الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يصح الاعتكاف من الرجل إلا في المسجد ; لقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فدل على أنه لا يجوز إلا في المسجد ، ولا يصح من المرأة إلا في المسجد ، لأن من صح اعتكافه في المسجد لم يصح اعتكافه في غيره كالرجل ، والأفضل أن يعتكف في المسجد الجامع ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد الجامع ولأن الجماعة في صلواته أكثر ، ولأنه يخرج من الخلاف ، فإن الزهري قال : لا يجوز في غيره . وإن نذر أن يعتكف في مسجد غير المساجد الثلاثة ، وهي المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى جاز أن يعتكف في غيره ; لأنه لا مزية لبعضها على بعض فلم تتعين . وإن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام ، لزمه أن يعتكف فيه ; لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام . قال : أوف بنذرك } ولأنه أفضل من سائر المساجد فلا يجوز أن يسقط فرضه بما دونه ، وإن نذر أن يعتكف في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى ففيه قولان : ( أحدهما ) يلزمه أن يعتكف فيه ; لأنه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه فتعين بالنذر كالمسجد الحرام .

                                      ( والثاني ) لا يتعين ; لأنه مسجد لا يجب قصده بالشرع ، فلم يتعين بالنذر كسائر المساجد ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عمر رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم ، وسمي الجامع لجمعه الناس واجتماعهم فيه ، والزهري أبو بكر بن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة القرشي الزهري المدني التابعي ، الإمام في فنون [ الحديث ] ، وقد ينكر على المصنف استدلاله بحديث عمر فإنه نذر في الجاهلية ، وقد تقرر أن النذر الجاري في الكفر لا ينعقد على الصحيح . [ ص: 505 ] وفي الفصل مسائل : ( إحداها ) لا يصح الاعتكاف من الرجل ولا من المرأة إلا في المسجد ، ولا يصح في مسجد بيت المرأة ولا مسجد بيت الرجل وهو المعتزل المهيأ للصلاة ، هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور من العراقيين . وحكى الخراسانيون وبعض العراقيين فيه قولين : ( أصحهما ) وهو الجديد هذا .

                                      ( والثاني ) وهو القديم يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها ، وقد أنكر القاضي أبو الطيب في تعليقه وجماعة هذا القول . قالوا : ولا يصح في مسجد بيتها قولا واحدا ، وغلطوا من نقل فيه قولين وحكى جماعات من الخراسانيين أنا إذا قلنا بالقديم إنه يصح اعتكافها في مسجد بيتها ففي صحة اعتكاف الرجل في مسجد بيته وجهان : ( أصحهما ) لا يصح . قال أصحابنا : فإذا قلنا بالجديد ، فكل امرأة كره خروجها إلى الجماعة ، كره خروجها للاعتكاف ومن لا فلا .

                                      ( الثانية ) يصح الاعتكاف في كل مسجد ، والجامع أفضل ; لما ذكره المصنف قال الشيخ أبو حامد والأصحاب : وأومأ الشافعي في القديم إلى اشتراط الجامع وهو غريب ضعيف ، والصواب جوازه في كل مسجد . قال أصحابنا : ويصح الاعتكاف في سطح المسجد ورحبته بلا خلاف ، لأنهما منه .

                                      ( الثالثة ) إذا نذر الاعتكاف في مسجد بعينه ، فإن كان غير المساجد الثلاثة : وهي المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، والمسجد الأقصى ، لم يتعين على المذهب وبه قطع المصنف والجماهير . وقال ابن سريج والبندنيجي وآخرون : في تعيينه قولان . وقال إمام الحرمين والمتولي وآخرون من الخراسانيين : في تعيينه وجهان ( أصحهما ) عند جمهورهم لا يتعين للاعتكاف كما لا يتعين للصلاة لو نذرها فيه ( الثاني ) يتعين . قال إمام الحرمين : وهو ظاهر النص ; لأن الاعتكاف حقيقة الانكفاف في سائر الأماكن والتقلب ، كما أن الصوم انكفاف عن أشياء في زمن مخصوص فنسبة الاعتكاف إلى المكان كنسبة الصوم إلى الزمان ، ولو عين الناذر يوما لصومه تعين على [ ص: 506 ] الصحيح فليتعين المسجد بالتعين أيضا . هذا كلام الإمام والمذهب أنه لا يتعين للاعتكاف مسجد غير الثلاثة . قال أصحابنا : إلا أنه يستحب الاعتكاف فيما عينه ، وفرق الأصحاب بينه وبين الصوم على المذهب فيهما أن النذر مردود إلى أصل الشرع وقد أوجب الصوم بالشرع في زمن بعينه لا يجوز فيه غيره في غير النذر وهو صوم رمضان ، وكذا في النذر . وأما الاعتكاف فلم يجب منه شيء بأصل الشرع في موضع بعينه فصار كالصلاة المنذورة في مسجد بعينه ، فإنه لا يتعين لها ذلك المسجد . فالحاصل أنه إذا عين في نذره غير المساجد الثلاثة للصلاة لا يتعين ، وإن عينه للاعتكاف لم يتعين أيضا على المذهب ، وإن عين يوما للصوم تعين على المذهب . أما إذا نذر الاعتكاف في المسجد الحرام فيتعين على المذهب ، وبه قطع المصنف والجمهور .

                                      وذكر إمام الحرمين وجماعات من الخراسانيين في تعينه طريقين ( أصحهما ) يتعين ( والثاني ) على قولين ( أصحهما ) يتعين ( والثاني ) لا ، وإن عين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى فقولان مشهوران ( أصحهما ) يتعين ( والثاني ) لا . ودليل الجميع في الكتاب .

                                      قال أصحابنا : وإذا قلنا بالتعين ، فإن عين المسجد الحرام لم يقم غيره مقامه قطعا ، وإن عين مسجد المدينة لم يقم مقامه إلا المسجد الحرام ; لأنه أفضل منه ، ولا يلتحق بهما غيرهما في الفضيلة . وإن عين المسجد الأقصى لم يقم مقامه إلا المسجد الحرام ومسجد المدينة ، لأنهما أفضل ، وإذا قلنا بعدم التعين ، فليس له الخروج بعد الشروع لينتقل إلى مسجد آخر ، لكن لو كان ينتقل في خروجه لقضاء الحاجة إلى مسجد آخر على مثل تلك المسافة فوجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون ( أصحهما ) جوازه ، وبه قطع المتولي وغيره ، فإن كان الثاني أطول بطل الاعتكاف .

                                      ( فرع ) لو عين زمن الاعتكاف في نذره ففي تعينه وجهان ( الصحيح ) المشهور وبه قطع الجمهور يتعين ، ولا يجوز التقديم عليه ولا التأخير ، فإن قدمه لم يجزه ، وإن أخره أثم وأجزأه وكان قضاء [ ص: 507 ]

                                      ( والثاني ) لا يتعين كما لا يتعين في الصلاة ، قالوا : ويجري الوجهان في تعين زمن الصوم ، والله أعلم .

                                      فرع في مذاهب العلماء في مساجد الاعتكاف قد ذكرنا أن مذهبنا اشتراط المسجد لصحة الاعتكاف ، وأنه يصح في كل مسجد ، وبه قال مالك وداود ، وحكى ابن المنذر عن سعيد بن المسيب أنه قال : إنه لا يصح إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وما أظن أن هذا يصح عنه ، وحكى هو وغيره عن حذيفة بن اليمان الصحابي أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة : المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى ، وقال الزهري والحكم وحماد : لا يصح إلا في الجامع ، وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور : يصح في كل مسجد يصلى فيه الصلوات كلها ، وتقام فيه الجماعة . واحتج لهم بحديث عن جويبر عن الضحاك عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كل مسجد له مؤذن وإمام ، فالاعتكاف فيه يصلح } رواه الدارقطني وقال : الضحاك لم يسمع من حذيفة ( قلت وجويبر ضعيف باتفاق أهل الحديث فهذا الحديث مرسل ضعيف فلا يحتج به ) يحتج به . واحتج أصحابنا بقوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ووجه الدلالة من الآية لاشتراط المسجد أنه لو صح الاعتكاف في غير المسجد ، لم يخص تحريم المباشرة بالاعتكاف في المسجد ، لأنها منافية للاعتكاف ، فعلم أن المعنى بيان أن الاعتكاف إنما يكون في المساجد ، وإذا ثبت جوازه في المساجد صح في كل مسجد ، ولا يقبل [ ص: 508 ] تخصيص من خصه ببعضها إلا بدليل ، ولم يصح في التخصيص شيء صريح . فرع في مذاهبهم في اعتكاف المرأة في مسجد بيتها . قد ذكرنا أنه لا يصح عندنا على الصحيح ، وبه قال مالك وأحمد وداود ، وقال أبو حنيفة : يصح . .




                                      الخدمات العلمية