الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأما العبد فلا يجب عليه [ الحج ; لأن منافعه مستحقة لمولاه ، وفي إيجاب الحج عليه إضرار بالمولى ] ويصح منه ; لأنه من أهل العبادة ، فصح منه الحج كالحر ، فإن أحرم بإذن السيد وفعل ما يوجب الكفارة ، فإن ملكه السيد مالا وقلنا : إنه يملكه لزمه الهدي ( وإن قلنا ) : لا يملك أو لم يملكه السيد وجب عليه الصوم ( ويجوز ) للسيد أن يمنعه من الصوم ; لأنه لم يأذن في سببه ، وإن أذن له في التمتع أو القران وقلنا : لا يملك المال صام ، وليس للمولى منعه من الصوم ; لأنه وجب بإذنه ( وإن قلنا : ) [ إنه ] يملك ففي الهدي قولان ( أحدهما ) يجب في مال السيد ; لأنه وجب بإذنه ( والثاني ) لا يجب عليه ; لأن إذنه رضاء بوجوبه على عبده لا في ماله ، ولأن موجب التمتع في حق العبد هو الصوم ; لأنه لا يقدر على الهدي ، فلا يجب عليه الهدي )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج ; لأن منافعه مستحقة لسيده ، فليس هو مستطيعا ، ويصح منه الحج بإذن سيده وبغير إذنه بلا خلاف عندنا ، قال القاضي أبو الطيب : وبه قال الفقهاء كافة ، وقال داود : لا يصح بغير إذنه . دليلنا ذكره المصنف ، قال أصحابنا : فإن أحرم بإذنه لم يكن للسيد تحليله ، سواء بقي نسكه صحيحا أو أفسده ، ولو باعه والحالة هذه لم يكن للمشتري تحليله ، وله الخيار إن جهل إحرامه ، قال أصحابنا : ويصح بيعه بلا خلاف ، ويخالف بيع العين المستأجرة على قول ; لأن يد المستأجر تمنع المشتري من التصرف بخلاف [ ص: 41 ] العبد ، ولو أحرم بغير إذنه فالأولى أن يأذن له في إتمام نسكه ، فإن حلله جاز على المذهب ، وبه قطع المصنف في باب الفوات والإحصار وجمهور الأصحاب . وحكى ابن كج وجها أنه ليس له تحليله ; لأنه يلزم بالشروع تخريجا من أحد القولين في المزوجة إذا أحرمت بحج تطوع ، وهذا شاذ منكر ; لأن إذن السيد تبرع فجاز الرجوع فيه كالعارية ، فلو باعه والحالة هذه فللمشتري تحليله ولا خيار له ، ذكره البندنيجي والجرجاني في المعاياة وآخرون ، ولو أذن له في الإحرام فله الرجوع في الإذن قبل الإحرام ، فإن رجع ولم يعلم العبد فأحرم فهل له تحليله ؟ فيه وجهان مشهوران في طريقتي العراق وخراسان ، قال أصحابنا : هما مبنيان على القولين فيما إذا عزل الموكل الوكيل ، وتصرف بعد العزل وقبل العلم ( أصحهما ) له تحليله كما أن الأصح هناك بطلان تصرفه . وإن علم العبد رجوع السيد قبل الإحرام ثم أحرم فله تحليله وجها واحدا ; لأنه أحرم بغير إذن ، ويجيء فيه الوجه السابق عن حكاية ابن كج ، وإن رجع السيد بعد إحرام العبد لم يصح رجوعه ولم يكن له تحليله عندنا ، وقال أبو حنيفة : له ذلك كالعارية يرجع فيها متى شاء ، ودليلنا : أنه عقد عقده بإذن سيده فلم يكن لسيده إبطاله كالنكاح ، ولأن من صح إحرامه بإذن غيره لم يكن للغير إبطاله كالزوج ( والجواب ) عن العارية أن الرجوع فيها لا يبطل ما مضى بخلاف الإحرام ، والله أعلم .



                                      قال أصحابنا : ولو أذن له في العمرة فأحرم بالحج فله تحليله ، ولو كان بالعكس لم يكن له تحليله ، هكذا ذكره البغوي قال : لأن العمرة دون الحج . وقال الدارمي : إن أذن له في حج فأحرم بعمرة أو في عمرة فأحرم بحج فله تحليله ، وقيل : لا يحلله ، وذكر الرافعي كلام البغوي ، ثم قال فيما إذا أذن في حج فأحرم بعمرة : ظني أنه لا يسلم عن خلاف ، هذا كلام الرافعي فحصل في الصورتين ثلاثة أوجه : ( أصحها ) وبه قطع البغوي له أن يحلله فيما إذا أذن في عمرة فأحرم بحج دون عكسه ( والثاني ) [ ص: 42 ] له تحليله فيهما ، وهو اختيار الدارمي ( والثالث ) ليس له فيهما ، وهذا غلط في صورة الإذن في عمرة ; لأنه زيادة على المأذون فيه ، ولو أذن له في التمتع فله منعه من الحج بعد تحلله من العمرة وقبل إحرامه بالحج ، كما لو رجع في الإذن قبل الإحرام بالعمرة ، ويجيء فيه الوجه السابق عن ابن كج ، وليس له تحليله من العمرة ولا من الحج بعد الشروع فيهما . ولو أذن في الحج أو التمتع فقرن ليس له تحليله بالاتفاق ، صرح به البغوي وآخرون ; لأن الإذن في التمتع إذن في الحج هذا هو المعروف ، وفي كلام الدارمي إشارة إلى خلاف فيه ، فإنه قال : لو أذن له في القران فأفرد أو تمتع يحتمل وجهين ، وكذا إن أذن في الإفراد فقرن أو تمتع ، وكذا لو أذن في التمتع أو الإفراد فقرن ، هذا آخر كلام الدارمي .



                                      قال الدارمي : فلو أذن في الإحرام مطلقا فأحرم وأراد صرفه إلى نسك وأراد السيد غيره فوجهان : ( أحدهما ) القول قول العبد ( والثاني ) هو كاختلاف الزوجين إذا قالت : راجعتني بعد انقضاء عدتي ، وقال : قبلها ( فإن قلنا ) قولان فمثله ( وإن قلنا ) : القول قول الزوج في الرجعة . وقولها في انقضاء العدة فمثله ( وإن قلنا ) يراعى السابق بالدعوى فمثله ، قال البغوي وغيره : ولو أذن له في الإحرام في ذي القعدة فأحرم في شوال ، فله فيه تحليله قبل دخول ذي القعدة ، ولا يجوز بعد دخوله ، قال الدارمي : ولو أذن له في الإحرام من مكان فأحرم من غيره فله تحليله ، ومراد الدارمي إذا أحرم من أبعد منه قال الدارمي : ولو قال العبد لسيده أذنت لي في الإحرام وقال السيد : لم آذن ، فالقول قول السيد



                                      قال : ولو نذر العبد حجا ، ففي صحته وجهان ، فإن صححنا فعله بعد عتقه وبعد حجة الإسلام ، وإن أذن له السيد في فعله رقيقا ففعله ، ففي صحته الوجهان المشهوران في قضاء الصبي والعبد للحجة الفاسدة في حال الصبا والرق ، والأصح عند الأصحاب صحة نذره والله أعلم .



                                      قال أصحابنا : وأم الولد والمدبر والأمة المزوجة والمعلق عتقه بصفة ، ومن بعضه رقيق كالعبد القن في كل ما ذكرناه وما سنذكره إن شاء الله [ ص: 43 ] تعالى - في إحرام العبد وما يتعلق به سواء ،



                                      ولو أحرم المكاتب بغير إذن مولاه ففي جواز تحليله لسيده طريقان : ( أحدهما ) فيه قولان كمنعه من سفر التجارة ( والثاني ) له تحليله قطعا ; لأن للسيد منفعة في سفره للتجارة ، بخلاف الحج ، وهذا الثاني أصح ، وممن صححه البندنيجي . وقد ذكر المصنف المسألة في آخر باب الفوات والإحصار ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) إذا أفسد العبد الحجة بالجماع فهل يلزمه القضاء ؟ فيه طريقان : ( أحدهما ) فيه وجهان كالصبي حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه والبندنيجي والمصنف في باب محظورات الإحرام وطائفة قليلة ( الصحيح ) لزومه ( والثاني ) لا يلزمه ، وهذا الطريق غريب ( والطريق الثاني ) وهو الصحيح وبه قطع جماهير الأصحاب في كل الطرق أنه يلزمه القضاء بلا خلاف ; لأنه مكلف بخلاف الصبي على قول ، وهل يجزئه القضاء في حال رقه ؟ فيه قولان كما سبق في الصبي : ( أصحهما ) يجزئه فإن قلنا : لم يلزم السيد أن يأذن له في القضاء إن كان إحرامه الأول بغير إذنه ، وكذا إن كان بإذنه على أصح الوجهين ; لأنه لم يأذن في الإفساد ، هكذا ذكره البندنيجي والبغوي وآخرون وهو الصحيح وقال المصنف في باب محظورات الإحرام وآخرون : إن قلنا : القضاء على التراخي لم يلزم السيد الإذن ، وإلا فوجهان ، قال المصنف وسائر الأصحاب فإذا قلنا : يجزئه القضاء في حال الرق فشرع فيه فعتق قبل الوقوف بعرفات أو حال الوقوف أجزأه عن حجة الإسلام ، وإن قضى بعد العتق فهو كالصبي إذا قضى بعد البلوغ ، فإن كان عتقه قبل الوقوف أو حال الوقوف أجزأه القضاء عن حجة الإسلام ; لأنه لولا فساد الأداء لأجزأه عن حجة الإسلام ، وإن كان عتقه بعد الوقوف لم يجزئه القضاء عن حجة الإسلام ، فعليه حجة الإسلام ، ثم حجة القضاء . وقد سبق بيان هذا واضحا قريبا في جماع الصبي في الإحرام ، وذكرنا هناك القاعدة المتناولة لهذه المسألة ونظائرها ، والله أعلم .



                                      [ ص: 44 ] فرع ) كل دم لزم العبد المحرم بفعل محظور كاللباس والصيد أو بالفوات لم يلزم السيد بحال ، سواء أحرم بإذنه أم بغيره ؟ ; لأنه لم يأذن في ارتكاب المحظور ، ثم إن المذهب الصحيح الجديد أن العبد لا يملك المال بتمليك السيد وعلى القديم يملك به ، فإن ملكه ، وقلنا : يملك لزمه إخراجه وعلى الجديد فرضه الصوم ، وللسيد منعه في حال الرق إن كان أحرم بغير إذنه ، وكذا بإذنه على أصح الوجهين ; لأنه لم يأذن في التزامه ، ولو قرن أو تمتع بغير إذن سيده فحكم دم القران والتمتع حكم دماء المحظورات ، وإن قرن أو تمتع بإذنه فهل يجب الدم على السيد أم لا ؟ قال في الجديد : لا يجب ، وهو الأصح وفي القديم قولان : ( أحدهما ) هذا ( والثاني ) يجب ، بخلاف ما لو أذن له في النكاح ، فإن السيد يكون ضامنا للمهر على القول القديم قولا واحدا ; لأنه لا بدل للمهر وللدم بدل ، وهو الصوم والعبد من أهله . وعلى هذا لو أحرم بإذن السيد فأحصر وتحلل ( فإن قيل ) : لا بدل لدم الإحصار صار السيد ضامنا على القديم قولا واحدا ( وإن قلنا ) : له بدل ففي صيرورته ضامنا له في القديم قولان وإذا لم نوجب الدم على السيد فواجب العبد الصوم ، وليس لسيده منعه على أصح الوجهين ، وبه قطع البندنيجي لإذنه في سببه ، ولو ملكه سيده هديا وقلنا : يملكه أراقه وإلا لم تجز إراقته ، ولو أراقه السيد عنه فعلى هذين القولين ، ولو أراق عنه بعد موته أو أطعم عنه جاز قولا واحدا ; لأنه حصل الإياس من تكفيره ، والتمليك بعد الموت ليس بشرط ; ولهذا لو تصدق عن ميت جاز . وهذا الذي ذكرناه من جواز الهدي والإطعام عنه بعد موته بلا خلاف فيه ، صرح به الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمحاملي والبندنيجي والبغوي والمتولي وسائر الأصحاب ، وصرحوا بأنه لا خلاف فيه ، قال أصحابنا : ولو عتق العبد قبل صومه ووجد هديا ، فعليه الهدي إن اعتبرنا في الكفارة حال الأداء ، أو الأغلظ ، وإن اعتبرنا حال الوجوب فله الصوم ، وهل له الهدي ؟ فيه قولان حكاهما البغوي وآخرون : ( أصحهما ) له ذلك [ ص: 45 ] كالحر المعسر يجد الهدي ( والثاني ) ; لأنه لم يكن من أهله حال الوجوب بخلاف الحر المعسر والله أعلم .



                                      ( فرع ) إذا نذر العبد الحج ، فهل يصح منه في حال رقه ؟ قال الروياني فيه وجهان كما في قضاء الحجة التي أفسدها .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : حيث جوزنا للسيد تحليله أردنا أنه يأمره بالتحلل لا أنه يستقل بما يحصل به التحلل ; لأن غايته أن يستخدمه ويمنعه المضي ، ويأمره بفعل المحظورات أو يفعلها به ، ولا يرتفع الإحرام بشيء من هذا بلا خلاف . وحيث جاز للسيد تحليله ، جاز للعبد التحلل ، وطريق التحلل أن ينظر ( فإن ) ملكه السيد هديا - وقلنا : يملكه - ذبح ونوى التحلل ، وحلق ونوى به أيضا التحلل ، وإن لم يملكه فطريقان : ( أحدهما ) أنه كالحر ، فيتوقف تحلله على وجود الهدي إن قلنا : لا بدل لدم الإحصار - أو على الصوم إن قلنا له بدل ، هذا كله على أحد القولين ، وعلى أظهرهما لا يتوقف بل يكفيه نية التحلل والحلق إن قلنا : هو نسك ( والطريق الثاني ) القطع بهذا القول الثاني ، وهذا الطريق هو الأصح عند الأصحاب لعظم المشقة في انتظار العتق ، وأن منافعه لسيده ، وقد يستعمله في محظورات الإحرام ، وقد ذكر المصنف تحليل العبد ، وما يتعلق به في باب الفوات والإحصار ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) حيث جاز تحليله فأعتقه السيد قبل التحلل لم يجز له التحليل بل يلزمه إتمام الحج ; لأن التحلل إنما جاز لحق السيد ، وقد زال ، فإن فاته الوقوف فله حكم الفوات في حق الحر الأصلي . هكذا صرح به الدارمي وغيره ، وهو ظاهر .




                                      الخدمات العلمية