الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير وجه الاتصال بين الآية الأولى من هذه الآيات وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها كانت في أهل الكتاب - وقد تقدم أنه - تعالى - ذكر أحوال النصارى منهم وحاجهم في [ ص: 228 ] أول السورة - ثم ذكر بعض أحوال اليهود قبل قصة أحد ، ثم عاد إلى بيان بعض شئونهم بعدها ، فكان منه ما في هذه الآية وهو كتمان ما أمروا ببيانه ، واستبدال منفعة حقيرة به لم يفصل بينه وبين ما قبله إلا بآيتين قد عرفت حكمة وضعهما في موضعهما . وقال الرازي : اعلم أن في كيفية النظم وجهين : ( الأول ) أنه - تعالى - لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأجاب عنها أتبعه بهذه الآية ; وذلك لأنه - تعالى - أوجب عليهم في التوراة والإنجيل - على أمة موسى ، وعيسى عليهما السلام - أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل على صحة دينه ، وصدق نبوته ، ورسالته ، والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل : كيف يليق بكم إيراد الطعن في نبوته ، ودينه مع أن كتبكم ناطقة ، ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صحة نبوته ، ودينه ، ( الثاني ) أنه - تعالى - لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد - صلى الله عليه وسلم - احتمال الأذى من أهل الكتاب ، وكان من جملة إيذائهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة ، والإنجيل من الدلائل الدالة على نبوته فكانوا يحرفونها ، ويذكرون لها تأويلات فاسدة ، فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر اهـ . وقد علمت ما هو المراد بالأذى في تفسير الآية السابقة .

                          وقال الأستاذ الإمام : وجه الاتصال بين هذه الآية ، وما قبلها هو أن ما ذكر في الآية السابقة من البلاء الذي يصاب به المؤمنون إنما يصابون به لأخذهم بالحق ودعوتهم إليه ، ومحافظتهم في الشدائد عليه ، فناسب بعد ذكر ذلك البلاء الذي أخبر الله به المؤمنين ، ووطن عليه نفوسهم - ليثبتوا ويصبروا - أن يذكر لهم مثل الذين خلوا من قبلهم ، إذ أخذ عليهم الميثاق ببيان الحق فكان من أمرهم ما استحقوا به الوعيد المذكور في الآية ، فهو يذكر المؤمنين بذلك ، كأنه يقول لهم : إنكم إذا كتمتم ما أنزل عليكم يكون وعيدكم كوعيدهم قال - تعالى - :

                          وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب أي اذكروا إذ أخذ الله الميثاق عليهم بلسان أنبيائهم ، قال الأستاذ الإمام : ولا نقول في التوراة ؛ لأن القرآن لم يقل بذلك ، ولا بعدمه ، فليس لنا أن نقيد برأينا ما أطلقه ، ونزيد عليه بغير علم لتبيننه للناس ولا تكتمونه أي أكد عليهم إيجاب البيان أو التبيين ، وفيه معنى التكثير ، والتدريج ، كما يؤكد على المخاطب أهم الأمور بالعهد واليمين ، فيقال له : الله لتفعلن كذا ، فقرءوا بتاء الخطاب حكاية للمخاطبة التي أخذ بها الميثاق ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية ابن عياش بالمثناة التحتية ( ليبيننه للناس ولا يكتمونه ) لأنهم غائبون . وقد تقدم بيان معنى أخذ الميثاق في الآية 81 من هذه السورة ( راجع ص287 من جزء التفسير الثالث ط الهيئة العامة للكتاب ) .

                          روي عن سعيد بن جبير ، والسدي أن الذي أخذ عليهم الموثق ببيانه هو محمد - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 229 ] وعن الحسن ، وقتادة : أنه الكتاب الذي أوتوه وهو الظاهر المتبادر ، ويدخل فيه البشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . قال الأستاذ الإمام : وتبيينه هو أن يوضحوا معانيه كما هي ، ولا يئولوه ، ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها ، ومقاصده التي أنزل لأجلها حتى لا يقع في فهمه لبس ، ولا اضطراب . وههنا أمران : العلم بالكتاب على غير وجهه وهو نتيجة عدم البيان ، وعدم العلم به بالمرة ، وهو نتيجة الكتمان ، وقد يقال : إن الظاهر المتبادر في الترتيب هو أن ينهى عن الكتمان أولا ، ثم يأمر بالبيان ; لأن البيان إنما يكون مع إظهار الكتاب فلماذا عكس ؟ والجواب عن هذا أن القرآن قدم أهم الأمرين ; لأن المخالفة في الأول وهو الكتمان تقتضي الجهل البسيط وهو الجهل بالدين ، وفي الثاني تقتضي الجهل المركب وهو اعتقاد ما ليس بدين دينا ، والجهل البسيط أهون لأن صاحبه يوشك أن يظفر بالكتاب يوما فيهتدي به ويعرف الدين ، وأما الجهل المركب - وهو فهمه على غير وجهه - فيعسر زواله بالمرة فيكون صاحبه ضالا مع وجود أعلام الهداية أمامه .

                          قال : والعبرة في ذلك ظاهرة عندنا ، وفي أنفسنا ، فإن كتابنا - وهو القرآن العزيز - لم يوجد كتاب في الدنيا حفظ كما حفظ ، ونقل ، ونشر كما نشر ، فإن الجماهير من المسلمين قد حفظوه عن ظهر قلب من القرن الأول إلى هذا اليوم ، وهم يتلونه في كل مكان ; حتى إنك تسمعه في الشارع ، والأسواق ، ومجتمعات الأفراح ، والأحزان ، وفي كل حال من الأحوال ، ولكنهم تركوا تبيينه للناس فلم يغن عنهم عدم الكتمان شيئا ; فإنهم فقدوا هدايته حتى إنهم يعترفون بأن المسلمين أنفسهم منحرفون عنه ، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر ، ويعترفون بأن الغش قد عم وطم ، ويعترفون بارتفاع الأمانة ، وشيوع الخيانة إلخ . . إلخ ، وكل هذا من نتائج ترك التبيين .

                          قال : ولهذه التعمية ، وهذا الاضطراب في فهم الكتاب أسباب أهمها ما كان من الخلاف بين العلماء من قبل - لاسيما في القرن الثالث - فقد انقسمت الأمة إلى شيع وذهبت في الخلاف مذاهب في الأصول والفروع ، وصار كل فريق ينصر مذهبه ويحتج له بالكتاب يأخذ ما وافقه منه ويئول ما خالفه ، واتبعهم الناس على ذلك ، ورضي كل فريق من المسلمين بكتب طائفة من أولئك المختلفين حتى جاءت أزمنة ترك فيها الجميع التحاكم إلى القرآن ، وتأييد ما يذهبون إليه به ، وتأويل ما عداه ( أقول : بل وصلنا إلى زمن يحرمون فيه ذلك ، ولا يرون فيه للقرآن فائدة تتعلق بمعناه ، بل كل فائدة عندهم أنه يتبرك به ، ويتعبد بألفاظه ، ويستشفى به من أمراض الجسد دون أمراض القلب والروح ) ، حتى صرنا نتمنى لو دامت تلك الخلافات ، فإنها أهون من هجر القرآن بتاتا ، فإن الناس قد وقعوا في اضطراب من أمر دينهم حتى صاروا يحسبون ما ليس بدين دينا ، وحتى إن العلماء يرون [ ص: 230 ] المنكرات فلا ينكرونها بل كثيرا ما يقعون فيها ، أو يتأولون لفاعليها ، ولو بينوا للناس كتاب الله لقبلوه .

                          وأقول : إن الذين تصدوا لتبيين القرآن في الكتب - وهم المفسرون - لم يكن تبيينهم كاملا كما ينبغي ، وكان جمال الدين يقول : " إن القرآن لا يزال بكرا " ، وإن لي كلمة ما زلت أقولها ، وهي أن سبب تقصير المفسرين الذين وصلت إلينا كتبهم هو عدم الاستقلال التام في الفهم ، وما كان ذلك لبلادة ، وإنما جاء من أمور أهمها : الافتتان بالروايات الكثيرة ، وتغلب الاصطلاحات الفنية في الكلام ، والأصول ، والفقه ، وغير ذلك ، ومحاولة نصر المذاهب ، وتأييدها .

                          ثم أقول : إن البيان ، أو التبيين على نوعين : أحدهما تبيينه لغير المؤمنين به لأجل دعوتهم إليه ، وثانيهما تبيينه للمؤمنين به لأجل إرشادهم ، وهدايتهم بما أنزل إليهم من ربهم ، وكل من النوعين واجب حتم لا هوادة فيه ، ولا يشترط فيه ما اشترطه بعض الفقهاء من الاستفتاء ، والسؤال إذ زعموا أن العالم لا يجب عليه التصدي لدعوة الناس ، وتعليمهم إلا إذا سألوه ذلك ، والقرآن حجة عليهم ، وهذه الآية آكد في الإيجاب من قوله - تعالى - في هذه السورة : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [ 3 : 104 ] الذي تقدم تفسيره في هذا الجزء ; فإن الأمر وإن كان هناك للوجوب لأن الأصل فيه ذلك على قول جمهور الأصوليين ، وأكد بقوله : وأولئك هم المفلحون إلا أن التأكيد فيه دون أخذ الميثاق هنا ، وما فيه من معنى القسم ، ثم ما يليه من تصوير ترك الامتثال بنبذ الكتاب ، وبيعه بثمن قليل ، ومن الذم والوعيد على ذلك إذ قال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية