الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 33 ] فصل

في جملة وجوه إعجاز القرآن

ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز :

أحدها : يتضمن الإخبار عن الغيوب ، وذلك مما لا يقدر عليه البشر ، ولا سبيل لهم إليه . فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه - عليه السلام - أنه سيظهر دينه على الأديان ، بقوله - عز وجل - : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، ففعل ذلك .

وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله ، من إظهار دينه . ليثقوا بالنصر ، ويستيقنوا بالنجح .

وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يفعل كذلك في أيامه ، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه ، فكان سعد بن أبي وقاص - رحمه الله - وغيره من أمراء الجيوش ، من جهته ، يذكر ذلك لأصحابه ، ويحرضهم به ، ويوثق لهم ؛ وكانوا يلقون الظفر في متوجهاتهم ، حتى فتح إلى آخر أيام عمر - رضي الله عنه - إلى بلخ ، وبلاد الهند ، وفتح في أيامه مرو الشاهجان ، ومرو الروذ ، ومنعهم من العبور إلى جيحون ، وكذلك فتح في أيامه فارس إلى إصطخر ، وكرمان ، ومكران ، وسجستان ، وجميع ما كان من مملكة كسرى ، وكل ما كان يملكه ملوك فارس ، بين البحرين من الفرات إلى جيحون ، وأزال ملك ملوك الفرس ، فلم يعد إلى اليوم ولا يعود أبدا - إن شاء الله تعالى - ، ثم إلى حدود إرمينية ، وإلى باب الأبواب . وفتح أيضا ناحية الشام ، والأردن ، وفلسطين ، وفسطاط مصر ، وأزال ملك قيصر عنها ، وذلك من الفرات إلى بحر مصر ، وهو ملك قيصر . وغزت الخيول في أيامه إلى عمورية ، فأخذ الضواحي كلها ، ولم يبق [ ص: 34 ] منها إلا ما حجز دونه بحر ، أو حال عنه جبل منيع ، أو أرض خشنة ، أو بادية غير مسلوكة .

وقال الله - عز وجل - : قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ، فصدق فيه .

وقال في أهل بدر : وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم . ووفى لهم بما وعد .

وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن ، من الإخبار عن الغيوب ، يكثر جدا ، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل .

* * *

والوجه الثاني : أنه كان معلوما من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه كان أميا لا يكتب ، ولا يحسن أن يقرأ .

وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين ، وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم ، ثم أتى بجمل ما وقع وحدث من عظيمات الأمور ، ومهمات السير ، من حين خلق الله آدم - عليه السلام - ، إلى حين مبعثه ، فذكر في الكتاب ، الذي جاء به معجزة له : قصة آدم - عليه السلام - ، وابتداء خلقه . وما صار أمره إليه من الخروج من الجنة . ثم جملا من أمر ولده وأحواله وتوبته ؛ ثم ذكر قصة نوح - عليه السلام - ، وما كان بينه وبين قومه ، وما انتهى إليه أمرهم . وكذلك أمر إبراهيم - عليه السلام - ، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن ، والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء ، صلوات الله عليهم .

ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه ، إلا عن تعلم ؛ وإذ كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار ، ولا مترددا إلى التعلم منهم ، ولا كان ممن يقرأ ، فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه - علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي . ولذلك قال الله - عز وجل - : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون وقال : وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست . وقد بينا أن من [ ص: 35 ] كان يختلف إلى تعلم علم ، ويشتغل بملابسة أهل صنعة ، لم يخف على الناس أمره ، ولم يشتبه عندهم مذهبه ، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم ، وإن كان نادرا ، وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعلم ، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها ، فلو كان منهم لم يخف أمره .

والوجه الثالث : أنه بديع النظم ، عجيب التأليف ، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه .

والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة ، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل ، ونكشف الجملة التي أطلقوها .

فالذي يشتمل عليه بديع نظمه ، المتضمن للإعجاز وجوه :

منها ما يرجع إلى الجملة ، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه ، وتباين مذاهبه - خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم ، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد . وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم ، تنقسم إلى أعاريض الشعر ، على اختلاف أنواعه ، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى ، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع ، ثم إلى معدل موزون غير مسجع ، ثم إلى ما يرسل إرسالا ، فتطلب فيه الإصابة والإفادة ، وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع ، ترتيب لطيف ، وإن لم يكن معتدلا في وزنه ، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل فيه ، ولا يتصنع له . وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه ، ومباين لهذه الطرق . ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع ، ولا فيه شيء منه ، وكذلك ليس من قبيل الشعر ، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع ، ومنهم من يدعي فيه شعرا كثيرا . والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع . فهذا إذا تأمله المتأمل تبين - بخروجه عن أصناف كلامهم ، وأساليب خطابهم - أنه خارج عن العادة ، وأنه معجز . وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن ، وتميز حاصل في جميعه .

* * *

[ ص: 36 ] ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة ، والتصرف البديع ، والمعاني اللطيفة ، والفوائد الغزيرة ، والحكم الكثيرة ، والتناسب في البلاغة ، والتشابه في البراعة ، على هذا الطول ، وعلى هذا القدر . وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة ، وإلى شاعرهم قصائد محصورة ، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال ، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف ، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلف ، والتجوز والتعسف . وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة ، على ما وصفه الله تعالى به ، فقال - عز من قائل - : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، وقوله : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، فأخبر - سبحانه - أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت ، وبان عليه الاختلال .

وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره ، فتأمله تعرف الفصل .

* * *

وفي ذلك معنى ثالث : وهو أن عجيب نظمه ، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين ، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها : من ذكر قصص ، ومواعظ ، واحتجاج ، وحكم ، وأحكام ، وإعذار ، وإنذار ، ووعد ، ووعيد ، وتبشير ، وتخويف ، وأوصاف ، وتعليم أخلاق كريمة ، وشيم رفيعة ، وسير مأثورة ، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها . ونجد كلام البليغ الكامل ، والشاعر المفلق ، والخطيب المصقع - يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور .

فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو .

ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح .

ومنهم من يسبق في التقريط دون التأبين .

ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ .

[ ص: 37 ] ومنهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل ، أو سير الليل ، أو وصف الحرب ، أو وصف الروض ، أو وصف الخمر ، أو الغزل ، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتناوله الكلام ، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب ، والنابغة إذا رهب ، وبزهير إذا رغب . ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام .

ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ ، رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها ، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى ، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ، ووقف دونه ، وبان الاختلاف على شعره ؛ ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم ؛ لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر ؛ ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم . فإذا كان الاختلال يتأتى في شعرهم ، لاختلاف ما يتصرفون فيه ، ستغنينا عن ذكر من هو دونهم . وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها . ثم نجد من الشعراء من يجود في الرجز ، ولا يمكنه نظم القصيد أصلا . ومنهم من ينظم القصيد ، ولكن يقصر تقصيرا عجيبا ، ويقع ذلك من رجزه موقعا بعيدا . ومنهم من يبلغ في القصيدة الرتبة العالية ، ولا ينظم الرجز ، أو يقصر فيه مهما تكلفه أو تعمله .

ومن الناس من يجود في الكلام المرسل ، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانا بينا . ومنهم من يوجد بضد ذلك .

وقد تأملنا نظم القرآن ، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها ، على حد واحد ، في حسن النظم ، وبديع التأليف والرصف ، لا تفاوت فيه ، ولا انحطاط عن المنزلة العليا ، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا . وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب ، من الآيات الطويلة والقصيرة ، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف . وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتا بينا ، ويختلف اختلافا كبيرا . ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت [ ص: 38 ] بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة . فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر ، لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير ، عند التكرار وعند تباين الوجوه ، واختلاف الأسباب التي يتضمن .

* * *

ومعنى رابع : وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بينا في الفصل والوصل ، والعلو والنزول ، والتقريب والتبعيد ، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم ، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع .

ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره ، والخروج من باب إلى سواه . حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري ، مع جودة نظمه ، وحسن وصفه - في الخروج من النسيب إلى المديح . وأطبقوا على أنه لا يحسنه ، ولا يأتي فيه بشيء ، وإنما اتفق له - في مواضع معدودة - خروج يرتضى ، وتنقل يستحسن .

وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء ، والتخول من باب إلى باب . ونحن نفصل بعد هذا ، ونفسر هذه الجملة ، ونبين أن القرآن - على اختلاف فنونه وما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة والطرق المختلفة - يجعل المختلف كالمؤتلف ، والمتباين كالمتناسب ، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد . وهذا أمر عجيب ، تبين به الفصاحة ، وتظهر به البلاغة ، ويخرج معه الكلام عن حد العادة ، ويتجاوز العرف .

* * *

ومعنى خامس : وهو أن نظم القرآن وقع موقعا في البلاغة يخرج عن عادة كلام الجن ، كما يخرج عن عادة كلام الإنس . فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا ، ويقصرون دونه كقصورنا ، وقد قال الله - عز وجل - : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

[ ص: 39 ] فإن قيل : هذه دعوى منكم ، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن الإتيان بمثله ، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ، وإن كنا عاجزين ، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة ، وأسباب غامضة دقيقة ، لا نقدر نحن عليها ، ولا سبيل لنا - للطفها - إليها . وإذا كان كذلك ، لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل .

قيل : قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر الله - عز وجل - . وقد يمكن أن يقال : إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن ، وما يروون لهم من الشعر ، ويحكون عنهم من الكلام ، وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم منقول عنهم . والقدر الذي نقلوه من ذلك قد تأملناه ، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس ، ولعله يقصر عنها . ولا يمتنع أن يسمع كلامهم ، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء - صلوات الله عليهم - ، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات . على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان ، ولهم أشعار محفوظة مدونة في دواوينهم . قال تأبط شرا :


وأدهم قد جبت جلبابه كما اجتابت الكاعب الخيعلا     إلى أن حدا الصبح أثناءه
ومزق جلبابه الأليلا     على شيم نار تنورتها
فبت لها مدبرا مقبلا     فأصبحت والغول لي جارة
فيا جارتا أنت ما أهولا     وطالبتها بضعها فالتوت
بوجه تهول واستغولا     فمن سال أين ثوت جارتي
فإن لها باللوى منزلا     وكنت إذا ما هممت اعتزم
ت وأحر إذا قلت أن أفعلا

[ ص: 40 ] وقال آخر :


عشوا ناري فقلت : منون أنتم ؟     فقالوا : الجن ، قلت : عموا ظلاما
فقلت إلى الطعام فقال منهم     زعيم يحسد الإنس الطعاما

ويذكرون لامرئ القيس قصيدة مع عمرو الجني ، وأشعارا لهما ، كرهنا نقلها لطولها .

وقال عبيد بن أيوب :


فلله در الغول أي رفيقة     لصاحب قفر خائف يتقفر
أرنت بلحن بعد لحن وأوقدت     حوالي نيرانا تلوح وتزهر

وقال ذو الرمة بعد قوله :


قد أعسف النازح المجهول معسفه     في ظل أخضر يدعو هامه البوم
للجن بالليل في حافاتها زجل     كما تناوح يوم الريح عيشوم
دوية ودجى ليل كأنهما     يم تراطن في حافاته الروم

وقال أيضا :


وكم عرست بعد السرى من معرس     به من كلام الجن أصوات سامر

[ ص: 41 ] وقال :


ورمل عزيف الجن في عقباته     هزير كتضراب المغنين بالطبل

وإذا كان القوم يعتقدون كلام الجن ومخاطباتهم ، ويحكون عنهم ، وذلك القدر المحكي لا يزيد أمره على فصاحة العرب - صح ما وصف عندهم من عجزهم عنه كعجز الإنس .

ويبين ذلك من القرآن : أن الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن ، فقال : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه .

فإذا ثبت أنه وصف كلامهم ، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم ، صح أن يوصف الشيء المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة .

وهذان الجوابان أسد عندي من جواب " بعض المتكلمين " عنه ، بأن عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز ، فلا يعتبر غيره . ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه ، فقال لنا قائل : فدلوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله ، لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها .

وإنما ضعفنا هذا الجواب ، لأن الذي حكي وذكر عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله - فيجب أن نعلم عجز الجن عنه ، كما علمنا عجز الإنس عنه . ولو كان وصف عجز الملائكة عنه ، لوجب أن نعرف ذلك أيضا بطريقه .

فإن قيل : أنتم قد انتهيتم إلى ذكر الإعجاز في التفاصيل ، وهذا الفصل إنما يدل على الإعجاز في الجملة ؟

قيل : هذا كما أنه يدل على الجملة ، فإنه يدل على التفصيل أيضا ، فصح أن يلحق هذا القبيل . كما كان يصح أن يلحق بباب الجمل .

* * *

[ ص: 42 ] ومعنى سادس : وهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب ، من البسط والاقتصار ، والجمع والتفريق ، والاستعارة والتصريح ، والتجوز والتحقيق ، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم - موجودة في القرآن . وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم ، في الفصاحة والإبداع والبلاغة . وقد ضمنا بيان ذلك من بعد ؛ لأن الوجه ههنا ذكر المقدمات ، دون البسط والتفصيل .

* * *

ومعنى سابع ، وهو : أن المعاني التي تضمنها في أصل وضع الشريعة والأحكام ، والاحتجاجات في أصل الدين ، والرد على الملحدين ، على تلك الألفاظ البديعة ، وموافقة بعضها بعضا في اللطف والبراعة ، مما يتعذر على البشر ويمتنع ؛ وذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة ، والأسباب الدائرة بين الناس ، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة ، وأسباب مؤسسة مستحدثة ، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع ، كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر ، والأمر المتقرر المتصور ، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه ، ويراد تحقيقه - بان التفاضل في البراعة والفصاحة ، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى ، والمعاني وفقها ، لا يفضل أحدهما على الآخر - فالبراعة أظهر ، والفصاحة أتم .

* * *

ومعنى ثامن ، وهو : أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته ، بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام ، أو تقذف ما بين شعر ، فتأخذها الأسماع ، وتتشوف إليها النفوس ، ويرى وجه رونقها باديا غامرا سائر ما تقرن به ، كالدرة التي ترى في سلك من خرز ، وكالياقوتة في واسطة العقد .

وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير ، وهي غرة جميعه ، وواسطة عقده ، والمنادي على نفسه بتميزه وتخصصه ، برونقه وجماله ، [ ص: 43 ] واعتراضه في حسنه ومائه ، وهذا الفصل أيضا مما يحتاج فيه إلى تفصيل وشرح ونص ؛ ليتحقق ما ادعيناه منه .

ولولا هذه الوجوه التي بيناها ، لم يتحير فيه أهل الفصاحة ، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة ، والتصنع للمعارضة ، وكانوا ينظرون في أمرهم ، ويراجعون أنفسهم ، أو كان يراجع بعضهم بعضا في معارضته ويتوقفون لها .

فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك ، علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور ؛ لعلمهم بعجزهم عنه ، وقصور فصاحتهم دونه .

ولا يمتنع أن يلتبس - على من لم يكن بارعا فيهم ، ولا متقدما في الفصاحة منهم - هذا الحال ؛ حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل ، وحتى يعرف حال عجز غيره . إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم يشتغلوا بذلك ، تحققا بظهور العجز وتبينا له . وأما قوله - تعالى - حكاية عنهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم ، وقد يمكن أن يكون قاله منهم أهل الضعف في هذه الصناعة دون المتقدمين فيها ، وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم ، وهو يدل على عجزهم . ولذلك أورده الله مورد تقريعهم ؛ لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز ، والضمان إلى الوفاء ؛ فلما لم يفعلوا ذلك - مع استمرار التحدي وتطاول زمان الفسحة في إقامة الحجة عليهم بعجزهم عنه - علم عجزهم ؛ إذ لو كانوا قادرين على ذلك لم يقتصروا على الدعوى فقط .

ومعلوم من حالهم وحميتهم أن الواحد منهم يقول في الحشرات والهوام والحيات ، وفي وصف الأزمة والأنساع ، والأمور التي لا يؤبه لها ، ولا يحتاج إليها ، ويتنافسون في ذلك أشد التنافس ، ويتبجحون به أشد التبجح ، فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته في هذه المعاني الفسيحة ، والعبارات الفصيحة ، مع تضمن المعارضة لتكذيبه ، والذب عن أديانهم القديمة ، وإخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم ، وتضليله إياهم ، والتخلص من منازعته ، ثم من محاربته ومقارعته ، [ ص: 44 ] ثم لا يفعلون شيئا من ذلك ، وإنما يحيلون أنفسهم على التعاليل ، ويعللونها بالأباطيل . هذا محال .

* * *

ومعنى تاسع ، وهو : أن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفا . وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة . وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة ، وهو أربعة عشر حرفا . ليدل بالمذكور على غيره ، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم .

والذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية وبنوا عليها وجوهها - أقسام ، نحن ذاكروها :

فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة ، وأخرى مجهورة .

فالمهموسة منها عشرة ، وهي : الحاء ، والهاء ، والخاء ، والكاف ، والشين ، والثاء ، والفاء ، والتاء ، والصاد ، والسين .

وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة .

وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور .

وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء ، لا زيادة ولا نقصان .

" والمجهور " معناه : أنه حرف أشبع الاعتماد في موضعه ، ومنع أن يجرى معه النفس حتى ينقضي الاعتماد ، ويجري الصوت .

" والمهموس " كل حرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى معه النفس . وذلك مما يحتاج إلى معرفته لتبنى عليه أصول العربية .

وكذلك مما يقسمون إليه الحروف ، يقولون : إنها على ضربين : أحدهما حروف الحلق ، وهي ستة أحرف : العين ، والحاء ، والهمزة ، والهاء ، والخاء ، والغين .

والنصف الآخر من هذه الحروف مذكور في جملة الحروف التي تشتمل [ ص: 45 ] عليها الحروف المثبتة في أوائل السور ، وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق .

وكذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين : أحدهما حروف غير شديدة ، وإلى الحروف الشديدة ، وهي التي تمنع الصوت أن يجري فيه ، وهي الهمزة ، والقاف ، والكاف ، والجيم ، والظاء ، والذال ، والطاء ، والباء .

وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضا هي مذكورة في جملة تلك الحروف التي بني عليها تلك السور .

ومن ذلك الحروف المطبقة ، وهي أربعة أحرف ، وما سواها منفتحة . فالمطبقة : الطاء ، والظاء ، والصاد ، والضاد .

وقد علمنا أن نصف هذه الحروف في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور .

وإذا كان القوم - الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام لأغراض لهم في ترتيب العربية ، وتنزيلها بعد الزمان الطويل من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - رأوا مباني اللسان على هذه الجهة ، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر ، على حد التنصيف الذي وصفنا - دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه - بعد العهد الطويل - لا يجوز أن يقع إلا من الله - عز وجل - ؛ لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب .

وإن كان إنما تنبهوا على ما بني عليه اللسان في أصله ، ولم يكن لهم في التقسيم شيء ، وإنما التأثير لمن وضع أصل اللسان . فذلك أيضا من البديع الذي يدل على أن أصل وضعه وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان .

فإن كان أصل اللغة توقيفا فالأمر في ذلك أبين . وإن كان على سبيل التواضع فهو عجيب أيضا ؛ لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند الله تعالى . وكل ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه .

[ ص: 46 ] وقد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة تخصها في النظم ، إذا كانت حروفا ، كنحو " الم " لأن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعا ، واللام متوسطة ، والميم متطرفة ؛ لأنها تأخذ في الشفة . فنبه بذكرها على غيرها من الحروف ، وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم مما يتعارفون من الحروف التي تتردد بين هذين الطرفين .

ويشبه أن يكون التنصيف وقع في هذه الحروف دون الألف ، لأن الألف قد تلغى ، وقد تقع الهمزة وهي موقعا واحدا .

* * *

ومعنى عاشر ، وهو : أنه سهل سبيله ؛ فهو خارج عن الوحشي المستكره ، والغريب المستنكر ، وعن الصنعة المتكلفة . وجعله قريبا إلى الأفهام ، يبادر معناه لفظه إلى القلب ، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس . وهو مع ذلك ممتنع المطلب ، عسير المتناول ، غير مطمع مع قربه في نفسه ، ولا موهم مع دنوه في موقعه أن يقدر عليه ، أو يظفر به .

فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل ، والقول المسفسف ؛ فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة ، فيطلب فيه الممتنع ، أو يوضع فيه الإعجاز .

ولكن لو وضع في وحشي مستكره ، أو غمر بوجوه الصنعة ، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف - لكان لقائل أن يقول فيه ويعتذر ، أو يعيب ويقرع .

ولكنه أوضح مناره ، وقرب منهاجه ، وسهل سبيله ، وجعله في ذلك متشابها متماثلا ، وبين مع ذلك إعجازهم فيه .

وقد علمت أن كلام فصحائهم ، وشعر بلغائهم لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر ، أو وحشي مستكره ، ومعان مستبعدة . ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة ، ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين ، متصرف بين المنزلتين .

فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس :


قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل



[ ص: 47 ] ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تتصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ، ومنزلتها من البلاغة ، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها ، على وجه يؤخذ باليد ، ويتناول من كثب ، ويتصور في النفس كتصور الأشكال ؛ ليتبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن .

واعلم أن من قال من أصحابنا : إن الأحكام معللة بعلل موافقة لمقتضى العقل - جعل هذا وجها من وجوه الإعجاز ، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه ، كنحو ما يعللون به الصلاة ، ومعظم الفروض وأصولها . ولهم في كثير من تلك العلل طرق قريبة ، ووجوه تستحسن .

وأصحابنا من أهل " خراسان " يولعون بذلك ، ولكن الأصل الذي يبنون عليه عندنا غير مستقيم . وفي ذلك كلام يأتي في " كتابنا في الأصول " .

وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد ، فإنا جمعنا بين أمور ، وذكرنا المزية المتعلقة بها . وكل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتماده في إظهار الإعجاز فيه .

فإن قيل : فهل تزعمون أنه معجز ؛ لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه ، أو لأنه عبارة عنه ، أو لأنه قديم في نفسه ؟

قيل : لسنا نقول بأن الحروف قديمة ، فكيف يصح التركيب على الفاسد ؟ ولا نقول أيضا : إن وجه الإعجاز في نظم القرآن من أجل أنه حكاية عن كلام الله ، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله - عز وجل - معجزات في النظم والتأليف . وقد بينا أن إعجازها في غير ذلك .

وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها ، وقد ثبت خلاف ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية