الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتاب الأطعمة والأشربة

والكلام في أصول هذا الكتاب يتعلق بجملتين :

[ ص: 383 ] الجملة الأولى : نذكر فيها المحرمات في حال الاختيار .

الجملة الثانية : نذكر فيها أحوالها في حال الاضطرار .

الجملة الأولى

[ المحرمات في حال الاختيار ]

- والأغذية الإنسانية نبات وحيوان : فأما الحيوان الذي يغتذى به ، فمنه حلال في الشرع ، ومنه حرام ، وهذا منه بري ومنه بحري . والمحرمة منها ما تكون محرمة لعينها ، ومنها ما تكون لسبب وارد عليها . وكل هذه منها ما اتفقوا عليه ، ومنها ما اختلفوا فيه .

فأما المحرمة لسبب وارد عليها : فهي بالجملة تسعة : الميتة ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، وكل ما نقصه شرط من شروط التذكية من الحيوان الذي التذكية شرط في أكله ، والجلالة ، والطعام الحلال يخالطه نجس .

فأما الميتة : فاتفق العلماء على تحريم ميتة البر ، واختلفوا في ميتة البحر على ثلاثة أقوال : فقال قوم : هي حلال بإطلاق . وقال قوم : هي حرام بإطلاق ; وقال قوم : ما طفا من السمك حرام ، وما جزر عنه البحر فهو حلال .

وسبب اختلافهم : تعارض الآثار في هذا الباب ، ومعارضة عموم الكتاب لبعضها معارضة كلية ، وموافقته لبعضها موافقة جزئية ، ومعارضة بعضها لبعض معارضة جزئية .

فأما العموم : فهو قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة ) .

وأما الآثار المعارضة لهذا العموم معارضة كلية فحديثان : الواحد متفق عليه ، والآخر مختلف فيه .

أما المتفق عليه فحديث جابر ، وفيه : " إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا حوتا يسمى العنبر ، أو دابة قد جزر عنه البحر ، فأكلوا منه بضعة وعشرين يوما ، أو شهرا ، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال : هل معكم من لحمه شيء : فأرسلوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكله " . وهذا إنما يعارض الكتاب معارضة كلية بمفهومه لا بلفظه .

وأما الحديث الثاني المختلف فيه : فما رواه مالك عن أبي هريرة : " أنه سئل عن ماء البحر فقال : هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " .

وأما الحديث الموافق للعموم موافقة جزئية ، فما روى إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما طفا فلا تأكلوه " وهو حديث أضعف عندهم من حديث مالك .

وسبب ضعف حديث مالك : أن في رواته من لا يعرف ، وأنه ورد من طريق واحد . قال أبو عمر بن عبد البر : بل رواته معروفون وقد ورد من طرق . وسبب ضعف حديث جابر : أن الثقات أوقفوه على جابر .

فمن رجح حديث جابر هذا على حديث أبي هريرة لشهادة عموم الكتاب له لم يستثن من ذلك إلا ما [ ص: 384 ] جزر عنه البحر إذ لم يرد في ذلك تعارض . ومن رجح حديث أبي هريرة قال بالإباحة مطلقا . وأما من قال بالمنع مطلقا فمصيرا إلى ترجيح عموم الكتاب .

وبالإباحة مطلقا قال مالك ، والشافعي ، وبالمنع مطلقا قال أبو حنيفة ، وقال قوم غير هؤلاء بالفرق .

وأما الخمسة التي ذكر الله مع الميتة : فلا خلاف أن حكمها عندهم حكم الميتة .

وأما الجلالة ( وهي التي تأكل النجاسة ) : فاختلفوا في أكلها . وسبب اختلافهم : معارضة القياس للأثر :

أما الأثر : فما روي : " أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لحوم الجلالة وألبانها " خرجه أبو داود عن ابن عمر .

وأما القياس المعارض لهذا : فهو أن ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم ذلك الحيوان وسائر أجزائه ، فإذا قلنا : إن لحم الحيوان حلال ; وجب أن يكون لما ينقلب من ذلك حكم ما ينقلب إليه ، وهو اللحم ، كما لو انقلب ترابا ، أو كانقلاب الدم لحما . والشافعي يحرم الجلالة ، ومالك يكرهها .

وأما النجاسة تخالط الحلال : فالأصل فيه الحديث المشهور من حديث أبي هريرة وميمونة : " أنه سئل عليه الصلاة والسلام عن الفأرة تقع في السمن ، فقال : إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وكلوا الباقي ، وإن كان ذائبا فأريقوه أو لا تقربوه " .

وللعلماء في النجاسة تخالط المطعومات الحلال مذهبان :

أحدهما : من يعتبر في التحريم المخالطة فقط ، وإن لم يتغير للطعام لون ولا رائحة ولا طعم من قبل النجاسة التي خالطته وهو المشهور ، والذي عليه الجمهور .

والثاني مذهب من يعتبر في ذلك التغير ، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك .

وسبب اختلافهم : اختلافهم في مفهوم الحديث : وذلك أن منهم من جعله من باب الخاص أريد به الخاص ، وهم أهل الظاهر فقالوا : هذا الحديث يمر على ظاهره ، وسائر الأشياء يعتبر فيها تغيرها بالنجاسة أو لا تغيرها بها .

ومنهم من جعله من باب الخاص أريد به العام وهم الجمهور ، فقالوا : المفهوم منه أن بنفس مخالطة النجس ينجس الحلال ، إلا أنه لم يتعلل لهم الفرق بين أن يكون جامدا أو ذائبا لوجود المخالطة في هاتين الحالتين ، وإن كانت في إحدى الحالتين أكثر ( أعني في حالة الذوبان ) ; ويجب على هذا أن يفرق بين المخالطة القليلة والكثيرة ، فلما لم يفرقوا بينهما فكأنهم اقتصروا من بعض الحديث على ظاهره ، ومن بعضه على القياس عليه ، ولذلك أقرته الظاهرية كله على ظاهره .

وأما المحرمات لعينها : فمنها ما اتفقوا أيضا عليه ، ومنها ما اختلفوا فيه . فأما المتفق منها عليه : فاتفق المسلمون منها على اثنين : لحم الخنزير ، والدم .

فأما الخنزير : فاتفقوا على تحريم شحمه ولحمه وجلده ، واختلفوا في الانتفاع بشعره وفي طهارة جلده مدبوغا وغير مدبوغ ، وقد تقدم ذلك في كتاب الطهارة .

وأما الدم : فاتفقوا على تحريم المسفوح منه من الحيوان المذكى ، واختلفوا في غير المسفوح منه .

وكذلك اختلفوا في دم الحوت : فمنهم من رآه نجسا . ومنهم من لم يره نجسا . والاختلاف في هذا كله موجود في مذهب مالك وخارجا عنه .

[ ص: 385 ] وسبب اختلافهم في غير المسفوح : معارضة الإطلاق للتقييد ، وذلك أن قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم يقتضي ) تحريم مسفوح الدم وغيره ، وقوله تعالى : ( أو دما مسفوحا ) يقتضي بحسب دليل الخطاب تحريم المسفوح فقط .

فمن رد المطلق إلى المقيد اشترط في التحريم السفح . ومن رأى أن الإطلاق يقتضي حكما زائدا على التقييد ، وأن معارضة المقيد للمطلق إنما هو من باب دليل الخطاب ; والمطلق عام ، والعام أقوى من دليل الخطاب ; قضى بالمطلق على المقيد ، وقال : يحرم قليل الدم وكثيره .

والسفح المشترط في حرمية الدم إنما هو دم الحيوان المذكى ( أعني : أنه الذي يسيل عند التذكية من الحيوان الحلال الأكل . وأما أكل دم يسيل من الحيوان الحي فقليله وكثيره حرام ، وكذلك الدم من الحيوان المحرم الأكل وإن ذكي فقليله وكثيره حرام ، ولا خلاف في هذا .

وأما سبب اختلافهم في دم الحوت فمعارضة العموم للقياس :

أما العموم : فقوله تعالى : ( والدم ) .

وأما القياس : فما يمكن أن يتوهم من كون الدم تابعا في التحريم لميتة الحيوان ( أعني : أن ما حرم ميتته حرم دمه ، وما حل ميتته حل دمه ) ، ولذلك رأى مالك أن ما لا دم له فليس بميتة .

قال القاضي : وقد تكلمنا في هذه المسألة في كتاب الطهارة ، ويذكر الفقهاء في هذا حديثا مخصصا لعموم الدم قوله عليه الصلاة والسلام : " أحلت لنا ميتتان ودمان " . وهذا الحديث في غالب ظني ليس هو في الكتب المشهورة من كتب الحديث .

وأما المحرمات لعينها المختلف فيها فأربعة :

أحدها : لحوم السباع من الطير ومن ذوات الأربع .

والثاني : ذوات الحافر الإنسية .

والثالث : لحوم الحيوان المأمور بقتله في الحرم .

والرابع : لحوم الحيوانات التي تعافها النفوس وتستخبثها بالطبع .

وحكى أبو حامد عن الشافعي أنه يحرم لحم الحيوان المنهي عن قتله ، قال : كالخطاف والنحل ، فيكون هذا جنسا خامسا من المختلف فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية