني سمعت الله تعالى يقول لقوم أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون وقد يأتي على البخيل الموسر تارات ، لا يحضره فيها مال وله الضيعة والأثاث والديون فيحتاج إلى أن يقترض ، وإلى أن يرهن ، فكيف بمن لا يبقى له درهم ولا يفضل عن مواساته ونوائبه زاد ؟ وكيف يعلم المسلمون وأهل اليسار من صحابته بحاجته إلى الطعام وهو لا يعلمهم ولا ينشط في وقته ذلك إليهم ؟ .

        وقد نجد هذا بعينه في أنفسنا وأشباهنا من الناس ، ونرى الرجل يحتاج إلى الشيء فلا ينشط فيه إلى ولده ولا إلى أهله ولا إلى [ ص: 220 ] جاره ويبيع العلق ويستقرض من الغريب والبعيد ، وإنما رهن درعه عند يهودي لأن اليهود في عصره كانوا يبيعون الطعام ، ولم يكن المسلمون يبيعونه لنهيه عن الاحتكار ، فما الذي أنكروه من هذا حتى أظهروا التعجب منه وحتى رمى بعض المرقة الأعمش بالكذب من أجله .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية