الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 33 ] ( بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .

                          لا أذكر ما قاله الأستاذ الإمام في البسملة ، من حيث لفظها وإعرابها ، وهل هي آية أو جزء آية من الفاتحة أو ليست منها ؟ فإن الخلاف في ذلك مشهور ، وقد اختصر الأستاذ القول فيه اختصارا وقال : إنها على كل حال من القرآن فنتكلم عليها كسائر الآيات .

                          وأقول الآن : أجمع المسلمون على أن البسملة من القرآن وأنها جزء آية من سورة النمل . واختلفوا في مكانها من سائر السور ، فذهب إلى أنها آية من كل سورة علماء السلف من أهل مكة فقهائهم وقرائهم ومنهم ابن كثير ، وأهل الكوفة ومنهم عاصم والكسائي من القراء ، وبعض الصحابة والتابعين من أهل المدينة ، والشافعي في الجديد وأتباعه ، والثوري وأحمد في أحد قوليه ، والإمامية ، ومن المروي عنهم ذلك من علماء الصحابة : علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة ، ومن علماء التابعين سعيد بن جبير ، وعطاء ، والزهري ، وابن المبارك ، وأقوى حججهم في ذلك إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل سورة سوى سورة براءة ( التوبة ) مع الأمر بتجريد القرآن عن كل ما ليس منه ، ولذلك لم يكتبوا ( آمين ) في آخر الفاتحة ، وأحاديث منها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنزلت علي آنفا سورة فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم " وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يعرف فصل السورة - وفي رواية انقضاء السورة - حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم " .

                          وأخرجه الحاكم في المستدرك ، وقال صحيح على شرط الشيخين . وروى الدارقطني من حديث أبي هريرة قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قرأتم الحمد لله ( أي سورة " الحمد لله " ) فاقرأوا ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فإنها أم القرآن والسبع المثاني ، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى [ ص: 34 ] آياتها " وذهب مالك وغيره من علماء المدينة ، والأوزاعي وغيره من علماء الشام ، وأبو عمرو ويعقوب من قراء البصرة إلى أنها آية مفردة أنزلت لبيان رءوس السور والفصل بينها ، وعليه الحنفية ، وقال حمزة من قراء الكوفة وروي عن أحمد : أنها آية من الفاتحة دون غيرها ، وثمة أقوال أخرى شاذة .

                          هذا - وقد قال الأستاذ الإمام : القرآن إمامنا وقدوتنا ، فافتتاحه بهذه الكلمة إرشاد لنا بأن نفتتح أعمالنا بها فما معنى هذا ؟ ليس معناه أن نفتتح أعمالنا باسم من أسماء الله تعالى بأن نذكره على سبيل التبرك أو الاستعانة به ، بل أن نقول هذه العبارة :

                          ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فإنها مطلوبة لذاتها .

                          أقول الآن : الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات من الذوات كحجر وخشب وزيد ، أو معنى من المعاني كالعلم والفرح . وقال ابن سيده : هو اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض . وقال الراغب : الاسم ما يعرف به ذات الشيء وأصله . وقال كثيرون : إنه مشتق من السمو ، وإن أصله سمو ؛ لأن تصغيره سمي وجمعه أسماء .

                          والسمو : العلو ، كأن الاسم يعلو مسماه بكونه عنوانا له ودليلا عليه . وقال آخرون : إنه من السمة ، وهي العلامة ، وأصله وسم . وقال بعض الباحثين في الكلام والفلسفة : إن الاسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين - وهي عندهم أسماء مترادفة - وهذا القول ليس من اللغة في شيء ، ولا هو من الفلسفة النافعة ، بل من الفلسفة الضارة ، وإن قال الألوسي بعد نقله عن ابن فورك والسهيلي : " وممن يعض عليه بالنواجذ " بل لا ينبغي أن يذكر مثل هذا القول إلا لأجل النهي عن إضاعة الوقت في قراءة ما بني عليه من السفسطة في إثبات قول القائلين : إن الاسم عين المسمى . وقد كتبوا لغوا كثيرا في هذه المسألة ، وقلما ترى أحدا رضي كلام غيره فيها ، ولكن قد يرضيه كلام نفسه الذي يؤيد به ما لم يفهمه من كلام غيره .

                          والحق أن الاسم : هو اللفظ الذي ينطق به لسانك ويكتبه قلمك ، كقولك : الشمس أو زيد أو مكة . والمسمى : هو الكوكب المعروف أو الشخص المعين أو البلد المحدد ، وقد يكون بعيدا عنك عند إطلاق الاسم . ولفظ " اسم " اسم لهذا النوع من اللفظ الذي يدل على الجواهر والأعراض ، دون الأحداث التي تسمى في النحو أفعالا . ومدلوله مثل مدلول لفظ إنسان يطلق على أفراد كثيرة كلفظ " الشمس " الذي تنطق به وتكتبه ، ولفظ " زيد " ولفظ " مكة " ، وغير ذلك من أسماء الموجودات . فالاسم غير المسمى في اللغة ، وقد أخطأ من نسب إلى سيبويه غير هذا كما قال ابن القيم ، بل قال في كتابه ( بدائع الفوائد ) : ما قال نحوي قط ولا عربي إن الاسم عين المسمى ، وذكر بعض من قال باتحاد الاسم والمسمى بالتسمية وبين الخطأ في ذلك . وأن معنى " ( سبح اسم ربك الأعلى " سبح ربك ذاكرا اسمه الأعلى ، ومعنى " سبح باسم ربك " سبحه ناطقا باسمه العظيم .

                          [ ص: 35 ] ومنشأ الاشتباه عند بعضهم أن الله تعالى أمرنا بذكره و تسبيحه في آيات ، وبذكر اسمه وتسبيح اسمه في آيات أخرى ، فقال تعالى : ( واذكر اسم ربك و تبتل إليه تبتيلا ) ( 73 : 89 ) ( واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ) ( 76 : 25 ) ( ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) ( 22 : 40 ) ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ) ( 6 : 118 ) ( وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ) ( 6 : 119 ) ( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) ( 22 : 36 ) أي البدن عند نحرها ، وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا ) ( 33 : 41 - 42 ) . ( فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم ) ( 2 : 198 ) . ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا 2 ) ( : 200 ) . ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) ( 3 : 191 ) . ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) ( 4 : 103 ) . وقال تعالى في التسبيح : ( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ) ( 7 : 206 ) أي يسبحون ربك فعدى التسبيح بنفسه إلى ضمير الرب كما عداه بنفسه إلى اسم الرب في قوله تعالى : ( سبح اسم ربك الأعلى ) ( 87 : 1 ) وبالباء في قوله : ( فسبح باسم ربك العظيم ) ( 56 : 74 ، 96 ) . وقال ( سبح لله ما في السماوات والأرض ) ( 57 : 1 ) ومثله كثير . وقال تعالى : ( فتبارك الله ) ( 23 : 14 ) . ( تبارك الذي نزل الفرقان ) ( 25 : 1 ) كما قال : ( تبارك اسم ربك ) ( 55 : 78 ) .

                          رأى بعضهم أن يجمع بين هذه الآيات بجعل الاسم عين المسمى ، وأن ذكر الله وذكر اسمه وتسبيحه وتسبيح اسمه واحد ؛ لأن اسمه عين ذاته ، وأن هذا خير من القول بأن لفظ " اسم " مقحم زائد . والصواب أن الذكر في اللغة ضد النسيان ، وهو ذكر القلب ، ولذلك قرنه بالتفكر في سورة آل عمران ( 3 : 191 ) وهما عبادتان قلبيتان ، وقال : ( واذكر ربك إذا نسيت ) ( 18 : 24 ) ويطلق الذكر أيضا على النطق باللسان ؛ لأنه دليل على ذكر القلب وعنوان وسبب له ، وإنما يذكر اللسان اسم الله تعالى كما يذكر من كل الأشياء أسماءها ، دون ذوات مسمياتها ، فإذا قال : " نار " لا يقع جسم النار على لسانه فيحرقه ، وإذا قال الظمآن : " ماء " لا يحصل مسمى هذا اللفظ في فيه فينقع غلته ، فذكر الله تعالى في القلب هو تذكر عظمته وجلاله وجماله ونعمه ، وورد التصريح بالأمر بذكر نعمة الله وآلاء الله . وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر والثناء إليها ، وكذلك تسبيحه تعالى ، فالقلب يسبحه باعتقاد كماله وتذكر تنزيهه عما لا يليق به ، واللسان يسبحه بإضافة التسبيح إلى أسمائه من غير ذكر للفظ الاسم . روى أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم في " مستدركه " وابن حبان في " صحيحه " عن عقبة بن عامر قال : لما نزلت ( فسبح باسم ربك العظيم " قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اجعلوها في ركوعكم " فلما نزلت ( سبح اسم ربك الأعلى " قال : " اجعلوها في سجودكم " والمراد أن يقولوا : " سبحان ربي العظيم " لا " [ ص: 36 ] سبحان اسم ربي العظيم " فقد روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن حذيفة قال : صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول في ركوعه : " سبحان ربي العظيم " وفي سجوده " سبحان ربي الأعلى " . ولهذا ورد في الكلام عن الذبائح ذكر اسم الله عليها " ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه " وتقدم آنفا ذكر عدة آيات في هذا - فعلم من هذا التحقيق : أن الاسم غير المسمى ، وأن ذكر الاسم مشروع ، وذكر المسمى مشروع . والفرق بينهما ظاهر كالصبح ، وكذلك التسبيح والتبارك ، فكما يعظم الله يعظم اسمه الكريم ، فيذكر مقرونا بالحمد والشكر والثناء والتقديس . وقد صرحوا بأن تعمد إهانة أسماء الله تعالى في اللفظ والكتابة كفر ؛ لأنه لا يمكن أن يأتي من مؤمن . ا هـ . ما زدته الآن .

                          وقال الأستاذ الإمام ما معناه عندما تقول : إنني أذكر اسم الله تعالى كالعزيز والحكيم ، لا تعني أنك تذكر لفظ " اسم " فلو كان قولهم : إن المراد من الابتداء بالكلمة " بسم الله " التبرك باسم الله هو الصواب لكان ينبغي أن يكون قولك : " بالله الرحمن الرحيم " مثل " ( بسم الله الرحمن الرحيم " وقوله تعالى : " ( بسم الله مجراها ومرساها " وقد قال بعضهم : إن الإضافة هاهنا للبيان ، أي أفتتح كلامي بسم الله ، ولكن يقتضي أن يكون لفظ " الرحمن الرحيم " واردا على اللفظ وهو غير صحيح . وإرادة أن الأسماء الثلاثة هي المبينة للفظ الاسم تمحل ظاهر ، فما المقصود إذا من هذا التعبير ؟

                          مثل هذا التعبير مألوف عند جميع الأمم ، ومنهم العرب ، وهو أن الواحد منهم إذا أراد أن يفعل أمرا ما لأجل أمير أو عظيم بحيث يكون متجردا من نسبته إليه ومنسلخا عنه ، يقول : أعمله باسم فلان ، ويذكر اسم ذلك الأمير أو السلطان ؛ لأن اسم الشيء دليل وعنوان عليه ، فإذا كنت أعمل عملا لا يكون له وجود ولا أثر ، لولا السلطان الذي به أمر ، أقول إن عملي هذا باسم السلطان أي إنه معنون باسمه ولولاه لما عملته . فمعنى أبتدئ عملي ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أنني أعمله بأمره وله لا لي ، ولا أعمله باسمي مستقلا به على أنني فلان . فكأني أقول : إن هذا العمل لله لا لحظ نفسي . وفيه وجه آخر وهو : أن القدرة التي أنشأت بها العمل هي من الله تعالى ، فلولا ما منحني منها لم أعمل شيئا ، فلم يصدر عني هذا العمل إلا باسم الله ولم يكن باسمي ، إذ لولا ما آتاني من القوة عليه لم أستطع أن آتيه .

                          وقد تم هذا المعنى بلفظ ( الرحمن الرحيم ) كما هو ظاهر . وحاصل المعنى أنني أعمل عملي متبرئا من أن يكون باسمي ، بل هو باسمه تعالى ، لأنني استمد القوة والعناية منه وأرجو إحسانه عليه ، فلولاه لم أقدر عليه ولم أعمله ، بل وما كنت عاملا له على تقدير القدرة عليه ، لولا أمره ورجاء فضله ، فلفظ الاسم معناه مراد ، ومعنى لفظ الجلالة مراد أيضا ، وكذلك كل من لفظ ( الرحمن الرحيم . وهذا الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات . وأقربه إليكم اليوم ما ترونه في المحاكم النظامية حيث يبتدئون الأحكام قولا وكتابة باسم السلطان فلان أو الخديوي فلان .

                          [ ص: 37 ] ومعنى البسملة في الفاتحة أن جميع ما يقرر في القرآن من الأحكام والآيات وغيرها هو لله ومنه ، ليس لأحد غير الله فيه شيء ا هـ .

                          أقول : هذا صفوة ما قرره في متعلق " ( بسم الله " ومعناها ، وهاهنا نظر آخر فيه ، وهو أن القرآن كان وحيا يلقيه الروح الأمين في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل سورة منه مبتدأة ببسملة ، فمتعلق البسملة من ملك الوحي تعلم من أول آية نزل بها وهي قوله تعالى : " ( اقرأ باسم ربك " فمعنى البسملة الذي كان يفهمه النبي - صلى الله عليه وسلم - من روح الوحي : اقرأ يا محمد هذه السورة ( بسم الله الرحمن الرحيم على عباده ، أي اقرأها على أنها منه تعالى لا منك ، فإنه برحمته بهم أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة . وعلى هذا كان يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - من متعلق البسملة أنني أقرأ السورة عليكم أيها الناس باسم الله لا باسمي ، وعلى أنها منه لا مني ، فإنما أنا مبلغ عنه - عز وجل - ( وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) ( 39 : 12 ) . ( وأن أتلو القرآن ) ( 2 : 92 ) إلخ .

                          اختصر الأستاذ الإمام في الكلام على لفظ اسم ولفظ الجلالة ؛ لأن الكلام فيهما مشهور . وقد تكلمنا على اللفظ الأول ، وهاك جملة صالحة في اللفظ الآخر العظيم :

                          لفظ الجلالة ( الله ) علم على ذات واجب الوجود ، قال ابن مالك : وضع معرفا ، وقيل : أصله " إله " فحذفت همزته وأدخلت عليه الألف واللام ، وقيل : أصله الإله ، والإله في اللغة : يطلق على كل معبود ، ولذلك جمعوه على آلهة ، وما كل معبود سموه إلها يطلقون عليه اسم ( الله ) فإن هذا الاسم الكريم كان خاصا في لغتهم بخالق السماوات والأرض وكل شيء . فالتعريف فيه خصصه بالواحد الفرد الكامل ، كما جعلوا لفظ " النجم " بالتعريف خاصا بالثريا . فكان العربي في الجاهلية إذا سئل من خلقك أو من خلق السماوات والأرض ؟ يقول : " الله " وإذا سئل عن بعض آلهتهم : هل خلقت اللات والعزى شيئا من هذه الموجودات ؟ يقول : " لا " وقد احتج القرآن عليهم باعتقادهم هذا كما يأتي في محله . وإنما كانوا يتوسلون بها إلى الله ويعتقدون شفاعتها عنده .

                          قال بعض العلماء : إن لفظ " إله " من أله بمعنى عبد فهو بمعنى معبود ككتاب بمعنى المكتوب ، يقال : أله يأله إلاهة وألوهة وألوهية ، كما يقال عبد يعبد عبادة وعبودة وعبودية فهو صفة بمعنى اسم المفعول ، وقيل : هو من أله بمعنى تحير ، وقيل : من وله بمعنى تحير . وهو إذا استشكل من جهة اللفظ - لأنه تعالى منزه عن الحيرة - يصح أن يقال من جهة المعنى ، والمراد أنه سبب الحيرة . لأن الناظرين إذا ارتقوا في سلم أسباب التكوين ينتهون عند درجة الحيرة في معرفة الموجد الأول الذي هو موجود بنفسه لا بسبب ولا علة سابقة عليه ، وبه وجد كل ما عداه ، لا يستطيعون الوصول إلى حقيقة هذا الموجود العظيم الذي لا يعقل وجود هذه [ ص: 38 ] الكائنات الممكنة إلا بوجوده حتى إن الملاحدة الماديين لما بحثوا في أصل الموجودات ، وارتقوا إلى معرفة البسائط التي تركبت منها الكائنات ، قالوا : إنه لا بد أن يكون لها منشأ وحده مجهول الذات ، ذو قوة وحياة .

                          والحاصل أن اسم الجلالة " الله " علم على ذات الباري سبحانه وتعالى تجري عليه الصفات ولا يوصف به . ولفظ " الإله " صفة . والجمهور على أن معناه الشرعي : المعبود بحق ، ولذلك أنكر القرآن عليهم تسمية أصنامهم آلهة ، والتحقيق أنه أنكر عليهم تأليهها وعبادتها ، لا مجرد تسميتها ، وقد سماها هو آلهة في قوله : ( وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ) ( 11 : 101 ) ولا يظهر في هذه الآية قصد الحكاية .

                          ومما يترتب على قولنا : أن لفظ الجلالة ( الله ) علم يوصف ولا يوصف به أن أسماء الله الحسنى صفات تجري على هذا الاسم العظيم ، ولكونها صفات وصفت بالحسنى . قال تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) ( 7 : 180 ) وتسند إليه تعالى أفعال هذه الصفات ، ويقال : رحم الله فلانا ، ويرحمه الله ، واللهم ارحم فلانا ، وتضاف إليه مصادرها فيقال : رحمة الله وربوبيته ومغفرته ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) ( 7 : 56 ) وهذه الأسماء المشتقة كل منها يدل على ذات الله تعالى وعلى الصفة التي اشتق منها معا بالمطابقة ، وعلى الذات وحدها أو الصفة بالتضمن ، ولكل منها لوازم يدل عليها بالالتزام ، كدلالة الرحمن على الإحسان والإنعام ، ودلالة الحكيم على الإتقان والنظام ، ودلالة الرب على البعث والجزاء ؛ لأن الرب الكامل لا يترك مربوبيه سدى ، ومن عرف الأسماء الحسنى ، والصفات العليا ، عرف أن اسم الجلالة الأعظم ( الله ) يدل عليها كلها وعلى لوازمها الكمالية وعلى تنزهه عن أضدادها السلبية ، فدل هذا الاسم الأعلى على اتصاف مسماه بجميع صفات الكمال ، وتنزهه عن جميع النقائص ، فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، ا هـ ما أحببت زيادته الآن .

                          قال الأستاذ الإمام ما معناه : والرحمن الرحيم مشتقان من الرحمة وهي معنى يلم بالقلب فيبعث صاحبه ويحمله على الإحسان إلى غيره ، وهو محال على الله تعالى بالمعنى المعروف عند البشر ؛ لأنه في البشر ألم في النفس شفاؤه الإحسان والله تعالى منزه عن الآلام والانفعالات ، فالمعنى المقصود بالنسبة إليه من الرحمة أثرها وهو الإحسان . وقد مشى الجلال في تفسيره وتبعه الصبان على أن الرحمن والرحيم بمعنى واحد ، وأن الثاني تأكيد للأول . ومن العجيب أن يصدر مثل هذا القول عن عالم مسلم وما هي إلا غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها .

                          [ ص: 39 ] ( قال ) : وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه : إن في القرآن كلمة تغاير أخرى ، ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به . نعم قد يكون في معنى الكلمة ما يزيد معنى الأخرى تقريرا أو إيضاحا ، ولكن الذي لا أجيزه هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة ، ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير بحيث تكون من قبيل ما يسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة . فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمي في لفظه إلى مجرد التنميق والتزويق . وفي العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها ، وأما ما يسمونه بالحرف الزائد الذي يأتي للتأكيد فهو حرف وضع لذلك ، ومعناه هو التأكيد وليس معناه معنى الكلمة التي يؤكدها ، الباء في قوله تعالى : " ( وكفى بالله شهيدا " تؤكد معنى اتصال الكفاية بجانب الله جل شأنه بذاتها ومعناها الذي وضعت له . ومعنى وصفها بالزيادة أنها كذلك في الإعراب ، وكذلك معنى " من " في قوله " ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " ونحو ذلك . أما التكرار للتأكيد أو التقريع أو التهويل فأمر سائغ في أبلغ الكلام عندما يظهر ذلك القصد منه كتكرار جملة " ( فبأي آلاء ربكما تكذبان " ونحوها عقب ذكر كل نعمة ، وهي عند التأمل ليست مكررة ، فإن معناها عند ذكر كل نعمة : أفبهذه النعمة تكذبان . وهكذا كل ما جاء في القرآن على هذا النحو .

                          والجمهور على أن معنى " الرحمن " المنعم بجلائل النعم ، ومعنى " الرحيم " المنعم بدقائقها ، وبعضهم يقول: إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم ، والرحيم هو المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين . وكل هذا تحكم في اللغة مبني على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى . ولكن الزيادة تدل على زيادة الوصف مطلقا ، فصفة الرحمن تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه سواء كان جليلا أو دقيقا . وأما كون أفراد الإحسان الذي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا فهو غير معني ولا مراد . وقد قارب من قال : إن معنى الرحمن المحسن بالإحسان العام ، ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين ، ولعل الذي حمل من قال : إن الثاني مؤكد للأول على قوله هذا هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة مع عدم التفطن لما هو أحسن منه .

                          قال الأستاذ الإمام : والذي أقول إن صيغة " فعلان " تدل على وصف " فعلى " فيه معنى المبالغة كفعال وهو في استعمال اللغة للصفات العارضة كعطشان وغرثان وغضبان ، وأما صيغة فعيل فإنها تدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس كعليم وحكيم وحليم وجميل . والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ في الحكاية عن صفات الله - عز وجل - التي تعلو عن مماثلة صفات المخلوقين . فلفظ الرحمن يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان ، ولفظ الرحيم يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان [ ص: 40 ] وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة . وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر ولا يكون الثاني مؤكدا للأول ، فإذا سمع العربي وصف الله جل ثناؤه بالرحمن وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما . لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرا ، فعندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه . ويعلم أن لله صفة ثابتة هي الرحمة التي عنها يكون أثرها ، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين ، ويكون ذكرها بعد الرحمن كذكر الدليل بعد المدلول ليقوم برهانا عليه ا هـ .

                          أقول قد سبق العلامة ابن القيم إلى مثل هذه التفرقة ، ولكنه عكس في دلالة الاسمين الكريمين . قال : وأما الجمع بين الرحمن والرحيم ففيه معنى بديع ، وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه ، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم ، وكأن الأول الوصف والثاني الفعل ، فالأول دال على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه ، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته ، أي صفة فعل له سبحانه ، فإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى : ( وكان بالمؤمنين رحيما ) ، ( إنه بهم رءوف رحيم ) ولم يجيء قط رحمن بهم ، فعلمت أن رحمن هو الموصوف بالرحمة . ورحيم هو الراحم برحمته . قال رحمه الله تعالى: هذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب ، وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم تنجل لك صورتها .

                          وقال في كتاب آخر عند ذكر الاسمين الكريمين : وكرر أذانا ( أي إعلاما ) بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته ، فالرحمن : الذي الرحمة وصفه ، والرحيم : الراحم لعباده ، ولهذا يقول تعالى : ( وكان بالمؤمنين رحيما ) . ( إنه بهم رءوف رحيم ) ولم يجيء رحمن بعباده ولا رحمن بالمؤمنين ، مع ما في اسم الرحمن الذي هو على وزن ( فعلان ) من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه للموصوف به ، ألا ترى أنهم يقولون : غضبان للممتلئ غضبا ، وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملئ بذلك ، فبناء فعلان للسعة والشمول المراد منه . ا هـ .

                          أقول : إن هذه الأمثلة تؤيد ما قاله الأستاذ الإمام من أن صيغة ( فعلان ) تدل على الصفة العارضة ، ولا تدل على الدائمة ، فاحتيج إلى صيغة أخرى تدل على الصفة الثابتة الدائمة وهي صيغة ( فعيل ) فهذا أقوى ما قيل في نكتة الجمع بين الاسمين الكريمين بالصيغتين . ويليه دلالة أحدهما على الرحمة بالقوة ، والآخر دلالته عليها بالفعل ، وهذا معنى آخر ألم به هذان الإمامان ، ولكن ابن القيم جعل لفظ الرحيم هو الدال على الرحمة بالفعل بدليل الآيتين [ ص: 41 ] اللتين أوردهما ، ولفظ الرحمن هو الدال عليها بالقوة لعدم تعلق مثل ذلك الظرف به ، وهو قوي . وعكس ( محمد عبده ) وجعل ذلك من مدلول الصيغة باللزوم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية