الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1011 حديث ثالث لإسحاق ، عن أنس مسند

مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فأطعمته وجلست تفلي رأسه ، فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك ، قالت : فقلت ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة ، يشك إسحاق ، قالت : فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ، ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك ، قالت : فقلت يا رسول الله ما يضحكك ؟ قال : ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ملوكا على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة ، كما قال في الأول ، قالت : فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني الله منهم ، قال : أنت من الأولين ، قال : فركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت .

[ ص: 226 ]

التالي السابق


[ ص: 226 ] هكذا روى هذا الحديث جماعة رواة الموطأ فيما علمت ، جعلوه من مسند أنس بن مالك ، ورواه بشر بن عمر الزهراني ، عن مالك ، عن إسحاق ، عن أنس ، عن أم حرام بنت ملحان ، قالت : استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث ، جعله من مسند أم حرام هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار .

وأم حرام هذه خالة أنس بن مالك ، أخت أم سليم بنت ملحان ، أم أنس بن مالك ، وقد ذكرناهما ونسبناهما وذكرنا أشياء من أخبارهما في كتابنا كتاب الصحابة فأغنى عن ذكره هاهنا ، وأظنها أرضعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو أم سليم أرضعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحصلت أم حرام خالة له من الرضاعة ، فلذلك كانت تفلي رأسه ، وينام عندها ، وكذلك كان ينام عند أم سليم ، وتنال منه ما يجوز لذي المحرم أن يناله من محارمه ، ولا يشك مسلم أن أم حرام كانت من رسول الله لمحرم ، فلذلك كان منها ما ذكر في هذا الحديث ، والله أعلم .

وقد أخبرنا غير واحد من شيوخنا ، عن أبي محمد الباجي عبد الله بن محمد بن علي أن محمد بن فطيس أخبره ، عن يحيى بن إبراهيم بن مزين قال : إنما استجاز رسول الله - صلى الله عليه - أن تفلي أم حرام رأسه لأنها كانت منه ذات محرم من قبل خالاته ; لأن أم عبد المطلب بن هاشم كانت من بني النجار ، وقال يونس بن عبد الأعلى : قال لنا ابن وهب : أم [ ص: 227 ] حرام إحدى خالات النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة ، فلهذا كان يقيل عندها وينام في حجرها وتفلي رأسه .

قال أبو عمر : أي ذلك كان ، فأم حرام محرم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والدليل على ذلك ما حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا علي بن حجر قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا لا يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم وروى عمر بن الخطاب عن النبي عليه السلام ، قال : لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما وروى ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يخلون رجل بامرأة إلا أن تكون منه ذات محرم وروى عبد الله بن عمرو بن العاصي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يخلون رجل على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان وحدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه - قال : [ ص: 228 ] إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار : أرأيت الحمو ؟ قال : الحمو الموت .

وهذه آثار ثابتة بالنهي عن ذلك ، ومحال أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ينهى عنه .

وفي هذا الحديث أيضا إباحة أكل ما قدمته المرأة إلى ضيفها في بيتها من مالها ومال زوجها ; لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل ، وأن يد زوجته فيه عارية ، وقد اختلف العلماء في هذا المعنى لاختلاف الآثار فيه ، وأحسن حديث في ذلك وأصحه من جهة النقل ما رواه ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا نبي الله ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير ، فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي ؟ فقال : ارضخي ما استطعت ، ولا توكي فيوكي الله عليك .

وروى الأعمش ومنصور جميعا عن شفيق أبي وائل ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أنفقت امرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجر بما أنفقت ، ولزوجها أجر ما كسب ، وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا .

[ ص: 229 ] وهذان حديثان صحيحان مشهوران لا يختلف في صحتهما وثبوتهما ، تركت الإتيان بطرقهما خشية التطويل ، أخبرنا عبد الرحمن بن مروان قال : أخبرنا أبو محمد الحسن بن يحيى بن الحسن القلزمي القاضي في داره بمصر سنة ثمان وستين ، قال : حدثنا أبو غسان عبد الله بن محمد بن يوسف القاضي القلزمي قال : حدثنا أحمد بن سعيد الهمذاني قال : حدثنا إسحاق بن الفرات ، عن نافع بن زيد ، عن ابن الهادي ، عن مسلم بن الوليد بن رباح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يحل لامرأة تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن لرجل في بيتها وهو له كاره ، وما تصدقت مما كسبه فله أجر نصف صدقة ، وإنما خلقت المرأة من ضلع ، فلن يصاحبها إلا وفيها عوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرك إياها فراقها .

[ ص: 230 ] وأما الآثار الواردة في الكراهة لذلك ، فروى ابن المبارك ، عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر ، عن سعيد بن أبي سعيد قال : حدثني من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تنفقن امرأة من بيتها شيئا إلا بإذن زوجها ، فقال رجل : من الطعام يا رسول الله ؟ قال : وهل أموالنا إلا الطعام .

وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه - يقول في خطبته عام حجة الوداع إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث وذكر الحديث وفيه لا تنفق امرأة من بيت زوجها إلا بإذن زوجها ، قيل : يا رسول الله ولا الطعام ؟ قال : ذلك أفضل أموالنا ، وساق تمام الحديث .

[ ص: 231 ] وحدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن ليث ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن عمر قال أتت امرأة النبي - صلى الله عليه - ، فقالت : يا نبي الله ما حق الزوج على زوجته ؟ قال : لا تمنعه نفسها ، ولو كانت على ظهر قتب ، فقالت : يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته ؟ قال : لا تصوم إلا بإذنه إلا الفريضة ، فإن فعلت أثمت ، ولم يقبل منها ، قالت : يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته ؟ قال : لا تصدق بشيء من بيته إلا بإذنه ، قال : فإن فعلت كان له الأجر ، وعليها الوزر ، قالت : يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته ؟ قال : لا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله ، وملائكة الرحمة ، وملائكة الغضب حتى تتوب أو تراجع ، قلت : يا رسول الله وإن كان لها ظالما ؟ قال : وإن كان لها ظالما ، قالت : والذي بعثك بالحق لا يملك على أمري أحد بعدها أبدا ما بقيت .

فإن كان ما أطعمته أم حرام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مال زوجها عبادة بن الصامت ، ولم يكن من مالها ، ففي هذا الحديث أيضا إباحة أكل مال الصديق بغير إذنه ، وقد اختلف فيه العلماء إذا كان يسيرا ليس مثله يدخر ولا يتمول ، ولم يختلفوا في الكثير الذي له بال ويحضر النفس عليه الشح به أنه لا يحل إلا عن طيب نفس من صاحبه .

[ ص: 232 ] واختلفوا في تأويل قول الله عز وجل أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا وقد ذكرنا هذا المعنى فيما تقدم من كتابنا هذا ، والحمد لله .

ومن أجاز أكل مال الصديق بغير إذنه فإنما أباحه ما لم يتخذ الآكل خبنة ، ولم يقصد بذلك وقاية ماله ، وكان تافها يسيرا ، ونحو هذا .

وأما قوله " ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله " فإنه أراد والله أعلم أنه رأى الغزاة في البحر من أمته ملوكا على الأسرة في الجنة ، ورؤياه وحي صلى الله عليه وسلم ، ويشهد لقوله " ملوكا على الأسرة " ما ذكر الله عز وجل في الجنة بقوله على الأرائك متكئون قال أهل التفسير : الأرائك : السرر في الحجال ، ومثله قوله عز وجل على سرر متقابلين وهذا الخبر إنما ورد تنبيها على فضل الجهاد في البحر وترغيبا فيه ، وفي هذا الحديث أيضا إباحة ركوب البحر في الجهاد ، وفيه إباحة الجهاد للنساء ، وقد روي عن أم عطية قالت : كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه - فنمرض المرضى ، ونداوي الجرحى ، وكان يرضخ لنا من الغنيمة .

واختلف الفقهاء في الإسهام للنساء من الغنيمة إذا غزون ، فقال ابن وهب : سألت مالكا عن النساء هل يجزين من المغانم في الغزو ؟ قال : ما علمت ذلك ، وقد أجاز قوم من أصحابنا أن يرضخ للنساء ما أمكن على ما يراه الإمام ، وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم : لا يسهم لامرأة ويرضخ لها ، وقال الأوزاعي : يسهم للنساء ، [ ص: 233 ] وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للنساء بخيبر ، قال الأوزاعي : وأخذ بذلك المسلمون عندنا .

قال أبو عمر : أحسن شيء في هذا الباب ما كتب به ابن عباس إلى نجدة الخارجي : أن النساء كن يحضرن فيداوين المرضى ، ويجزين من الغنيمة ، ولم يضرب لهن بسهم .

وفيه إباحة ركوب البحر للنساء ، وقد كان مالك رحمه الله يكره للمرأة الحج في البحر ، فهو في الجهاد لذلك أكره ، والله أعلم .

وقال بعض أصحابنا من أهل البصرة : إنما كره ذلك مالك ; لأن السفن بالحجاز صغار ، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها ; لضيقها ، وتزاحم الناس فيها ، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا ، فلذلك كره ذلك مالك قال : وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة ، فليس بذلك بأس ، قال : والأصل أن الحج فرض على كل من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين ، نساء كانوا أو رجالا ، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن ، ولم يخص برا من بحر ، فإذا كان طريقهم على البحر أو تعذر عليهم طريق البر ، فذلك لازم لهم مع الاستطاعة .

وفي هذا الحديث ما يدل على ركوب البحر للحج لأنه إذا ركب البحر للجهاد فهو للحج المفروض أولى وأوجب ، وذكر مالك رحمه الله أن عمر بن الخطاب كان يمنع الناس من ركوب البحر فلم يركبه أحد طول حياته ، فلما مات استأذن معاوية عثمان في ركوبه فأذن له ، فلم يزل يركب حتى كان أيام عمر بن عبد العزيز ، فمنع الناس عمر بن عبد العزيز من ركوبه [ ص: 234 ] ثم ركب بعده إلى الآن ، وهذا إنما كان من عمر وعمر - رضي الله عنهما - في التجارة وطلب الدنيا ، والله أعلم .

وأما في أداء فريضة الحج فلا ، والسنة قد أباحت ركوبه للجهاد في حديث إسحاق ، عن أنس ، وحديث غيره ، وهي الحجة ، وفيها الأسوة ، فركوبه للحج أولى قياسا ونظرا ، والحمد لله .

ولا خلاف بين أهل العلم أن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ، ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال عمر : لا يسألني الله عن جيش ركبوا البحر أبدا ؛ يعني التغرير .

وفيه التحري في الإتيان بألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد ذهب إلى هذا جماعة ورخص آخرون في الإتيان بالمعاني ، وقد أوضحنا هذا المعنى في باب أفردناه له في كتاب جامع العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله ، وسيأتي من هذا الباب ذكر في مواضع من هذا الكتاب إن شاء الله .

وفيه أن الجهاد تحت راية كل إمام جائز ماض إلى يوم القيامة ; لأنه - صلى الله عليه - قد رأى الآخرين ملوكا على الأسرة ، كما رأى الأولين ، ولا نهاية للآخرين إلى يوم قيام الساعة ، قال الله عز وجل قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ، وقال ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وهذا على الأبد .

[ ص: 235 ] وفيه فضل لمعاوية رحمه الله إذ جعل من غزا تحت رايته من الأولين ، ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحي ، الدليل على ذلك قول إبراهيم عليه السلام إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى فأجابه ابنه قال ياأبت افعل ما تؤمر وهذا بين واضح ، وقالت عائشة : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .

وفي فرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستبشاره وضحكه بدخول الأجر على أمته بعده سرورا بذلك بيان ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المناصحة لأمته ، والمحبة فيهم ، وفي ذلك دليل على أن من علامة المومن سروره لأخيه بما يسر به لنفسه .

وإنما قلنا إن في هذا الحديث دليلا على ركوب البحر للجهاد وغيره للنساء والرجال إلى سائر ما استنبطنا منه ; لاستيقاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك فرحا بذلك ، فدل على جواز ذلك كله ، وإباحته ، وفضله ، وجعلنا المباح مما يركب فيه البحر قياسا على الغزو فيه .

ويحتمل بدليل هذا الحديث أن يكون الموت في سبيل الله والقتل سواء ، أو قريبا من السواء في الفضل ; لأن أم حرام لم تقتل ، وإنما ماتت من صرعة دابتها ، وقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنت من الأولين ، وإنما قلت : أو قريب من السواء ، لاختلاف الناس في ذلك ، فمن أهل العلم من جعل الميت في سبيل الله والمقتول سواء ، واحتج بقول الله عز وجل والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا الاثنين جميعا ، وبقوله تبارك اسمه [ ص: 236 ] ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وبقول النبي عليه السلام في حديث عبد الله بن عتيك من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله فخر عن دابته فمات ، أو لدغته حية فمات ، أو مات حتف أنفه ، فقد وقع أجره على الله ، ومن مات قعصا فقد استوجب المآب .

ويقول فضالة بن عبيد : ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ، ذكر ذلك ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن سلامان بن عامر ، عن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني ، عن فضالة بن عبيد ، في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غزاة بمنجنيق ، والآخر مات هناك ، فجلس فضالة عند الميت ، فقيل له : تركت الشهيد ، ولم تجلس عنده ، فقال : ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ، ثم تلا قوله عز وجل والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا الآية كلها .

قال أبو عمر رحمه الله : قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي الجهاد أفضل ؟ فقال : من أهريق دمه وعقر جواده ، ولم يخص برا من بحر ، رواه أبو ذر وغيره .

وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن محمد بن مسلم [ ص: 237 ] بن عائذ ، عن عامر بن سعد ، عن سعد أن رجلا جاء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ، فقال حين انتهى إلى الصف : اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين ، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته ، قال : من المتكلم آنفا ؟ قال : أنا يا رسول الله ، قال : إذا يعقر جوادك وتستشهد في سبيل الله .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا المسعودي ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رجل يا رسول الله أي الجهاد أفضل ؟ قال : من عقر جواده وأهرق دمه ، وبهذا الإسناد عن وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه - مثله .

وإذا كان من هرق دمه ، وعقر جواده أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة فهو مفضول ، وقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يضرب من يسمعه يقول : من قتل في سبيل الله فهو شهيد ، ويقول لهم : قولوا من قتل في سبيل الله فهو في الجنة .

قال أبو عمر : لأن شرط الشهادة شديد ، فمن ذلك ألا يغل ، ولا يجبن ، وأن يقتل مقبلا غير مدبر ، وأن يباشر الشريك ، وينفق الكريمة ، ونحو هذا كما قال معاذ ، والله أعلم .

[ ص: 238 ] وروينا في هذا المعنى ، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه قال : لا تغل ولا تخف غلولا ولا تؤذ جارا ولا رفيقا ولا ذميا ، ولا تسب إماما ، ولا تفر من الزحف ، يعني ولك الشهادة إن قتلت .

واختلفوا أيضا في شهيد البحر أهو أفضل أم شهيد البر ؟ فقال قوم : شهيد البر أفضل ، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الشهداء من عقر جواده وأهرق دمه وقال آخرون : شهيد البحر أفضل ، والغزو في البحر أفضل ، واحتجوا بحديث منقطع الإسناد ، عن النبي - صلى الله عليه - أنه قال : من لم يدرك الغزو معي ، فليغز في البحر ، فإن غزاة في البحر أفضل من غزوتين في البر ، وإن شهيد البحر له أجر شهيدي البر ، وإن أفضل الشهداء عند الله يوم القيامة أصحاب الوكوف قالوا : يا رسول الله ، وما أصحاب الوكوف ؟ قال : قوم تكفأ بهم مراكبهم في سبيل الله .

وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : غزوة في البحر أفضل من عشر غزوات في البر ، ذكره ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن يحيى بن سعيد ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : غزوة في البحر أفضل من عشر في البر ، والمائد فيه كالمتشحط في دمه .

وعن عبد الله بن عمرو أيضا أنه قال : لأن أغزو في البحر غزوة أحب إلي من أن أنفق قنطارا متقبلا في سبيل الله ، وإسناده ليس به بأس ، ذكره ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن يحيى بن ميمون ، عن أبي سالم الجيشاني ، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ، وذكر ابن وهب أيضا [ ص: 239 ] عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن كعب الأحبار أنه قال : أفضل الشهداء الغريق ، له أجر شهيدين ، وإنه يكتب له من الأجر من حين يركبه حتى يرسي كأجر رجل ضربت في الله عنقه فهو يتشحط في دمه .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن بكار العيشي ، حدثنا مروان ، أخبرنا هلال بن ميمون الزملي ، عن يعلى بن شداد ، عن أم حرام ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد ، والغرق له أجر شهيدين .

قال أبو عمر : قد ذكرنا ما بلغنا في ذلك ، وروي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي ، عن النبي عليه السلام أنه قال : لا يركب البحر رجل [ ص: 240 ] إلا غازيا أو حاجا أو معتمرا ، فإن تحت البحر نارا وهو حديث ضعيف مظلم الإسناد لا يصححه أهل العلم بالحديث ; لأن رواته مجهولون لا يعرفون ، وحديث أم حرام هذا يرده .

وفيما رواه يعلى بن شداد ، عن أم حرام كفاية في رده ، وقد ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن مجاهد قال : لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز ، وأكثر أهل العلم يجيزون ركوب البحر في طلب الحلال إذا تعذر البر ، وركب البحر في حين يغلب عليه فيه السكون ، وفي كل ما أباحه الله ولم يحظره على حديث أم حرام وغيره إلا أنهم يكرهون ركوبه في الاستغزار من طلب الدنيا ، والاستكثار من جمع المال ، وبالله التوفيق .

ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال : عجبت لراكب البحر ، وقوله في حديث إسحاق في هذا الباب : يركبون ثبج هذا البحر ، يعني ظهر هذا البحر ، أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا عفان بن مسلم ، وأخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عفان - ح - وأخبرنا عبيد بن محمد ، واللفظ لحديثه ، قال : أخبرنا عبد الله بن مسرور قال : حدثنا عيسى بن مسكين قال : حدثنا محمد بن [ ص: 241 ] سنجر قال : حدثنا حجاج بن منهال قالا : حدثنا سلمة ، عن يحيى بن سعيد ، وقالا في حديث عفان قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن أنس بن مالك ، عن أم حرام ، قالت بينما رسول الله - صلى الله عليه - قائلا في بيتي ، فاستيقظ وهو يضحك ، فقلت : بأبي أنت يا رسول الله مم تضحك ؟ قال : عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر كالملوك على الأسرة . فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ؟ قال : اللهم اجعلها منهم ، ثم نام فاستيقظ وهو يضحك ، فقلت : بأبي أنت يا رسول الله مم تضحك ؟ قال : عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر كالملوك على الأسرة ، فقلت : ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : أنت من الأولين ، فغزت مع زوجها عبادة بن الصامت في البحر ، فلما قفلوا وقصتها بغلة لها فماتت ، هكذا في هذا الحديث " فغزت مع زوجها عبادة بن الصامت " .

وروى هذا الحديث عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أنس قال : اتكأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند بنت ملحان ، فساق هذا الحديث بنحو ما ذكرنا إلا أنه قال في آخره فنكحت عبادة بن الصامت ، فركبت مع ابنة قرظة ، فلما قفلت وقصت بها دابتها فقتلتها فدفنت ، ثم ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أنس ، وذكر ابن وهب ، عن حفص بن مسيرة [ ص: 242 ] عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، هذا الحديث بمعناه ، وقال : قال عطاء بن يسار : فشهدت أنا تلك الغزوة مع المنذر بن الزبير ، فكانت معه في غزوتنا فماتت بأرض الروم ، وذكر خليفة بن خياط ، عن ابن الكلبي قال : وفي سنة ثمان وعشرين غزا معاوية بن أبي سفيان في البحر ومعه امرأته فاختة بنت قرظة ، من بني عبد مناف ، ومعه عبادة بن الصامت ، ومعه امرأته أم حرام بنت ملحان الأنصارية ، فأتى قبرص ، فتوفيت أم حرام ، فقبرها هناك .

قال أبو عمر : لم يختلف أهل السير فيما علمت أن غزاة معاوية هذه المذكورة في حديث هذا الباب إذ غزت معه أم حرام كانت في خلافة عثمان لا في خلافة معاوية قال الزبير بن أبي بكر : ركب معاوية البحر غازيا بالمسلمين في خلافة عثمان بن عفان إلى قبرس ، ومعه أم حرام بنت ملحان زوجة عبادة بن الصامت ، فركبت بغلتها حين خرجت من السفينة ، فصرعت عن دابتها فماتت .




الخدمات العلمية