الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 445 ] 7- باب: ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة الأنفال

ذكر الآية الأولى: قوله تعالى: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول اختلف العلماء في هذه الآية ، فقال بعضهم هي ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه ، وذلك أن الغنائم كانت حراما في شرائع الأنبياء المتقدمين ، فنسخ الله ذلك بهذه الآية وجعل الأمر في الغنائم إلى ما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا وكيع ، قال: أبنا إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد ، وعكرمة ، قالا: " كانت الأنفال لله فنسخها واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول " .

هذا قول السدي .

وقال آخرون المراد بالأنفال شيئان: [ ص: 446 ] أحدهما: ما يجعله النبي صلى الله عليه وسلم لطائفة من شجعان العسكر ومقدميه ، يستخرج به نصحهم ويحرضهم على القتال .

والثاني: ما يفضل من الغنائم بعد قسمتها ، كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فغنمنا إبلا ، فأصاب كل واحد اثني عشر بعيرا ، ونفلنا بعيرا بعيرا ، فعلى هذا هي محكمة ، لأن هذا الحكم باق إلى وقتنا هذا ، والعجب ممن يدعي أنها منسوخة فإن عامة ما تضمنت أن الأنفال لله والرسول ، والمعنى: أنهما يحكمان فيها وقد وقع الحكم فيها بما تضمنته آية الخمس ، وإن أريد أن الأمر بنفل الجيش ما أراد ، فهذا حكم باق ، فلا يتوجه النسخ بحال ، ولا يجوز أن يقال عن آية أنها منسوخة إلا أن يرفع حكمها وحكم هذه ما رفع ، فكيف يدعى النسخ ؟ وقد ذهب إلى نحو ما ذكرته أبو جعفر بن جرير الطبري ذكر الآية الثانية: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال [ ص: 447 ] وقد ذهب قوم ، منهم ابن عباس ، وأبو سعيد الخدري ، والحسن ، وابن جبير ، وقتادة والضحاك إلى أنها في أهل بدر خاصة .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: بنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا محمد بن جعفر ، قال: أبنا شعبة ، عن داود ، قال: سمعت الشعبي ، يحدث عن أبي سعيد الخدري : " ومن يولهم يومئذ دبره ، قال: نزلت في يوم بدر قال أحمد : وبنا روح ، قال: بنا حبيب بن الشهيد ، عن الحسن " ومن يولهم يومئذ دبره ، قال: نزلت في أهل بدر " قال أحمد : وأبنا روح ، قال: أبنا شعبة ، عن الحسن ، قال: " إنما شدد على أهل بدر قال أحمد : وأبنا حسين ، قال: أبنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة " ومن يولهم يومئذ دبره ، قال: يوم بدر .

[ ص: 448 ] قلت: لفظ الآية عام ، وإن كانت نزلت في قوم بأعيانهم ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه ، وغيره أنها عامة ، ثم لهؤلاء فيه قولان: أحدهما: أنها منسوخة بقوله: فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين فليس للمؤمنين أن يفروا عن مثليهم .

قال آخرون: هي محكمة ، وهذا هو الصحيح ، لأنها محكمة في النهي عن الفرار ، فيحمل النهي على ما إذا كان العدو أعلى من عدد المسلمين ، وقد ذهب إلى نحو هذا ابن جرير .

ذكر الآية الثالثة: قوله تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم .

[ ص: 449 ] " أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا ابن أيوب ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا أحمد بن محمد ، قال: أبنا علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم نسختها الآية التي بعدها وما لهم ألا يعذبهم الله .

وقد روي مثله عن الحسن ، وعكرمة وهذا القول ليس بصحيح ، لأن النسخ لا يدخل على الأخبار ، وهذه الآية بينت أن كون الرسول فيهم منع نزول العذاب بهم ، وكون المؤمنين يستغفرون بينهم منع أيضا ، والآية التي تليها بينت استحقاقهم العذاب لصدهم عن سبيل الله ، غير أن كون الرسول والمؤمنين بينهم منع من تعجيل ذلك ، أو عمومه ، فالعجب من مدعي النسخ ذكر الآية الرابعة: قوله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها [ ص: 450 ] اختلف المفسرون فيمن عني بهذه الآية على قولين: أحدهما: أنهم المشركون ، وأنها نسخت بآية السيف ، وبعضهم يقول: بقوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة في آخرين .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله فنسختها قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله الآية وأخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا ابن أيوب ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا أحمد بن محمد ، قال: أبنا علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها نسختها [ ص: 451 ] قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله قال أحمد بن محمد ، وأبنا موسى بن مسعود ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها نسختها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم والثاني: أنهم أهل الكتاب ، وقال مجاهد بنو قريظة .

" أخبرنا عبد الوهاب ، قال: أبنا أبو طاهر ، قال: أبنا شاذان ، قال: أبنا عبد الرحيم ، قال: أبنا إبراهيم ، قال: أبنا آدم ، قال: أبنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " وإن جنحوا للسلم يعني: قريظة فعلى هذا القول إن قلنا إنها نزلت في ترك حرب أهل الكتاب إذا بذلوا الجزية ، وقاموا بشرط الذمة فهي محكمة ، وإن قيل: نزلت في موادعتهم على غير جزية توجه النسخ لها بآية الجزية وهي قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله الآية .

[ ص: 452 ] ذكر الآية الخامسة: قوله تعالى: إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، قال المفسرون: لفظ هذا الكلام لفظ الخبر ، ومعناه الأمر والمراد: يقاتلوا مائتين ، وكان هذا فرضا في أول الأمر ثم نسخ بقوله تعالى: الآن خفف الله عنكم ، ففرض على الرجل أن يثبت لرجلين فإن زاد جاز له الفرار .

" أخبرنا يحيى بن ثابت بن بندار ، قال: أنبأنا أبي، قال: أبنا أبو بكر البرقاني ، قال: أبنا أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، قال: أخبرني الحسن ، قال: أبنا حيان ، قال: أبنا عبد الله ، قال: أبنا جرير بن حازم ، قال: سمعت الزبير بن الخريت ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في قوله عز وجل: [ ص: 453 ] " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، قال: فرض عليهم أن لا يفر رجل من عشرة ، ولا قوم من عشرة أمثالهم ، قال: فجهد الناس ذلك وشق عليهم فنزلت الآية الأخرى: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة الآية ، فرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين ، ولا قوم من مثليهم ، ونقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي، قال: أبنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين فنسختها الآن خفف الله عنكم أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا ابن أيوب ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا أحمد بن محمد ، قال: أبنا علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين نسخ ، فقال: الآن خفف الله عنكم [ ص: 454 ] أخبرنا ابن الحصين ، قال: أبنا ابن غيلان ، قال: أبنا أبو بكر الشافعي ، قال: أبنا إسحاق بن الحسن ، قال: أبنا أبو حذيفة ، قال: أبنا سفيان الثوري ، عن ليث ، عن عطاء " إن يكن منكم عشرون صابرون ، قال: كان لا ينبغي لواحد أن يفر من عشرة فخفف الله عنهم أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، قال: أبنا أبو طاهر الباقلاوي ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا عبد الرحمن بن الحسن ، قال: أبنا إبراهيم بن الحسين ، قال: أبنا آدم ، قال: أبنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال: " كان قد جعل على أصحاب محمد يوم بدر على كل رجل منهم قتال عشرة من الكفار ، فضجوا من ذلك فجعل على كل رجل قتال رجلين ، فنزل التخفيف من الله عز وجل ، فقال: الآن خفف الله عنكم قال أبو جعفر النحاس : وهذا تخفيف لا نسخ ، لأن معنى النسخ رفع حكم المنسوخ ، ولم يرفع حكم الأول لأنه لم يقل فيه لا يقاتل الرجل عشرة ، بل إن قدر على ذلك فهو الاختيار له ، ونظير هذا إفطار الصائم في السفر ، لا يقال إنه نسخ الصوم وإنما هو تخفيف ورخصة والصيام له أفضل .

[ ص: 455 ] ذكر الآية السادسة: قوله تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، روي عن ابن عباس ، ومجاهد في آخرين أن هذه الآية منسوخة ، بقوله: فإما منا بعد وإما فداء ، وليس للنسخ وجه لأن غزاة بدر كانت وفي المسلمين قلة ، فلما كثروا واشتد سلطانهم نزلت الآية الأخرى ، ويبين هذا قوله: حتى يثخن في الأرض ، [ ص: 456 ] قال أبو جعفر النحاس : ليس ههنا ناسخ ولا منسوخ ، لأنه قال عز وجل: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، فلما أثخن في الأرض كان له أسرى .

ذكر الآية السابعة: قوله تعالى: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ، قال المفسرون: كانوا يتوارثون بالهجرة ، وكان المؤمن الذي لا يهاجر لا يرث قريبه المهاجر وذلك معنى قوله: ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا .

" أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، قال: أبنا أبو الفضل بن خيرون ، وأبو طاهر الباقلاوي ، قالا: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا أحمد بن كامل ، قال: حدثني محمد بن سعد العوفي ، قال: أبنا أبي ، قال: حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: " كان المؤمنون على [ ص: 457 ] عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة منازل: منهم المؤمن المهاجر المرافق لقومه في الهجرة ، خرج إلى قوم مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم ، وفي قوله: والذين آووا ونصروا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة ، وشهروا السيوف على من كذب وجحد فهذان مؤمنان ، وكانوا يتوارثون إذا توفي المؤمن المهاجر بالولاية في الدين ، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ، ثم ألحق كل ذي رحم برحمه أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا محمد بن قهزاذ ، قال: أبنا علي بن الحسين بن واقد ، قال: حدثني أبي ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن [ ص: 458 ] عباس رضي الله عنهما: " والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ، قال: وكان الأعرابي لا يرث المهاجر ، ولا يرثه المهاجر ، فنسخها ، فقال: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، 94 قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، قال: أبنا عمر بن فروخ ، قال: أبنا حبيب بن الزبير ، عن عكرمة " والذين آمنوا ولم يهاجروا ، قال: لبث الناس برهة ، والأعرابي لا يرث المهاجر ، والمهاجر لا يرث الأعرابي حتى فتحت مكة ، ودخل الناس في الدين فأنزل الله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .

وقال الحسن : كان الأعرابي لا يرث المهاجر ، ولا يرثه المهاجر فنسخها وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [ ص: 459 ] ، وقد ذهب قوم إلى أن المراد بقوله: ما لكم من ولايتهم من شيء ، ولاية النصرة والمودة ، قالوا: ثم نسخ هذا بقوله: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، وأما قوله: وإن استنصروكم في الدين ، فقال المفسرون: إن استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فانصروهم إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد ، فلا تغدروا بأهل العهد .

وذهب بعضهم إلى أن الإشارة إلى أحياء من كفار العرب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم موادعة ، فكان إن احتاج إليهم عاونوه ، وإن احتاجوا عاونهم فنسخ ذلك بآية السيف .

[ ص: 460 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية