الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        فإذا نحن أتينا أصحاب الكلام ، لما يزعمون أنهم عليه من معرفة القياس وحسن النظر وكمال الإرادة ، وأردنا أن نتعلق بشيء من مذاهبهم ونعتقد شيئا من نحلهم ، وجدنا ( النظام ) شاطرا من الشطار يغدو على سكر ويروح على سكر ويبيت على جرائرها ويدخل في الأدناس [ ص: 67 ] ويرتكب الفواحش والشائنات وهو القائل :


        ما زلت آخذ روح الزق في لطف وأستبيح دما من غير مجروح     حتى انثنيت ولي روحان في جسدي
        والزق مطرح جسم بلا روح

        ثم نجد أصحابه يعدون من خطئه قوله : إن الله عز وجل يحدث الدنيا وما فيها ، في كل وقت من غير إفنائها .

        قلنا : فالله في قوله يحدث الموجود ، ولو جاز إيجاد الموجود لجاز إعدام المعدوم ؛ وهذا فاحش في ضعف الرأي وسوء الاختيار .

        مخالفة النظام لأئمة المسلمين وطعنه بالصحابة والتابعين :

        وحكوا عنه أنه قال : قد يجوز أن يجمع المسلمون جميعا على الخطأ ، قال : ومن ذلك إجماعهم على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الناس كافة دون جميع الأنبياء وليس كذلك وكل نبي في الأرض - بعثه الله تعالى - [ ص: 68 ] فإلى جميع الخلق بعثه ؛ لأن آيات الأنبياء لشهرتها تبلغ آفاق الأرض ، وعلى كل من بلغه ذلك أن يصدقه ويتبعه .

        فخالف الرواة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : بعثت إلى الناس كافة وبعثت إلى الأحمر والأسود ، وكان النبي يبعث إلى قومه وأول الحديث .

        وفي مخالفة الرواية وحشة فكيف بمخالفة الرواية والإجماع لما استحسن . وكان إبراهيم النظام يقول في الكنايات عن الطلاق كالخلية والبرية وحبلك على غاربك والبتة وأشباه ذلك أنه لا يقع بها طلاق ، نوى الطلاق أو لم ينوه ، فخالف إجماع المسلمين وخالف الرواية لما استحسن .

        وكذلك كان يقول : إذا ظاهر بالبطن أو الفرج لم يكن مظاهرا ، وإذا آلى بغير الله تعالى لم يكن موليا ، لأن الإيلاء مشتق من اسم الله تعالى .

        وكان يقول : إذا نام الرجل أول الليل على طهارة مضطجعا أو قاعدا أو متوركا أو كيف نام إلى الصبح لم ينتقض وضوءه لأن النوم لا ينقض الوضوء .

        قال : وإنما أجمع الناس على الوضوء من نوم الضجعة ، لأنهم كانوا يرون أوائلهم إذا قاموا بالغداة من نوم الليل تطهروا ، لأن عادات الناس الغائط والبول مع الصبح ، ولأن الرجل يستيقظ وبعينه رمص وبفيه [ ص: 69 ] خلوف ، وهو متهيج الوجه فيتطهر للحدث والنشرة لا للنوم ، وكما أوجب كثير من الناس الغسل يوم الجمعة لأن الناس كانوا يعملون بالغداة في حيطانهم فإذا أرادوا الرواح اغتسلوا ، فخالف بهذا القول الرواية والإجماع ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أمتي لا تجتمع على خطأ .

        خطأ النظام أبا بكر وعمر : .

        وذكر قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ( لو كان هذا الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره ) . فقال النظام : كان الواجب على عمر العمل بمثل ما قال في الأحكام كلها وليس ذلك بأعجب من قوله : أجرؤكم على الجد أجرؤكم على النار ، ثم قضى في الجد بمائة قضية مختلفة .

        وذكر قول أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - حين سئل عن آية من كتاب الله تعالى فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني أم أين أذهب أم كيف أصنع إذا أنا قلت في آية من كتاب الله تعالى بغير ما أراد الله ؟ ثم سئل عن الكلالة فقال : أقول فيها برأيي فإن كان صوابا [ ص: 70 ] فمن الله وإن كان خطأ فمني - هي ما دون الولد والوالد " . قال : وهذا خلاف القول الأول . ومن استعظم القول بالرأي ذلك الاستعظام لم يقدم على القول بالرأي هذا الإقدام حتى ينفذ عليه الأحكام .

        وذكر قول علي كرم الله وجهه ، حين سئل عن بقرة قتلت حمارا ، فقال : ( أقول فيها برأيي فإن وافق رأيي قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذاك وإلا فقضائي رذل فسل ) . قال وقال : ( من أحب أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد ) ثم قضى فيه بقضايا مختلفة .

        وكذب ابن مسعود واتهمه :

        وذكر قول ابن مسعود في حديث بروع بنت واشق : ( أقول فيها برأيي فإن كان خطأ فمني وإن كان صوابا فمن الله تعالى ) . قال : وهذا هو الحكم بالظن ، والقضاء بالشبهة ، وإذا كانت الشهادة بالظن حراما فالقضاء بالظن أعظم . قال : ولو كان ابن مسعود بدل نظره في الفتيا نظر في الشقي كيف يشقى والسعيد كيف يسعد ، حتى لا يفحش قوله على الله تعالى ، ولا يشتد غلطه ، كان أولى به .

        قال : وزعم أن القمر انشق وأنه رآه وهذا من الكذب الذي لا خفاء به لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده ولا لآخر معه وإنما [ ص: 71 ] يشقه ليكون آية للعالمين وحجة للمرسلين ومزجرة للعباد وبرهانا في جميع البلاد . فكيف لم تعرف بذلك العامة ولم يؤرخ الناس بذلك العام ، ولم يذكره شاعر ، ولم يسلم عنده كافر ، ولم يحتج به مسلم على ملحد ؟ .

        قال : ثم جحد من كتاب الله تعالى سورتين ، فهبه لم يشهد قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما ، فهلا استدل بعجيب تأليفهما وأنهما على نظم سائر القرآن المعجز للبلغاء أن ينظموا نظمه وأن يحسنوا مثل تأليفه .

        قال النظام : وما زال ابن مسعود يطبق في الركوع إلى أن مات كأنه لم يصل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو كان غائبا .

        وشتم زيد بن ثابت :

        وشتم زيد بن ثابت بأقبح الشتم لما اختار المسلمون قراءته لأنها آخر العرض .

        وعاب عثمان بن عفان :

        وعاب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حين بلغه أنه صلى بمنى أربعا ثم تقدم فكان أول من صلى أربعا ، فقيل له في ذلك فقال : [ ص: 72 ] الخلاف شر والفرقة شر ، وقد عمل بالفرقة في أمور كثيرة ، ولم يزل النظام يقول في عثمان القول القبيح منذ اختار قراءة زيد .

        ورأى قوما من الزط فقال : هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن ، ذكر ذلك سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود .

        وذكر داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة قال : قلت لابن مسعود كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن ؟ فقال : ما شهدها منا أحد .

        وذكر النظام حذيفة بن اليمان فقال : جعل يحلف لعثمان على أشياء بالله تعالى ما قالها ، وقد سمعوه قالها . فقيل له في ذلك فقال : إني أشتري ديني بعضه ببعض ؛ مخافة أن يذهب كله ، رواه مسعر بن كدام عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة .

        وطعن بأبي هريرة :

        وذكر أبا هريرة ، فقال النظام : أكذبه عمر وعثمان وعلي وعائشة - رضوان الله عليهم - وروى حديثا في المشي في الخف الواحد ، فبلغ عائشة ، فمشت في خف واحد وقالت : لأخالفن أبا هريرة .

        [ ص: 73 ] وروى أبو هريرة أن الكلب والمرأة والحمار تقطع الصلاة فقالت عائشة رضي الله عنها : ربما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وسط السرير وأنا على السرير معترضة بينه وبين القبلة .

        قال النظام : وبلغ عليا أن أبا هريرة يبتدئ بميامنه في الوضوء وفي اللباس فدعا بماء فتوضأ فبدأ بمياسره وقال لأخالفن أبا هريرة .

        وكان من قوله حدثني خليلي ، وقال خليلي ، ورأيت خليلي ، فقال له علي : متى كان النبي خليلك يا أبا هريرة ؟ .

        قال : وقد روى " من أصبح جنبا فلا صيام له " ؛ فأرسل مروان في ذلك إلى عائشة وحفصة يسألهما ، فقالتا : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم . فقال للرسول : اذهب إلى أبي هريرة حتى تعلمه . فقال أبو هريرة : إنما حدثني بذلك الفضل بن العباس . فاستشهد ميتا ، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعه .

        تفنيد مزاعم النظام :

        قال أبو محمد : هذا قول النظام في جلة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم ، كأنه لم يسمع بقول الله - عز وجل - في كتابه الكريم ( محمد رسول الله والذين معه ) إلى آخر السورة .

        [ ص: 74 ] ولم يسمع بقوله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ، ولو كان ما ذكرهم به حقا لا مخرج منه ولا عذر فيه ولا تأويل له إلا ما ذهب إليه لكان حقيقا بترك ذكره والإعراض عنه ، إذ كان قليلا يسيرا مغمورا في جنب محاسنهم وكثير مناقبهم وصحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذلهم مهجهم وأموالهم في ذات الله تعالى .

        تفنيد ما زعمه النظام على عمر في قضية الجد :

        قال أبو محمد : ولا شيء أعجب عندي من ادعائه على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قضى في الجد بمائة قضية مختلفة وهو من أهل النظر وأهل القياس . فهلا اعتبر هذا ونظر فيه ليعلم أنه يستحيل أن يقضي عمر في أمر واحد بمائة قضية مختلفة . فأين هذه القضايا وأين عشرها ونصف عشرها ؟

        أما كان في حملة الحديث من يحفظ منها خمسا أو ستا ؟ ولو اجتهد مجتهد أن يأتي من القضاء في الجد بجميع ما يمكن فيه من قول ومن حيلة ما كان يتيسر له أن يأتي فيه بعشرين قضية . وكيف لم يجعل هذا الحديث ، إذ كان مستحيلا ، مما ينكر من الحديث ويدفع مما قد أتى به الثقات ، وما ذاك إلا لضغن يحتمله على عمر - رضي الله عنه - وعداوة .

        مزاعمه في أبي بكر بشأن تفسير كتاب الله تعالى :

        قال أبو محمد : وأما طعنه على أبي بكر - رضي الله عنه - بأنه سئل عن [ ص: 75 ] آية من كتاب الله تعالى فاستعظم أن يقول فيها شيئا ، ثم قال في الكلالة برأيه . فإن أبا بكر - رضي الله عنه - سئل عن شيء من متشابه القرآن العظيم الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ؛ فأحجم عن القول فيه مخافة أن يفسره بغير مراد الله تعالى . وأفتى في الكلالة برأيه لأنه أمر ناب المسلمين واحتاجوا إليه في مواريثهم وقد أبيح له اجتهاد الرأي فيما لم يؤثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء ولم يأت له في الكتاب شيء كاشف ، وهو إمام المسلمين ومفزعهم فيما ينوبهم ؛ فلم يجد بدا من أن يقول .

        وكذلك قال عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد - رضي الله عنهم - حين سئلوا وهم الأئمة والمفزع إليهم عند النوازل . فماذا كان ينبغي لهم أن يفعلوا عنده ؟ أيدعون النظر في الكلالة وفي الجد ، إلى أن يأتي هو وأشباهه فيتكلموا فيهما ؟

        تفنيد مطاعنه بعبد الله بن مسعود :

        ثم طعنه على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - بقوله إن القمر انشق وأنه رأى ذلك ثم نسبه فيه إلى الكذب .

        وهذا ليس بإكذاب لابن مسعود ، ولكنه بخس لعلم النبوة وإكذاب للقرآن العظيم ؛ لأن الله تعالى يقول : اقتربت الساعة وانشق القمر فإن كان القمر لم ينشق في ذلك الوقت ، وكان مراده سينشق القمر فيما بعد ، فما معنى قوله : وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر بعقب هذا الكلام ؟ .

        [ ص: 76 ] أليس فيه دليل على أن قوما رأوه منشقا فقالوا : " هذا سحر مستمر " من سحره ، وحيلة من حيله كما قد كانوا يقولون في غير ذلك من أعلامه - صلى الله عليه وسلم - ؟ .

        وكيف صارت الآية من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - والعلم من أعلامه لا يجوز عنده أن يراها الواحد والاثنان والنفر دون الجميع ؟ أوليس قد يجوز أن يخبر الواحد والاثنان والنفر والجميع كما أخبر مكلم الذئب ، بأن ذئبا كلمه ؟ وأخبر آخر بأن بعيرا شكا إليه ، وأخبر آخر أن مقبورا لفظته الأرض ؟

        وطعنه عليه لجحده سورتين من القرآن العظيم يعني " المعوذتين " فإن لابن مسعود في ذلك سببا ، والناس قد يظنون ويزلون ، وإذا كان هذا جائزا على النبيين والمرسلين فهو على غيرهم أجوز . وسببه في تركه إثباتهما في مصحفه أنه كان يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ بهما الحسن والحسين ، ويعوذ غيرهما ، كما كان يعوذهما بـ أعوذ بكلمات الله التامة فظن أنهما ليستا من القرآن فلم يثبتهما في مصحفه .

        وبنحو هذا السبب أثبت أبي بن كعب في مصحفه افتتاح دعاء القنوت وجعله سورتين لأنه كان يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهما في الصلاة دعاء دائما فظن أنه من القرآن .

        وأما التطبيق فليس من فرض الصلاة وإنما الفرض الركوع والسجود ؛ لقول الله عز وجل اركعوا واسجدوا [ ص: 77 ] فمن طبق فقد ركع ، ومن وضع يديه على ركبتيه فقد ركع ، وإنما وضع اليدين على الركبتين أو التطبيق من آداب الركوع . وقد كان الاختلاف في آداب الصلاة ، فكان منهم من يقعي ، ومنهم من يفترش ، ومنهم من يتورك ، وكل ذلك لا يفسد الصلاة وإن كان مختلفا .

        وأما نسبته إياه إلى الكذب في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه فكيف يجوز أن يكذب ابن مسعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا الحديث الجليل المشهور ويقول حدثني الصادق المصدوق وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون ولا ينكره أحد منهم ولأي معنى يكذب مثله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر لا يجتذب به إلى نفسه نفعا ولا يدفع عنه ضرا ولا يدنيه من سلطان ولا رعية ولا يزداد به مالا إلى ماله .

        وكيف يكذب في شيء قد وافقه على روايته عدد ، منهم أبو أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبق العلم وجف القلم وقضي القضاء وتم القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل بالسعادة لمن آمن واتقى والشقاء لمن كذب وكفر . وقال عز وجل : ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد وبفضلي ورحمتي أديت إلي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي " .

        [ ص: 78 ] وهذا الفضل بن عباس بن عبد المطلب يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له : يا غلام احفظ الله يحفظك وتوكل عليه تجده أمامك وتعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وأن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة وكيف يكذب ابن مسعود في أمر يوافقه عليه الكتاب ، يقول الله تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه أي جعل في قلوبهم الإيمان كما قال في الرحمة فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة الآية أي سأجعلها ، ومن جعل الله تعالى في قلبه الإيمان فقد قضى له بالسعادة . وقال عز وجل لرسوله - صلى الله عليه وسلم - إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ولا يجوز أن يكون : إنك لا تسمي من أحببت هاديا ولكن الله يسمي من يشاء هاديا .

        وقال : يضل من يشاء ويهدي من يشاء كما قال : وأضل فرعون قومه وما هدى ولا يجوز أن يكون سمى فرعون قومه ضالين وما سماهم مهتدين .

        [ ص: 79 ] وقال فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء وقال : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وأشباه هذا في القرآن والحديث يكثر ويطول .

        ولم يكن قصدنا في هذا الموضع الاحتجاج على القدرية فنذكر ما جاء في الرد عليهم ونذكر فساد تأويلاتهم واستحالتها وقد ذكرت هذا في غير موضع من كتبي في القرآن . وكيف يكذب ابن مسعود في أمر توافقه عليه العرب في الجاهلية والإسلام ، قال بعض الرجاز :


        يا أيها المضمر هما لا تهم     إنك إن تقدر لك الحمى تحم
        ولو علوت شاهقا من العلم كيف     توقيك وقد جف القلم

        وقال آخر :


        هي المقادير فلمني أو فذر     إن كنت أخطأت فما أخطا القدر

        وقال لبيد :


        إن تقوى ربنا خير نفل     وبأمر الله ريثي وعجل
        من هداه سبل الخير اهتدى     ناعم البال ومن شاء أضل

        [ ص: 80 ] وقال الفرزدق :


        ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار     وكانت جنة فخرجت منها
        كآدم حين أخرجه الضرار     ولو ضنت يداي بها ونفسي
        لكان علي للقدر الخيار

        وقال النابغة :


        وليس امرؤ نائلا من هوا     ه شيئا إذا هو لم يكتب

        وكيف يكذب ابن مسعود - رضي الله عنه - في أمر توافقه عليه كتب الله تعالى وهذا وهب بن منبه يقول : قرأت في اثنين وسبعين كتابا من كتب الله تعالى اثنان وعشرون منها من الباطن وخمسون من الظاهر أجد فيها كلها أن من أضاف إلى نفسه شيئا من الاستطاعة فقد كفر . [ ص: 81 ] وهذه التوراة فيها أن الله تعالى قال لموسى : ( اذهب إلى فرعون فقل له أخرج إلي بني بكري بني إسرائيل من أرض كنعان إلى الأرض المقدسة ليحمدوني ويمجدوني ويقدسوني ، اذهب إليه فأبلغه وأنا أقسي قلبه حتى لا يفعل ) .

        قال أبو محمد : بكري أي : هو لي بمنزلة أولاد الرجل للرجل ، وهو بكري أي : أول من اخترته . وقال حماد رواية عن مقاتل : قال لي عمرو بن فائد : يأمر الله بالشيء ولا يريد أن يكون ؟ قلت : نعم ، أمر إبراهيم - عليه السلام - أن يذبح ابنه وهو لا يريد أن يفعل ، قال : إن تلك رؤيا . قلت : ألم تسمعه يقول : ياأبت افعل ما تؤمر وهذه أمم العجم كلها تقول بالإثبات بالقدر .

        والهند تقول في كتاب ( كليلة ودمنة ) وهو من جيد كتبهم القديمة : اليقين بالقدر لا يمنع الحازم توقي المهالك وليس على أحد النظر في القدر المغيب ولكن عليه العمل بالحزم .

        [ ص: 82 ] قال أبو محمد : ونحن نجمع تصديقا بالقدر وأخذا بالحزم .

        قال أبو محمد : وقرأت في كتب العجم أن هرمز سئل عن السبب الذي بعث فيروز على غزو الهياطلة ثم الغدر بهم فقال : إن العباد يجرون من قدر ربنا ومشيئته فيما ليس لهم صنع معه ولا يملكون تقدما ولا تأخرا عنه .

        فمن كانت مسألته عما سأل عنه وهو مستشعر للمعرفة بما ذكرنا من ذلك لا يقصد بمسألته إلا عن العلة التي جرى بها المقدار على من جرى ذلك الأمر عليه ، والسبب الظاهر الذي أدركته الأعين منه متبع لما جرى عليه الناس في قولهم : ما صنع فلان ؟ وهم يريدون " ما صنع به " أو " صنع على يديه " .

        وكذلك قولهم : مات فلان ، أو عاش فلان . وإنما يريدون فعل به ، فذلك القصد من مسألته ومن تعدى ذلك كان الجهل أولى به وليس حملنا ما حملنا على المقادير في قصته تحريا لمعذرته ولا طلبا لتحسين أمره ولا إنكارا أن يكون ما قدر على المخلوق من آثاره وإن لم يكن يستطيع دفع مكروهها ولا اجتلاب محمودها إلى نفسه ، وهو السبب الذي يجري به ما غيب عنا من ثوابه وعقابه بما حتم به عدل المبتدي لخلقه .

        وأما حديثه الآخر الذي نسبه فيه إلى الكذب فقال : رأى قوما من الزط ، فقال : هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن ، ثم سئل عن ذلك فقيل له : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ فقال ما شهدها منا أحد . فادعى في الحديث الأول أنه شهدها وأنكر ذلك في الحديث الآخر [ ص: 83 ] وتصحيحه الخبرين عنه فكيف يصح هذا عن ابن مسعود مع ثاقب فهمه وبارع علمه وتقدمه في الستة الذين انتهى إليهم العلم بها واقتدت بهم الأمة مع خاصته برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولطف محله وكيف يجوز عليه أن يقر بالكذب هذا الإقرار فيقول اليوم شهدت ويقول غدا لم أشهد ولو جهد عدوه أن يبلغ منه ما بلغه من نفسه ما قدر ولو كان به خبل أو عته أو آفة ما زاد على ما وسم به نفسه .

        وأصحاب الحديث لا يثبتون حديث الزط وما ذكر من حضوره مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن وهم القدوة عندنا في المعرفة بصحيح الأخبار وسقيمها لأنهم أهلها والمعنيون بها وكل ذي صناعة أولى بصناعته .

        غير أنا لا نشك في بطلان أحد الخبرين لأنه لا يجوز على عبد الله بن مسعود أنه يخبر الناس عن نفسه بأنه قد كذب ولا تسقط عندهم مرتبته ولو فعل ذلك لقيل له فلم خبرتنا أمس بأنك شهدت ؟ .

        فإن كان الأمر على ما قال أصحاب الحديث فقد سقط الخبر الأول وإن كان الحديثان جميعا صحيحين فلا أرى الناقل للخبر الثاني إلا وقد أسقط منه حرفا وهو ( غيري ) ، يدلك على ذلك أنه قال : قيل له : أكنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ فقال : " ما شهدها أحد منا غيري " فأغفل الراوي غيري إما بأنه لم يسمعه أو بأنه سمعه فنسيه أو بأن الناقل عنه أسقطه . وهذا وأشباهه قد يقع ولا يؤمن . [ ص: 84 ] ومما يدل على ذلك أنه قيل له : هل كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ فقال : ما شهدها أحد منا . وليس هذا جوابا لقوله هل كنت ؟ وإنما هو جواب لقول السائل : هل كنتم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ وإذا كان قول السائل هل كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ، حسن أن يكون الجواب ما شهدها أحد منا غيري ، يؤكد ذلك ما كان من متقدم قوله .

        ما حكاه النظام عن حذيفة :

        وأما ما حكاه عن حذيفة أنه حلف على أشياء لعثمان ما قالها ، وقد سمعوه قالها فقيل له في ذلك ، فقال إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله .

        فكيف حمل الحديث على أقبح وجوهه ولم يتطلب له العذر والمخرج وقد أخبر به وذلك قوله : أشتري ديني بعضه ببعض ، أفلا تفهم عنه معناه وتدبر قوله ، ولكن عداوته لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما احتمله من الضغن عليهم حال بينه وبين النظر .

        والعداوة والبغض يعميان ويصمان كما أن الهوى يعمي ويصم ، واعلم رحمك الله أن الكذب والحنث في بعض الأحوال أولى بالمرء وأقرب إلى الله من الصدق في القول والبر في اليمين .

        ألا ترى رجلا لو رأى سلطانا ظالما وقادرا قاهرا يريد سفك دم امرئ مسلم أو معاهد بغير حق أو استباحة حرمه أو إحراق منزله فتخرص قولا كاذبا ينجيه به أو حلف يمينا فاجرة كان مأجورا عند الله مشكورا عند عباده .

        ولو أن رجلا حلف لا يصل رحما ولا يؤدي زكاة ثم استفتى الفقهاء لأفتوه جميعا بأن لا يبر في يمينه والله تعالى يقول : [ ص: 85 ] ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس يريد : لا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من الخير إذا حلفتم أن لا تأتوه ولكن كفروا وائتوا الذي هو خير . وكذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليكفر وليأت الذي هو خير .

        وقد رخص في الكذب في الحرب لأنها خدعة وفي الإصلاح بين الناس وفي إرضاء الرجل أهله ورخص له أن يوري في يمينه إلى شيء إذا ظلم أو خاف على نفسه ، والتورية أن ينوي غير ما نوى مستحلفه كأن كان معسرا ، أحلفه رجل عند حاكم على حق له عليه فخاف الحبس وقد أمر الله تعالى بإنظاره ؛ فيقول : والله ما لهذا علي شيء ، ويقول في نفسه يومي هذا .

        أو يقول : واللاه يريد من اللهو إلا أنه حذف الياء وأبقى الكسرة منها دليلا عليها ، كما قال الله تعالى يا عباد الذين آمنوا [ ص: 86 ] و يوم يدع الداع ويناد المناد أو يقول : كل ما لا أملكه صدقة يريد كل ما لن أملكه أي ليس أملكه . وأن يحلفه رجل أن لا يخرج من باب هذه الديار - وهو له ظالم - فيتسور الحائط ويخرج متأولا بأنه لم يخرج من باب الدار ، وإن كانت نية المستحلف أن لا يخرج منها بوجه من الوجوه فهذا وما أشبهه من التورية .

        الرخصة في المعاريض :

        وجاءت الرخصة في المعاريض وقيل إن فيها عن الكذب مندوحة . فمن المعاريض قول إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - في امرأته : " إنها أختي " يريد : أن المؤمنين إخوة . وقوله : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون أراد : بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون ، فجعل النطق شرطا للفعل وهو لا ينطق ولا يفعل . وقوله إني سقيم يريد سأسقم لأن من كتب عليه الموت والفناء فلا بد من أن يسقم ، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : إنك ميت وإنهم ميتون ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ميتا في وقته ذلك وإنما أراد إنك ستموت وسيموتون .

        [ ص: 87 ] فأين كان عن طلب المخرج له من وجه من هذه الوجوه وقد نبهه على أن له مخرجا بقوله أشتري ديني بعضه ببعض ، فإن أحببت أن تعلم كيف يكون طلب المخرج خبرناك بأمثال ذلك ، فمنها أن رجلا من الخوارج لقي رجلا من الروافض فقال له : والله لا أفارقك حتى تبرأ من عثمان وعلي أو أقتلك ، فقال أنا والله من علي ومن عثمان بريء ، فتخلص منه ، وإنما أراد أنا من علي يريد أنه يتولاه ومن عثمان بريء فكانت براءته من عثمان وحده .

        ومن ذلك أن رجلا من أصحاب السلطان سأل رجلا كان يتهمه ببغض السلطان والقدح فيه عن السواد الذي يلبسه أصحاب السلطان ، فقال له : النور والله في السواد ، فرضي بذلك ، وإنما أراد أن نور العين في سواد الحدقة فلم يكن في يمينه آثما ولا حانثا .

        ومنها أن عليا - رضي الله عنه - خطب فقال : ( لئن لم يدخل الجنة إلا من قتل عثمان لا أدخلها ولئن لم يدخل النار إلا من قتل عثمان لا أدخلها ) ، فقيل له : ما صنعت يا أمير المؤمنين ؟ فرقت الناس ، فخطبهم وقال : إنكم قد أكثرتم علي في قتل عثمان إلا إن الله تعالى قتله وأنا معه . فأوهمهم أنه قتله مع قتل الله تعالى له ، وإنما أراد أن الله تعالى قتله وسيقتلني معه .

        ومنها أن شريحا دخل على زياد في مرضه الذي مات فيه فلما [ ص: 88 ] خرج بعث إليه مسروق يسأله ، كيف تركت الأمير ؟ قال : تركته يأمر وينهى ، فقال : إن شريحا صاحب عويص فاسألوه ، فقال : تركته يأمر بالوصية وينهى عن البكاء . وسئل شريح عن ابن له وقد مات ، فقالوا : كيف أصبح مريضك يا أبا أمية ؟ فقال : الآن سكن علزه ورجاه أهله يعني رجوا ثوابه وهذا أكثر من أن يحيط به .

        وليس يخلو حذيفة في قوله لعثمان - رضي الله عنه - ما قال من تورية إلى شيء في يمينه ، وقوله ولم يحك لنا الكلام فنتأوله وإنما جاء مجملا . وسنضرب له مثلا ؛ كأن حذيفة قال : والناس يقولون عند الغضب أقبح ما يعلمون وعند الرضا أحسن ما يعلمون . إن عثمان خالف صاحبيه ووضع الأمور غير مواضعها ولم يشاور أصحابه في أموره ودفع المال إلى غير أهله ، هذا وأشباهه . فوشى به إلى عثمان - رضي الله عنه - واش فغلظ القول ، وقال : ذكر أنك تقول : إني ظالم خائن ، هذا وما أشبهه . فحلف حذيفة بالله تعالى ما قال ذلك ، وصدق حذيفة أنه لم يقل : إن [ ص: 89 ] عثمان خائن ظالم ، وأراد بيمينه استلال سخيمته وإطفاء سورة غضبه وكره أن ينطوي على سخطه عليه ، وسخط الإمام على رعيته كسخط الوالد على ولده والسيد على عبده والبعل على زوجه بل سخط الإمام أعظم من ذلك حوبا ؛ فاشترى الأعظم من ذلك بالأصغر وقال : أشتري بعض ديني ببعض .

        الرد على ما قيل في أبي هريرة :

        وأما طعنه على أبي هريرة بتكذيب عمر وعثمان وعلي وعائشة له فإن أبا هريرة صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوا من ثلاث سنين وأكثر الرواية عنه ، وعمر بعده نحوا من خمسين سنة .

        وكانت وفاته سنة تسع وخمسين وفيها توفيت أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوفيت عائشة - رضي الله عنها - قبلهما بسنة ، فلما أتى من الرواية عنه ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين الأولين إليه اتهموه وأنكروا عليه ، وقالوا : كيف سمعت هذا وحدك ؟ ومن سمعه معك ؟ .

        وكانت عائشة - رضي الله عنها - أشدهم إنكارا عليه لتطاول الأيام بها وبه . وكان عمر أيضا شديدا على من أكثر الرواية أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه . وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية ، يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها ، [ ص: 90 ] ويدخلها الشوب ، ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي ، وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه . بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وقال علي - رضي الله عنه - : كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته ، وأن أبا بكر حدثني وصدق أبو بكر . ثم ذكر الحديث ، أفما ترى تشديد القوم في الحديث وتوقي من أمسك ، كراهية التحريف أو الزيادة في الرواية أو النقصان لأنهم سمعوه - عليه السلام - يقول : من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار [ ص: 91 ] وهكذا روي عن الزبير أنه رواه وقال : أراهم يزيدون فيه " متعمدا " والله ما سمعته قال : " متعمدا " .

        وروى مطرف بن عبد الله أن عمران بن حصين قال : والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومين متتابعين ، ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعوا كما سمعت ، وشهدوا كما شهدت ، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون ، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم ، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون .

        فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألزمهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخدمته وشبع بطنه ، وكان فقيرا معدما ، وأنه لم يكن ليشغله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرس الودي ولا الصفق بالأسواق ، يعرض أنهم كانوا يتصرفون في التجارات ويلزمون الضياع في أكثر الأوقات وهو ملازم له لا يفارقه ، فعرف ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظوا - أمسكوا عنه ، وكان مع هذا يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا ، وإنما سمعه من الثقة عنده ، فحكاه .

        وكذلك كان ابن عباس يفعل ، وغيره من الصحابة وليس في هذا [ ص: 92 ] كذب - بحمد الله - ولا على قائله - إن لم يفهمه السامع - جناح إن شاء الله .

        وأما قوله : قال خليلي ، وسمعت خليلي ، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن عليا - رضي الله عنه - قال له : متى كان خليلك ؟ فإن الخلة بمعنى الصداقة والمصافاة وهي درجتان ، إحداهما ألطف من الأخرى ، كما أن الصحبة درجتان إحداهما ألطف من الأخرى ، ألا ترى أن القائل : أبو بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يريد بهذا القول معنى صحبة أصحابه له ؟ لأنهم جميعا صحابة ، فأية فضيلة لأبي بكر - رضي الله عنه - في هذا القول ؟ وإنما يريد أنه أخص الناس به ، وكذلك الأخوة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه هي ألطف من الأخوة التي جعلها الله بين المؤمنين ؟ فقال : إنما المؤمنون إخوة وهكذا الخلة .

        فمن الخلة التي هي أخص ، قول الله تعالى : واتخذ الله إبراهيم خليلا وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، يريد : لاتخذته خليلا كما اتخذ الله إبراهيم خليلا ، وأما الخلة التي تعم فهي الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين فقال : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين .

        [ ص: 93 ] فلما سمع علي أبا هريرة يقول : ( قال خليلي وسمعت خليلي ) وكان سيئ الرأي فيه ، قال : متى كان خليلك ؟ يذهب إلى الخلة التي لم يتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جهتها خليلا ، وأنه لو فعل ذلك بأحد لفعله بأبي بكر - رضي الله عنه .

        وذهب أبو هريرة إلى الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين والولاية ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الجهة خليل كل مؤمن وولي كل مسلم ، وإلى مثل هذا يذهب في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كنت مولاه فعلي مولاه يريد أن الولاية بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المؤمنين ألطف من الولاية التي بين المؤمنين بعضهم مع بعض ، فجعلها لعلي - رضي الله عنه - ولو لم يرد ذلك ما كان لعلي في هذا القول فضل ، ولا كان في القول دليل على شيء ؛ لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولي كل مسلم ، ولا فرق بين ولي ومولى .

        وكذلك قول الله تعالى ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أية امرأة نكحت بغير أمر مولاها فنكاحها باطل باطل فهذه أقاويل النظام قد بيناها ، وأجبناه عنها .

        وله أقاويل في أحاديث يدعي عليها أنها مناقضة للكتاب وأحاديث يستبشعها من جهة حجة العقل .

        [ ص: 94 ] وذكر أن جهة حجة العقل قد تنسخ الأخبار ، وأحاديث ينقض بعضها بعضا وسنذكرها فيما بعد إن شاء الله .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية