الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1599 حديث رابع لإسحاق ، عن أنس مسند

مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح ، وأبا طلحة الأنصاري ، وأبي بن كعب شرابا من فضيخ ، وتمر ، قال : فجاءهم آت ، فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها ، فقال : فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت .

التالي السابق


هذا الحديث وما كان مثله يدخل في المسند عند الجميع ، فأما قوله " فيه شرابا من فضيخ " فقد اختلف في الفضيخ ، فقال أكثر أهل العلم : الفضيخ نبيذ البسر ، وقال أبو عبيد : الفضيخ ما افتضخ من البسر [ ص: 243 ] من غير أن تمسه النار ، قال : وفيه روي عن ابن عمر : ليس بالفضيخ ولكنه الفضوخ ، قال أبو عبيد : فإن كان مع البسر تمر فهو الخليطان ، وكذلك إن كان زبيبا فهو مثله .

قال أبو عمر : في هذا الحديث دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر ، وهو نص لا يجوز الاعتراض عليه ; لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان ، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر ، بل لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره ، أخبرني أحمد بن عبد الله الباجي أن أباه أخبره ، قال : أخبرنا محمد بن فطيس قال : أخبرنا يحيى بن إبراهيم قال : أخبرنا عيسى بن دينار ، عن ابن القاسم ، عن مالك قال : نزل تحريم الخمر وما بالمدينة خمر من عنب ، وروى شعبة ، عن محارب بن دينار ، عن جابر قال : حرمت الخمر يوم حرمت ، وما كان شراب الناس إلا البسر والتمر ، وقال الحكمي :


لنا خمر وليست خمر كرم ولكن من نتاج الباسقات كرام في السماء ذهبن طولا
وفات ثمارها أيدي الجناة

وقد اختلف أهل اللغة في اشتقاق اسم الخمر على ألفاظ قريبة المعاني متداخلة ، كلها موجودة المعنى في الخمر .

[ ص: 244 ] فقال بعضهم : إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخمر العقل أي تغطيه وتستره ، وكل شيء غطى شيئا فقد خمره ، ومنه حديث أبي حميد الساعدي أنه جاء بقدح من لبن ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا خمرته ، ولو أن تعرض عليه عودا ، ومن ذلك خمار المرأة ، سمي خمارا لأنه يغطي رأسها ، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له الخمر ؛ لأنه يغطي ما تحته ويخمره .

وقال آخرون منهم : إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت ، كما يقال خمر الرأي واختمر ، أي ترك حتى تبين فيه الوجه ، ويقال قد اختمر العجين أي بلغ إدراكه .

وقال بعضهم : إنما سميت الخمر خمرا لأنها اشتقت من المخامرة التي هي المخالطة ; لأنها تخالط العقل ، وهذا مأخوذ من قولهم : دخلت في خمار الناس ، أي اختلطت بهم ، وهذا الوجه يقرب من المعنى الأول .

والثلاثة الأوجه كلها موجودة في الخمر ; لأنها تركت حتى أدركت الغليان وحد الإسكار وهي مخالطة للعقل ، وربما غلبت عليه وغطته ، وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه قال : الخمر ما خمرته .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا يوسف بن عدي قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن عمر قال : الخمر من خمسة : من التمر ، والزبيب ، والعسل ، والحنطة ، والشعير ، والخمر ما خمرته .

[ ص: 245 ] وقد أجمع علماء المسلمين في كل عصر وبكل مصر فيما بلغنا وصح عندنا أن عصير العنب إذا رمى بالزبد وهدأ وأسكر الكثير منه أو القليل أنه خمر وأنه ما دام على حاله تلك ، حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير ، رجس نجس كالبول ، إلا ما روي عن ربيعة في نقط من الخمر ، شيء لم أر لذكره وجها ; لأنه خلاف إجماعهم ، وقد جاء عنه في مثل رءوس الإبر من نقط البول نحو ذلك .

والذي عليه عامة العلماء في خمر العنب ما ذكرت لك عنهم من تحريم قليلها وكثيرها ، وأنها عندهم رجس كسائر النجاسات ، إلا أن تحريمها عندهم لعلة الشدة والإسكار ، وليس كذلك تحريم الميتة وما جرى مجراها مما حرم لذاته وعينه ، ولهذا ما اختلف العلماء في تحليل الخمر وفي طيبها عند زوال العلة المذكورة عنها ، وسنذكر اختلافهم في تحليل الخمر في آخر هذا الباب إن شاء الله .

وكخمر العنب عندهم نقيع الزبيب إذا غلا وأسكر ، قليله وكثيره في التحريم سواء ; لأنه عندهم ميت أحيي .

واختلف العلماء في سائر الأنبذة المسكرة ، فقال العراقيون : إنما الحرام منها السكر وهو فعل الشارب ، وأما النبيذ في نفسه فليس بحرام ولا نجس ; لأن الخمر العنب لا غيره بدليل قول الله عز وجل إني أراني أعصر خمرا يعني عنبا .

قال أبو عمر : ليس في هذا دليل على أن الخمر ما عصر من العنب لا غير لما قدمنا ذكره من أن الخمر المعروفة عند العرب ما خمر العقل وخامره ، وذلك اسم جامع للمسكر من عصير العنب وغيره ، وقال أهل [ ص: 246 ] المدينة ، وسائر أهل الحجاز ، وعامة أهل الحديث وأئمتهم : إن كل مسكر خمر حكمه حكم خمر العنب في التحريم والحد على من شرب شيئا من ذلك كله كما هو عند الجميع منهم على شارب خمر العنب .

ومن الحجة لهم أن القرآن قد ورد بتحريم الخمر مطلقا ولم يخص خمر العنب من غيرها ، فكل ما وقع عليه اسم خمر من الأشربة فهو داخل في التحريم بظاهر الخطاب ، والدليل على ذلك أن الخمر نزل تحريمها بالمدينة ، وليس بها شيء من خمر العنب .

قال أبو عمر : لا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر ، وهي مدنية من آخر ما نزل بالمدينة ، وذلك قول الله عز وجل ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ثم قال : فهل أنتم منتهون فنهى عنها وأمر باجتنابها ، كما قال : فاجتنبوا الرجس من الأوثان .

ثم زجر وأوعد من لم ينته أشد الوعيد في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسماها رجسا وقرنها بالميتة والدم ولحم الخنزير بقوله قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا ، والرجس النجاسة ، وقال في الخمر : رجس من عمل الشيطان ، فقرنها بلحم الخنزير .

وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير خبرا ، وفي الخمر نهيا وزجرا ، وهو أقوى التحريم وأوكده عند العلماء ، وفي إجماع أهل الصلاة على هذا التأويل ما يغني عن الإكثار فيه ، وقد مضى في باب إسماعيل بن [ ص: 247 ] أبي حكيم ذكر معنى التحريم في اللغة ، وأنه المنع ، وكل ما منعت منه فقد حرم عليك ، دليل ذلك قول الله عز وجل وحرمنا عليه المراضع من قبل أي منعناه من رضاع غير أمه ، وقال الله عز وجل يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ، وقال تبارك اسمه قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم الآية ، فحصل بهاتين الآيتين أيضا تحريم الخمر نصا .

قرأت على سعيد بن نصر ، فأقر به أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال : حدثنا أبو شهاب ، عن الحسن بن عمرو ، عن طلحة بن مصرف ، عن ابن عباس قال : لما نزل تحريم الخمر مشى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضهم إلى بعض وقالوا : حرمت الخمر ، وجعلت عدلا للشرك .

قال أبو عمر : يعني والله أعلم ، أنه قرنها وعدلها بالذبح للأنصاب ، وذلك شرك .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ [ ص: 248 ] قال : حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وإن الله ورسوله حرما الخمر والميسر والكوبة والغبيرا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى ، عن شعبة قال : حدثني سلمة بن كهيل قال : سمعت أبا الحكم قال : سألت ابن عباس عن نبيذ الجر ، فقال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نبيذ الجر ، والدباء ، وقال ابن عباس : من سره أن يحرم ما حرم الله فليحرم النبيذ ، وذكر يحيى بن سلام ، عن شريك ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة قال : ما أحلت الغنيمة لأحد قبلكم ، ولا حرمت الخمر على قوم قبلكم .

ولما اختلف العلماء فيما تقدم ذكرنا له من مسكر الأنبذة ، وجب الرجوع عند تنازعهم في ذلك إلى ما ورد به الكتاب ، أو قام دليله منه ، أو ثبتت به سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرنا ما يوجبه إطلاق اسم الخمر وما يعرفه أهل اللسان من اشتقاقها .

[ ص: 249 ] وأما السنة فالآثار الثابتة كلها في هذا الباب تقضي على صحة قول أهل الحجاز ، وقد روى أهل العراق فيما ذهبوا إليه آثارا لا يصح شيء منها عند أهل العلم بالحديث ، وقد أكثر الناس في تعليل تلك الأحاديث وفي الاستظهار بتكرير الآثار في تحريم المسكر ، ونحن نذكر منها في هذا الباب ما يغني ويكفي عن التطويل .

وقد مضى في هذا الباب عن عمر - رضي الله عنه - أن الخمر من خمسة أشياء ، وحسبك به عالما باللسان والشرع ، وروى يحيى بن أبي كثير ، عن أبي كثير الغبري السحيمي ، واسمه يزيد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنبة وفي هذا ما يبين لك أن الخمر من غير العنب ، رواه عن يحيى جماعة من أصحابه ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن عمر بن الخطاب أيضا في تأويل الخمر حديثان مبينان موضع الصواب فيما اختلف فيه ، هما جميعا عند الشعبي ، أحدهما عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه ، والآخر عن ابن عمر ، عن عمر .

قوله : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : أخبرنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا يحيى بن آدم قال : حدثنا [ ص: 250 ] إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن من العنب خمرا ، وإن من العسل خمرا ، وإن من البر خمرا ، وإن من الشعير خمرا ، وإن من التمر خمرا قال أبو داود : وحدثنا مالك ، عن عبد الواحد المسمعي قال : حدثنا معتمر قال : قرأت على الفضيل ، عن أبي جرير أن عامرا أخبره أن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة ، وإني أنهاكم عن كل مسكر .

حدثنا عبد الرحمن بن مروان قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن سليمان البغدادي قال : حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال : حدثنا أبو حيان التيمي قال : حدثنا الشعبي ، عن ابن عمر قال : سمعت عمر يخطب على منبر المدينة ، قال : يا أيها الناس ألا إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل ، وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر ما خامر العقل .

[ ص: 251 ] وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر يخطب به عمر بالمدينة على المنبر بمحضر جماعة الصحابة وهم أهل اللسان ، ولم يفهموا من الخمر إلا المعنى الذي ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

وحدثنا عبد الرحمن بن مروان قال : حدثنا أحمد بن عمرو قال : حدثنا البغوي قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، وجدي أحمد بن منيع قالا : حدثنا عبد الله بن إدريس قال : سمعت المختار بن فلفل قال : قال أنس : الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة ، فما خمرت من ذلك فهو الخمر .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عبد العزيز قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن صفوان بن محرز قال : سمعت أبا موسى الأشعري يخطب ، فقال : خمر المدينة من البسر والتمر ، وخمر أهل فارس من العنب ، وخمر أهل اليمن من البتع ، وهو من العسل ، وخمر الحبش السكركة [ ص: 252 ] من الذرة ، وثبت عن النبي عليه السلام أنه قال : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام وقوله كل شراب أسكر فهو حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام .

وأصح شيء في ذلك وأثبته وأشده استقامة في الإسناد حديث مالك وغيره ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن البتع ، فقال : كل شراب أسكر فهو حرام والبتع شراب العسل لا خلاف في ذلك ، فدل على أن الخمر المحرمة قد تكون من غير العنب ، وحديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك صحيح ثابت .

حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدثنا محمد بن معاوية الأموي قال : حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال : حدثنا سويد بن نصر قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : حدثنا محمد بن بكر التمار قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سليمان بن داود ، ومحمد بن عيسى في آخرين ، قالوا : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن مات وهو يشرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة .

[ ص: 253 ] حدثنا عبد الرحمن بن مروان قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن سليمان البغدادي قال : حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا ابن جريج قال : أخبرني موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي قال : حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا الحسن بن منصور قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل مسكر حرام ، وكل مسكر خمر قال الحسين بن منصور : قال أحمد بن حنبل : هذا حديث صحيح .

قال أبو عمر : هكذا روى هذا الحديث أبو حازم بن دينار ، وليث ، وأبو معشر ، وإبراهيم الصائغ ، والأحلج ، وعبد الواحد بن [ ص: 254 ] قيس ، وأبو الزناد ، ومحمد بن عجلان ، وعبيد الله بن عمر العمري كلهم عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا ، كما رواه أيوب السختياني ، وموسى بن عقبة ، وكان عبيد الله بن عمر ربما وقفه ، وكان يقول أحيانا : لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه .

ورواه مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر موقوفا ، والحديث ثابت مرفوع لا يضره تقصير من قصر في رفعه ; لرفع الحفاظ الأثبات له ، ولاجتماع الجماعة من رواة نافع على رفعه ، منهم أيوب ، وموسى ، وسائر من ذكرنا .

ومما يدل على صحة رفعه رواية محمد بن عمرو له عن أبي سلمة ، عن ابن عمر ، عن النبي عليه السلام مرفوعا ، وكذلك رواه زيد بن أسلم ، وعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر مرفوعا ، وكذلك رواه جماعة عن سالم ، عن ابن عمر مرفوعا ، فكيف يحل لأحد أن يتأول في الأنبذة المسكرة أنها حلال ؟ والنبي عليه السلام قد بين أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام ، نعوذ بالله من الخذلان ومن سلوك سبيل الضلال .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : أخبرنا محمد بن بكر قال : حدثنا سليمان بن الأشعث قال : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا [ ص: 255 ] إسماعيل - يعني ابن جعفر - عن داود بن بكر بن أبي الفرات ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أسكر كثيره فقليله حرام وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن رافع النيسابوري قال : حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني قال : سمعت النعمان - يعني ابن المنذر - الصنعاني يقول : عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كل مخمر خمر ، وكل مسكر حرام وذكر تمام الحديث .

وهذه كلها نصوص في موضع الخلاف لمن أراد الله في المسكر أن يهديه ويشرح صدره .

والآثار في تحريم ما أسكر كثيره كثيرة جدا يطول الكتاب بذكرها ، وقد ذكرها جماعة من العلماء ، منهم ابن المبارك وغيره ، وقال أحمد بن شعيب في كتابه : إن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي ، وهذه زلة من عالم ، وقد حذرنا من زلة العالم ، ولا حجة في قول أحد مع السنة .

[ ص: 256 ] وقد زعمت طائفة أن أبا جعفر الطحاوي - وكان إمام أهل زمانه - ذهب إلى إباحة الشرب من المسكر ما لم يسكر ، وهذا لو صح عنه لم يحتج به على من ذكرنا قولهم من الأئمة المتبعين في تحريم المسكر ما ثبت من السنة ، وأنا أذكر ما حكاه الطحاوي ليتبين لك أن الأمر ليس كما ظنوا ، قال أبو جعفر في كتابه الكبير في الاختلاف : اتفقت الأمة أن عصير العنب إذا اشتد وغلا وقذف بالزبد فهو خمر ، ومستحله كافر ، واختلفوا في نقيع التمر إذا غلا وأسكر ، قال : فهذا يدل على أن حديث يحيى بن أبي كثير ، عن أبي كثير ، عن أبي هريرة ، عن النبي عليه السلام أنه قال : الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنبة غير معمول به عندهم ؛ لأنهم لو قبلوا الحديث لكفروا مستحل نقيع التمر ; فثبت أنه لم يدخل في الخمر المحرمة غير عصير العنب الذي قد اشتد وبلغ أن يسكر ، قال : ثم لا تخلو الخمر من أن يكون التحريم معلقا بها فقط غير مقيس عليها غيرها ، أو يجب القياس عليها ، فوجدناهم جميعا قد قاسوا عليها نقيع التمر إذا غلا وأسكر كثيره ، وكذلك نقيع الزبيب ، قال : فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة ، قال : وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل مسكر حرام واستغني عن ذكر سنده لقبول الجميع له ، وإنما الخلاف بينهم في تأويله ، فقال بعضهم : أراد به ما يقع السكر عنده ، كما لا يسمى قاتلا إلا مع وجود القتل ، وقال آخرون : أراد به جنس ما يسكر ، قال : وقد روى [ ص: 257 ] أبو عون الثقفي ، عن عبد الله بن شداد ، عن ابن عباس قال : حرمت الخمر بعينها ، القليل منها والكثير ، والسكر من كل شراب قال في هذا الحديث : إن غير الخمر لم يحرم عينه ، كما حرمت الخمر بعينها ، هذا آخر قوله ، وفيما مضى كفاية ، والحمد لله .

أخبرنا عبد الرحمن بن مروان قال : أخبرنا أحمد بن عمرو بن سليمان قال : حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن أبي عدي جميعا عن حميد ، عن أنس قال : كنت في بيت أبي طلحة وعنده أبي بن كعب ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسهيل بن بيضاء ، وأنا أسقيهم شرابا ، حتى إذا أخذ فيهم إذا رجل من المسلمين ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت ، فوالله ما انتظروا حتى يعلموا أو يسألوا عن ذلك ، قال : فقالوا يا أنس اكفأ ما في إنائك ، قال : فكفأته ، قال : فما عادوا فيها حتى لقوا الله ، وشرابهم يومئذ خليط البسر والتمر .

قال أبو عمر : هذا يبين لك أن الفضيخ المذكور في حديث إسحاق ، عن أنس أنه خليط البسر والتمر ، وهذا على نحو ما فسره أهل اللغة ، والله أعلم .

[ ص: 258 ] وقد روى هذا الحديث عن أنس جماعة يطول ذكرهم ، منهم سليمان التيمي ، وقتادة ، وعبد العزيز بن صهيب ، والمختار بن فلفل ، وثابت البناني ، وأبو التياح ، وأبو بكر بن أنس ، وخالد بن الفزر ، لم يذكر واحد منهم كسر الجرار إلا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وحده ، وإنما في حديثهم أنه كفأها ، ولا بأس بالاستمتاع بظروف الخمر بعد تطهيرها وغسلها بالماء وتنظيفها ، إلا أن الزقاق التي قد بالغتها الخمر وداخلتها إن عرف أن الغسل لا يبلغ منها مبلغ التطهير لها لم ينتفع بشيء منها .

وفي هذا الحديث أيضا : قبول خبر الواحد لأنهم قبلوا خبر المخبر لهم ، وهو رجل من المسلمين ، ولا شك أنهم قد عرفوه ، ولذلك قبلوا خبره وعملوا به وأراقوا شرابهم ، وقد كان ملكا لهم قبل التحريم .

وفيه : أن المحرم لا يحل ملكه ، وأن الخمر لا يستقر عليها ملك مسلم بحال ، وفيه أنها كانت مباحة معفوا عنها حتى نزل تحريمها ، قال سعيد بن جبير رحمه الله : كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا .

[ ص: 259 ] وقد كانت الشدة والإسكار موجودين في الخمر قبل تحريمها ، ولم يكن ذلك بموجب لتحريمها ; لأن العلة في التحريم ما يقرع السمع من الكتاب والسنة ، وإنما كانت الشدة وصفا من أوصاف الخمر ، فلما ورد الشرع بتحريم المسكر صار الإسكار والشدة فيها علما للتحريم بدليل الاعتبار في ذلك ، وهذا موضع تنازع فيه من نفى القياس ومن أثبته ، والكلام فيه يطول .

وفي هذا الحديث أيضا : ما كان القوم عليه من البدار إلى الطاعة ، والانتهاء عما نهوا عنه .

وفيه حجة لمن قال : إن الخمر لا تخلل ; لأنه لو جاز تخليلها والانتفاع بها لكان في إراقتها إضاعة المال ، وقد نهي عن إضاعة المال ، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا لمسلم إنه أتلف له مالا ، وقد أراق عثمان بن أبي العاصي خمر اليتيم ، وأريقت بين يدي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

ومن حديث أنس أن أبا طلحة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرا يجعله خلا ؟ فكرهه . وروى مجالد بن سعيد ، عن أبي الوداك جبر بن نوف ، عن أبي سعيد الخدري قال : [ ص: 260 ] كان عندي خمر لأيتام ، فلما نزل تحريم الخمر أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نهرقها ، وروى سفيان الثوري ، عن السدي ، عن أبي هبيرة ، واسمه يحيى بن عباد ، عن أنس بن مالك قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه في حجره يتيم ، وكان عنده خمر له - حين حرمت الخمر - فقال : يا رسول الله نصنعها خلا ؟ قال : لا ، وسنذكر آثار هذا الباب بأسانيدها في باب زيد بن أسلم ، عن أبي وعلة من هذا الكتاب ، فبهذا احتج من كره تخليل الخمر ، ولم يبح أكلها إذا تخللت ، وقالوا : لو جاز تخليلها لم يأمر رسول الله بإراقتها ، وقد استؤذن في تخليلها ، فقال : لا ، ونهى عن ذلك .

ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي ، وإليه مال سحنون بن سعيد .

وقال آخرون : لا بأس بتخليل الخمر ، ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي وبغير معالجته على كل حال ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، والكوفيين .

ومن حجة هؤلاء إجماع العلماء على أن العصير من العنب قبل أن يسكر حلال ، فإذا صار مسكرا حرم لعلة ما حدث فيه من الشدة والإسكار ، فإذا زال ذلك عادت الإباحة وزال التحريم ، وسواء تخللت من ذاتها أو تخللت بمعالجة آدمي ، لا فرق بين شيء من ذلك إذا ذهب منها حال الإسكار .

[ ص: 261 ] وأجاز أبو حنيفة وأصحابه مع تخليلها أن يصنع من الخمر المربى وغيره ، وبأي وجه أفسدت وزالت علة السكر منها طابت عندهم وطهرت ، وأما غيرهم ممن ذكرنا عنهم إجازة تخليل الخمر فإنهم لا يجيزون منها غير الخل على أصلها .

ولم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخل حلال .

واختلف قوله في تخليلها ، فكرهه مرة وأجازه أخرى ، والأشهر عنه كراهية ذلك ، وتحصيل مذهبه أنه لا ينبغي لمسلم أن يمسك خمرا ولا مسكرا ليتخلل ، ولا ينبغي لأحد أن يخللها ، فإن فعل أكلها ، وكره له فعل ذلك ، وقد روي عن عمر بن الخطاب ، وقبيصة ، وابن شهاب ، وربيعة كراهية تخليل الخمر ، وإجازة أكلها إذا تخللت بذاتها ، وهو أحد قولي الشافعي ، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه ، وعلى هذا أكثر العلماء لأنه يجتمع على هذا القول مذهب من أجاز تخليلها بكل وجه فيه ، ومذهب من أباحها إذا تخللت من ذاتها ، وقد روي عن ابن عمر جواز تخليل الخمر من وجه فيه لين ، والصحيح عنه إجازة أكلها إذا صارت خلا ، ذكر ابن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسا أن يأكل مما كان خمرا فصار خلا ، قال : وأخبرنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن أبيه ، عن مسربل العبدي ، عن أمه قالت : سألت عائشة عن خل الخمر ، قالت : لا بأس به هو إدام .

[ ص: 262 ] وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يصطبغ في خل خمر ، وهذا يحتمل أن يكون أراد خل عنب ، وذكر ابن أبي شيبة قال : حدثنا أزهر ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين أنه كان يكره أن يقول : خل خمر ، وكان يقول : خل عنب ، وكان يصطبغ فيه .

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعم الإدام الخل وهذا على عمومه .

قال أبو عمر : وأعدل شيء في هذا الباب ما روي عن عمر رضي الله عنه فيه ، أخبرنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن القاسم بن محمد ، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب ، عن عمر بن الخطاب ، أنه قال : لا يؤكل خل من خمر أفسدت حتى يبدأ الله إفسادها ، فعند ذلك يطيب الخل ، قال : ولا بأس على امرئ أن يبتاع خلا وجده مع أهل الكتاب ما لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها بعدما عادت خمرا .

قال ابن وهب : وأخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أنه كان يقول : لا خير في خل من خمر أفسدت حتى يكون الله يفسدها ، عند ذلك يطيب الخل ، قال ابن وضاح : ورأيت سحنون يذهب إلى أن الخمر إذا خللت لم يؤكل خلها تعمد ذلك أو لم يتعمد .

[ ص: 263 ] قال أبو عمر : ليس في النهي عن تخليلها والأمر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا تخللت من ذاتها لأنه يحتمل أن يكون ذلك كان عند نزول تحريمها لئلا يستدام حبسها ; لقرب العهد بشربها ، إرادة قطع العادة ، ولم يسأل عن خمر تخللت فنهى عنها .

وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : كان مالك بن أنس يقول بقول عمر بن الخطاب : لا يؤكل خل من خمر أفسدت حتى يكون الله هو الذي بدأ إفسادها ، قال محمد : وبه أقول ، قال : ثم رجع مالك فقال : إن فعل ذلك جاز أكلها ، على تكره منه ، قال : وقول عمر أحب إلي .

قال أبو عمر : قد ذكرنا قول من زعم أن العلة في تحريمها الشدة فإذا زالت حلت ، ولكل قول وجه يطول شرحه والاحتجاج له ، وقد زدنا هذه المسألة بسطا وبيانا في باب زيد بن أسلم عن أبي وعلة ، والحمد لله .




الخدمات العلمية