الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في الجماعة في مسجد قد صلي فيه مرة

                                                                                                          220 حدثنا هناد حدثنا عبدة عن سعيد بن أبي عروبة عن سليمان الناجي البصري عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قال جاء رجل وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيكم يتجر على هذا فقام رجل فصلى معه قال وفي الباب عن أبي أمامة وأبي موسى والحكم بن عمير قال أبو عيسى وحديث أبي سعيد حديث حسن وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين قالوا لا بأس أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه جماعة وبه يقول أحمد وإسحق وقال آخرون من أهل العلم يصلون فرادى وبه يقول سفيان وابن المبارك ومالك والشافعي يختارون الصلاة فرادى وسليمان الناجي بصري ويقال سليمان بن الأسود وأبو المتوكل اسمه علي بن داود

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( نا عبدة ) بإسكان الباء هو ابن سليمان الكلابي أبو محمد الكوفي روى عن هشام بن عروة والأعمش وطائفة ، وعنه أحمد ، وإسحاق ، وهناد بن السري ، وأبو كريب وخلق ، وثقه أحمد ، وابن سعد ، والعجلي ، قال أحمد : مات سنة 187 سبع وثمانين ومائة ( عن سعيد بن أبي عروبة ) ثقة حافظ له تصانيف لكنه كثير التدليس ، واختلط وكان من أثبت الناس في قتادة كذا في التقريب ، قلت : قد تابعه وهيب عن سليمان الناجي في رواية أبي داود ، فلا يضر تدليسه واختلاطه في هذا الحديث ( عن سليمان الناجي ) بالنون والجيم ، ويقال له : سليمان الأسود أيضا ، وكذلك وقع في رواية أبي داود وثقه ابن معين ( أيكم يتجر ) بشدة التاء من اتجر يتجر اتجارا من باب الافتعال ، قال ابن الأثير في النهاية في باب التاء مع الجيم : وفيه من يتجر على هذا فيصلي معه ، هكذا يرويه بعضهم ، وهو يفتعل من التجارة ، لأنه يشتري بعمله الثواب ولا يكون من الأجر على هذه الرواية ، لأن الهمزة لا تدغم في التاء ، فإنما يقال فيه يأتجر ، وقال في باب الهمزة مع الجيم في حديث الأضاحي : كلوا وادخروا واتجروا أي : تصدقوا طالبين الأجر بذلك ، ولا يجوز فيه اتجروا بالإدغام ، لأن الهمزة لا تدغم في التاء وإنما هو من الأجر لا التجارة ، وقد أجازه الهروي في كتابه ، واستشهد عليه بقوله في الحديث الآخر أن رجلا دخل المسجد وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته ، فقال : من يتجر فيقوم فيصلي معه ، والرواية إنما هي يأتجر وإن صح فيها يتجر فيكون من التجارة لا الأجر كأنه بصلاته معه قد حصل لنفسه تجارة أي مكسبا ، انتهى كلام ابن الأثير .

                                                                                                          [ ص: 7 ] قلت : في قولهم الهمزة لا تدغم في التاء تأمل ، فقد قال الله تعالى : واتخذ الله إبراهيم خليلا وقالت عائشة : وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض ، رواه الشيخان ، ففي اتخذ واتزر قد أدغمت الهمزة في التاء ، وأما إنكار النحاة الإدغام في قول عائشة فأتزر فلا وجه له مع صحة روايتها بالإدغام - قال القاري في المرقاة قال في المفصل : قول من قال فأتزر خطأ خطأ ، وقال الكرماني : فأتزر في قول عائشة وهي من فصحاء العرب حجة فالمخطئ مخطئ انتهى ، وقد تقدم بعض ما يتعلق بهذا في باب مباشرة الحائض فتذكر . فمعنى قوله أيكم يتجر على هذا أيكم يتصدق على هذا طالبا الأجر بذلك ، وقد وقع في رواية أبي داود ألا رجل يتصدق على هذا ، قال المظهري : سماه صدقة لأنه يتصدق عليه بثواب ست وعشرين درجة إذ لو صلى منفردا لم يحصل له إلا ثواب صلاة واحدة انتهى ( فقام رجل ) هو أبو بكر الصديق قال الزيلعي في نصب الراية وفي رواية البيهقي أن الذي قام فصلى معه أبو بكر رضي الله عنه .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن أبي أمامة وأبي موسى والحكم بن عمير ) أما حديث أبي أمامة فأخرجه أحمد والطبراني بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وحده فقال : ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ، فقام رجل فصلى معه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذان جماعة ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد : له طرق كلها ضعيفة انتهى ، وأما حديث أبي موسى ، وحديث الحكم بن عمير فلم أقف على من أخرجهما وفي الباب عن أنس أن رجلا جاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقام يصلي وحده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتجر على هذا فيصلي معه ، أخرجه الدارقطني ، قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية : إسناده جيد ، وكذا قال الحافظ ابن حجر في الدراية . وفي الباب أيضا عن سلمان أن رجلا دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم قد صلى ، فقال : ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ، وفيه محمد بن عبد الملك أبو جابر ، قال أبو حاتم : أدركته وليس بالقوي في الحديث ، ورواه البزار ، وفيه الحسين بن الحسن الأشقر وهو ضعيف جدا ، وقد وثقه ابن حبان كذا في مجمع الزوائد ، وفي الباب أيضا عن عصمة ذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية ، والهيثمي وهو ضعيف .

                                                                                                          قوله : ( حديث أبي سعيد حديث حسن ) وأخرجه أحمد ، وأبو داود وسكت عنه ، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره ، وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ، وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجاله رجال الصحيح .

                                                                                                          [ ص: 8 ] قوله : ( وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين ) وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه ، قال ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا إسحاق الأزرق عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل أن ابن مسعود دخل المسجد وقد صلوا فجمع بعلقمة ومسروق والأسود وإسناده صحيح ، وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال البخاري في صحيحه وجاء أنس بن مالك إلى مسجد قد صلي فيه فأذن وأقام وصلى جماعة انتهى ، قال الحافظ في الفتح وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان . قال مر بنا أنس بن مالك في مسجد بني ثعلبة فذكر نحوه ، قال وذلك في صلاة الصبح ، وفيه فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى بأصحابه ، وأخرجه ابن أبي شيبة من طرق عن الجعد ، وعند البيهقي من طريق أبي عبد الصمد العمي ، عن الجعد نحوه ، وقال : في مسجد بني رفاعة ، وقال : فجاء أنس في نحو عشرين من فتيانه انتهى .

                                                                                                          قوله : ( وبه يقول أحمد وإسحاق ) قال العيني في شرح البخاري ص 690 وهو قول عطاء والحسن في رواية ، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأشهب عملا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ الحديث انتهى ، وهذا القول هو الحق ودليله أحاديث الباب .

                                                                                                          قوله : ( وقال آخرون من أهل العلم يصلون فرادى وبه يقول سفيان ، وابن المبارك ومالك والشافعي يختارون الصلاة فرادى ) واستدل لهم بحديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم ، رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجاله ثقات انتهى .

                                                                                                          وأجيب عنه بوجوه منها : أن هذا الحديث لا يعلم حاله كيف هو صحيح قابل للاحتجاج أم [ ص: 9 ] لا ، وأما قول الهيثمي رجاله ثقات فلا يدل على صحته لاحتمال أن يكون فيهم مدلس ورواه بالعنعنة أو يكون فيهم مختلط ورواه عنه صاحبه بعد اختلاطه أو يكون فيهم من لم يدرك من رواه عنه أو يكون فيه علة أو شذوذ ، قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية في الكلام على بعض روايات الجهر بالبسملة : لا يلزم من ثقة الرجال صحة الحديث حتى ينتفي منه الشذوذ والعلة ، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص في الكلام على بعض روايات حديث بيع العينة : لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات أن يكون صحيحا انتهى ، هذا بعد تسليم أن رجال هذا الحديث ثقات على ما قال الحافظ الهيثمي ، لكن قال صاحب العرف الشذي : إن في سنده معاوية بن يحيى وهو متكلم فيه ولفظه هكذا ! ولقد صنف مولانا الكنكوهي رسالة في مسألة الباب وأتى فيه بحديث أنه عليه السلام دخل المسجد وقد صلي فيه ، فذهب إلى بيته وجمع أهله وصلى بالجماعة ، ولو كانت الجماعة الثانية جائزة بلا كراهة لما ترك فضل المسجد النبوي . أخرجه في معجم الطبراني . في الأوسط والكبير ، وقال الحافظ نور الدين الهيثمي : إن رجال السند ثقات محسنة ، وأقول : إن في سنده معاوية بن يحيى من رجال التهذيب متكلم فيه انتهى كلامه بلفظه ، قلت : الأمر كما قال صاحب العرف الشذي ، لا شك في أن في سنده معاوية بن يحيى أبا مطيع الأطرابلسي وهو متكلم فيه ، وذكر الحافظ الذهبي في الميزان أحاديثه المناكير ، وذكر فيها حديث أبي بكرة هذا أيضا حيث قال : فيه الوليد بن مسلم ، عن معاوية أبي مطيع ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من بعض نواحي المدينة يريد الصلاة فوجدهم قد صلوا فانصرف إلى منزله فجمع أهله ثم صلى بهم ، وأما رسالة الشيخ الكنكوهي فقد صنف بعض علمائنا في الرد عليها رسالة حسنة جيدة ، وأجاب عن ما استدل به الشيخ الكنكوهي جوابا شافيا . ومنها أن الحديث ليس بنص على أنه صلى الله عليه وسلم جمع أهله فصلى بهم في منزله ، بل يحتمل أن يكون صلى بهم في المسجد ، وكان ميله إلى منزله لجمع أهله لا للصلاة فيه ، وحينئذ يكون هذا الحديث دليلا لاستحباب الجماعة في مسجد قد صلي فيه مرة لا لكراهتها ، فما لم يدفع هذا الاحتمال كيف يصح الاستدلال . ومنها : أنه لو سلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأهله في منزله لا يثبت منه كراهة تكرار الجماعة في المسجد ، بل غاية ما يثبت منه أنه لو جاء رجل في مسجد قد صلي فيه فيجوز له أن لا يصلي فيه بل يخرج منه فيميل إلى منزله فيصلي بأهله فيه ، وأما أنه لا يجوز له أن يصلي في ذلك المسجد بالجماعة أو يكره له ذلك فلا دلالة للحديث عليه ألبتة ، كما لا يدل الحديث على كراهة أن يصلي فيه منفردا .

                                                                                                          ومنها : أنه لو ثبت من هذا الحديث كراهة تكرار الجماعة لأجل أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في المسجد [ ص: 10 ] لثبت منه كراهة الصلاة فرادى أيضا في مسجد قد صلي فيه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في المسجد لا منفردا ولا بالجماعة . والحاصل : أن الاستدلال بحديث أبي بكرة المذكور على كراهة تكرار الجماعة في المسجد واستحباب الصلاة فرادى ليس بصحيح . ولم أجد حديثا مرفوعا صحيحا يدل على هذا المطلوب . وأما قول الشيخ الكنكوهي لو كانت الجماعة الثانية جائزة بلا كراهة لما ترك فضل المسجد النبوي . ففيه أنه يلزم من هذا التقرير كراهة الصلاة فرادى أيضا في مسجد قد صلي فيه بالجماعة ، فإنه يقال لو كانت الصلاة فرادى جائزة بلا كراهة في مسجد قد صلي فيه بالجماعة لما ترك فضل المسجد النبوي فتفكر .

                                                                                                          تنبيه : اعلم أن الفقهاء الحنفية يذكرون في كتبهم أثرا عن أنس بن مالك يستدلون به أيضا على كراهة تكرار الجماعة في المسجد ، قال الشامي في رد المختار ، وروي عن أنس بن مالك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا فاتتهم الجماعة صلوا فرادى انتهى . قلت : لم يثبت هذا عن أنس بن مالك في كتب الحديث ألبتة ، بل ثبت عنه خلافه ، قال البخاري في صحيحه : وجاء أنس بن مالك إلى مسجد قد صلي فيه فأذن وأقام وصلى جماعة ، وقد تقدم ذكر من أخرجه موصولا ، نعم أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن ، قال : كان أصحاب محمد إذا دخلوا في مسجد قد صلي فيه صلوا فرادى انتهى ، لكن قد صرح الحسن بأن صلاتهم فرادى إنما كانت لخوف السلطان . قال ابن أبي شيبة في مصنفه . حدثنا هشيم ، أنا منصور ، عن الحسن ، قال إنما كانوا يكرهون أن يجمعوا مخافة السلطان انتهى .

                                                                                                          تنبيه : قال صاحب العرف الشذي ما لفظه : واقعة الباب ليس حجة علينا ، فإن المختلف فيه إذا كان الإمام والمقتدي مفترضين ، وفي حديث الباب كان المقتدي متنفلا انتهى . قلت : إذا ثبت من حديث الباب حصول ثواب الجماعة بمفترض ومتنفل فحصول ثوابها بمفترضين بالأولى . ومن ادعى الفرق فعليه بيان الدليل الصحيح . على أنه لم يثبت عدم جواز تكرار الجماعة أصلا لا بمفترضين ولا بمفترض ومتنفل ، فالقول بجواز تكرارها بمفترض ومتنفل وعدم جواز تكرارها بمفترضين مما لا يصغى إليه . كيف وقد تقدم أن أنسا جاء في نحو عشرين من فتيانه إلى مسجد قد صلي فيه فصلى بهم جماعة . وظاهر أنه وفتيانه كلهم كانوا مفترضين ، وكذلك جاء ابن مسعود إلى مسجد قد صلي فيه فجمع بعلقمة ومسروق والأسود . وظاهر أنه وهؤلاء الثلاثة كلهم كانوا مفترضين فتفكر .




                                                                                                          الخدمات العلمية