الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4485 (48) باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                              [ 2358 ] عن المسور بن مخرمة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، وهو يقول : إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فلا آذن لهم ، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم ، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم ، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها .

                                                                                              وفي رواية : أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له : إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك ، وهذا علي ناكحا ابنة أبي جهل ، قال : المسور : فقام النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                              وفي رواية : يخطب الناس في ذلك على منبره هذا، وأنا يومئذ محتلم فسمعته حين تشهد، قال : "أما بعد ، فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني" .

                                                                                              وفي رواية : "ووعدني، وإن فاطمة بنت محمد مضغة مني، وإنما أكره أن يفتنوها".

                                                                                              وفي رواية : "في دينها ، وإني لست أحرم حلالا، ولا أحل حراما ، وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا" . قال : فترك علي الخطبة .


                                                                                              رواه أحمد (4 \ 328)، والبخاري (5230)، ومسلم (2449) (93 - 96)، وأبو داود (2071)، والترمذي (3867)، وابن ماجه (1998).

                                                                                              [ ص: 351 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 351 ] (48) ومن باب فضائل فاطمة رضي الله عنها- بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ

                                                                                              سيدة نساء العالمين رضي الله عنها ، وقد اختلف في أصغر بنات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قال أبو عمر : والذي تسكن النفس إليه : أن زينب هي الأولى ، ثم رقية ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ولدت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنة إحدى وأربعين من مولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتزوجها علي - رضي الله عنهما - بعد وقعة أحد . وقيل : بعد أن ابتنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعائشة - رضي الله عنها - بأربعة أشهر ونصف شهر ، وبنى بها علي بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف ، وكان سنها يوم تزوجها رضي الله عنهما خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصفا ، وسن علي يومئذ : إحدى وعشرون سنة وستة أشهر ، وولدت له الحسن والحسين ، وأم كلثوم ، وزينب ، وتوفيت بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيسير . قيل : بثمانية أشهر . وقيل : بستة أشهر . وقيل : بثلاثة أشهر . وقيل : بسبعين يوما . وقيل : بمائة يوم . وهي أحب بنات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه ، وأكرمهن عنده ، وسيدة نساء أهل الجنة على ما تقدم في باب خديجة . وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قدم من سفر يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ، ثم يبدأ ببيت فاطمة فيسأل عنها ، ثم يدور على سائر نسائه ، إكراما لها ، واعتناء بها ، وهي أول من ستر [ ص: 352 ] نعشها في الإسلام ، وذلك أنها لما احتضرت قالت لأسماء بنت عميس : إني قد استقبحت ما يفعل بالنساء ، إنه يطرح على المرأة الثوب يصفها ، فقالت أسماء : يا ابنة رسول الله ! ألا أريك شيئا رأيته في الحبشة ؟! فدعت بجرائد رطبة ، فحنتها ، ثم طرحت عليها ثوبا ، فقالت فاطمة : ما أحسن هذا وأجمله ، تعرف به المرأة من الرجل ، فإذا أنا مت ، فاغسليني أنت وعلي ، ولا تدخلي أحدا . فلما توفيت جاءت عائشة لتدخل ، فقالت أسماء : لا تدخلي . فشكت إلى أبي بكر فقالت : إن هذه الخثعمية تحول بيننا وبين بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد جعلت لها مثل هودج العروس ، فجاء أبو بكر فوقف على الباب ، فقال : يا أسماء ! ما حملك على أن منعت أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدخلن على بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وجعلت لها مثل هودج العروس ؟ فقالت : أمرتني ألا يدخل عليها أحد ، وأريتها هذا الذي صنعت ، فأمرتني أن أصنع ذلك بها . قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : اصنعي ما أمرتك ، ثم انصرف . وغسلها علي ، وأشارت أن يدفنها ليلا ، وصلى عليها العباس ، ونزل في قبرها هو وعلي والفضل ، وتوفيت وهي بنت ثلاثين سنة ، وقيل : بنت خمس وثلاثين .

                                                                                              و (قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن فاطمة بضعة مني ، يريبني ما رابها ") البضعة - بفتح الباء - : القطعة من اللحم ، وتجمع بضاع ، كقصعة وقصاع ، وهي مأخوذة من البضع ، وهو القطع ، وقد سماها في الرواية الأخرى : مضغة ، وهي قدر ما يمضغها الماضغ ، ويعني بذلك : أنها كالجزء منه يؤلمه ما آلمها . و" يريبني ما رابها " : أي يشق علي ويؤلمني . يقال : رابني فلان : إذا رأيت منه ما تكرهه - ثلاثيا - والاسم منه : الريبة .

                                                                                              [ ص: 353 ] وهذيل تقول فيه : أرابني - رباعيا- والمشهور : أن أراب : إنما هو بمعنى صار ذا ريبة ، فهو مريب ، وارتاب بمعنى : شك ، والريب : الشك .

                                                                                              و (قولها : " هذا علي ناكحا ابنة أبي جهل ") كذا الرواية : ناكحا بالنصب على الحال ، لأن الكلام قبله مستقل بنفسه ، لأن قولها : " هذا علي " ، كقولك : هذا زيد ، لكن رفعه أحسن لو روي ، لأنه هو المقصود بالإفادة ، و" علي " توطئة له .

                                                                                              و (قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا آذن ، ثم لا آذن ، ثم لا آذن ") تأكيد لمنع الجمع بين فاطمة ، وبين ابنة أبي جهل ، لما خاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فاطمة من الفتنة من أجل الغيرة ، ولما توقع من مناكدة هذه الضرة ، لأن عداوة الآباء قد تؤثر في الأبناء .

                                                                                              و (قوله : " وإني لست أحرم حلالا ، ولا أحل حراما ") صريح في أن الحكم بالتحليل والتحريم من الله تعالى ، وإنما الرسول مبلغ ، ويستدل به في منع اجتهاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأحكام ، ومن منع جواز تفويض الأحكام إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا حجة فيه ، لأن اجتهاد المجتهد لا يوجب الأحكام ، ولا ينشئها ، وإنما هو مظهر لها ، [ ص: 354 ] كما أوضحناه في الأصول .

                                                                                              ويفيد هذا : أن حكم الله على علي ، وعلى غيره التخيير في نكاح ما طاب له من النساء إلى الأربع ، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما منع عليا من ذلك لما خاف على ابنته من المفسدة في دينها من ضرر عداوة تسري إليها ، فتتأذى في نفسها ، فيتأذى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسببها ، وأذى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرام ، فيحرم ما يؤدي إليه . ففيه القول بسد الذرائع ، وإعمال المصالح ، وأن حرمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم من حرمة غيره ، وتظهر فائدة ذلك : بأن من فعل منا فعلا يجوز له فعله لا يمنع منه ، وإن تأذى بذلك الفعل غيره ، وليس ذلك حالنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل يحرم علينا مطلقا فعل كل شيء يتأذى به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان في أصله مباحا ، لكنه إن أدى إلى أذى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ارتفعت الإباحة ، ولزم التحريم .

                                                                                              وفيه : ما يدل على جواز غضب الرجل لابنته وولده وحرمه ، وعلى الحرص في دفع ما يؤدي لضررهم ، إذا كان ذلك بوجه جائز .

                                                                                              وفيه ما يدل على جواز خطبة الإمام الناس وجمعهم لأمر يحدث .

                                                                                              و (قوله : " والله لا تجتمع ابنة نبي الله وابنة عدو الله عند رجل واحد أبدا ") دليل على أن الأصل أن ولد الحبيب حبيب ، وولد العدو عدو ، إلى أن يتيقن خلاف ذلك ، وقد استنبط بعض الفقهاء من هذا منع نكاح الأمة على الحرة ، وليس بصحيح ، لأنه يلزم منه منع نكاح الحرة الكتابية على المسلمة ، ومنع نكاح ابنة المرتد على من ليس أبوها كذلك ، ولا قائل به فيما أعلم . فدل ذلك على أن ذلك الحكم مخصوص بابنة أبي جهل وفاطمة رضي الله عنها .

                                                                                              و (قوله : " فترك علي الخطبة ") يعني : لابنة أبي جهل وغيرها ، ولم يتزوج عليها ، ولا تسرى حتى ماتت رضي الله عنها .

                                                                                              [ ص: 355 ] و (قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن أبا العاص بن الربيع حدثني فصدقني ، ووعدني فوفى لي ") أبو العاص هذا : هو زوج ابنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زينب رضي الله عنها ، واسمه : لقيط -على الأكثر - . وقيل : هشيم بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف ، وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة لأبيها ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أنكحه زينب ، وهي أكبر بناته وذلك بمكة فأحسن عشرتها ، وكان محبا لها ، وأرادت منه قريش أن يطلقها فأبى ، فشكر له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ، ثم إنه حضر مع المشركين ببدر فأسر ، وحمل إلى المدينة ، فبعثت فيه زينب قلادتها ، فردت عليها ، وأطلق لها ، وكان وعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرسلها إليه ففعل ، وهاجرت زينب ، وبقي هو بمكة على شركه إلى أن خرج في عير لقريش تاجرا ، وذلك قبيل الفتح بيسير ، فعرض لتلك العير زيد بن حارثة في سرية من المسلمين من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخذها ، وأفلت أبو العاص هاربا إلى أن جاء إلى المدينة ، فاستجار بزينب فأجارته ، وكلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس في رد جميع ما أخذ من تلك السرية ، ففعلوا ، وقال : إنه يرد أموال قريش ، ويسلم ، ففعل ذلك ، فلذلك شكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : " حدثني فصدقني ، ووعدني فوفى لي " .




                                                                                              الخدمات العلمية