الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4281 (13) باب في رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبيان والعيال والرقيق

                                                                                              [ 2228 ] عن عائشة قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم، قالوا: لكنا والله ما نقبل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأملك أن كان الله نزع منكم الرحمة؟ ! ".

                                                                                              وفي رواية: "من قلبك".

                                                                                              رواه البخاري (5998)، ومسلم (2317)، وابن ماجه (3665).

                                                                                              [ 2229 ] وعن أبي هريرة أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه من لا يرحم لا يرحم".

                                                                                              رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318)، وأبو داود (5218)، والترمذي (1911). [ ص: 108 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 108 ] (13) ومن باب: رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبيان والعيال

                                                                                              .. قوله: " وأملك أن كان الله نزع الرحمة من قلبك ؟ ! " كذا وقع هذا اللفظ محذوف همزة الاستفهام، وهي مرادة، تقديره: أو أملك؟ وكذا جاء هذا اللفظ في البخاري بإثباتها، وهو الأحسن، لقلة حذف همزة الاستفهام. و " أن " مفتوحة، وهي مع الفعل بتأويل المصدر، تقديرها: أو أملك كون الله نزع الرحمة من قلبك؟ ! وقد أبعد من كسرها، ولم تصح رواية الكسر. ومعنى الكلام: نفي قدرته صلى الله عليه وسلم عن الإتيان بما نزع الله من قلبه من الرحمة. والرحمة في حقنا: هي رقة وحنو يجده الإنسان في نفسه عند مشاهدة مبتلى، أو ضعيف، أو صغير، يحمله على الإحسان إليه، واللطف به، والرفق، والسعي في كشف ما به. وقد جعل الله هذه الرحمة في الحيوان كله - عاقله وغير عاقله - فبها تعطف الحيوانات على نوعها، وأولادها، فتحنو عليها، وتلطف بها في حال ضعفها وصغرها. وحكمة هذه الرحمة تسخير القوي للضعيف، والكبير للصغير حتى ينحفظ نوعه، وتتم مصلحته، وذلك تدبير اللطيف الخبير. وهذه الرحمة التي جعلها الله في القلوب في [ ص: 109 ] هذه الدار، وتحصل عنها هذه المصلحة العظيمة هي رحمة واحدة من مائة رحمة ادخرها الله تعالى ليوم القيامة، فيرحم بها عباده المؤمنين وقت أهوالها، وشدائدها حتى يخلصهم منها، ويدخلهم في جنته، وكرامته. ولا يفهم من هذا أن الرحمة التي وصف الحق بها نفسه هي رقة وحنو، كما هي في حقنا؛ لأن ذلك تغير يوجب للمتصف به الحدوث، والله تعالى منزه ومقدس عن ذلك، وعن نقيضه الذي هو القسوة، والغلظ، وإنما ذلك راجع في حقنا إلى ثمرة تلك الرأفة، وفائدتها، وفي اللطف بالمبتلى، والضعيف، والإحسان إليه، وكشف ما هو فيه من البلاء، فإذا هي في حقه سبحانه وتعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات، وهذا كما تقدم في غضبه تعالى ورضاه في غير موطن. وإذا تقرر هذا، فمن خلق الله تعالى في قلبه هذه الرحمة الحاملة له على الرفق، وكشف ضر المبتلى، فقد رحمه الله تعالى بذلك في الحال، وجعل ذلك علامة على رحمته إياه في المآل، ومن سلب الله ذلك المعنى منه، وابتلاه بنقيض ذلك من القسوة والغلظ، ولم يلطف بضعيف، ولا أشفق على مبتلى، فقد أشقاه في الحال، وجعل ذلك علما على شقوته في المآل، نعوذ بالله من ذلك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الراحمون يرحمهم الرحمن ". وقال: " لا يرحم الله من عباده إلا الرحماء ". وقال: " لا تنزع [ ص: 110 ] الرحمة إلا من شقي "، وقال: " من لا يرحم لا يرحم ".

                                                                                              وفي هذه الأحاديث ما يدل على جواز تقبيل الصغير على جهة الرحمة، والشفقة ، وكراهة الامتناع من ذلك على جهة الأنفة. وهذه القبلة هي على الفم، ويكره مثل ذلك في الكبار، إذ لم يكن ذلك معروفا في الصدر الأول، ولا يدل على شفقة. فأما تقبيل الرأس فإكرام عند من جرت عادتهم بذلك كالأب والأم. وأما تقبيل اليد فكرهه مالك ، ورآه من باب الكبر، وإذا كان ذلك مكروها في اليد كان أحرى في الرجل، وقد أجاز تقبيل اليد والرجل بعض الناس، مستدلا بأن اليهود قبلوا يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجليه حين سألوه عن مسائل، فأخبرهم بها، ولا حجة في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزهه الله عن الكبر، وأمن ذلك عليه، وليس كذلك غيره، ولأن ذلك أظهر من اليهود تعظيمه، واعتقادهم صدقه، فأقرهم على ذلك ليتبين للحاضرين - بإذلالهم أنفسهم له - ما عندهم من معرفتهم بصدقه، وأن كفرهم بذلك عناد وجحد. ولو فهمت الصحابة رضي الله عنهم جواز تقبيل يده ورجله لكانوا أول سابق إلى ذلك، فيفعلون ذلك به دائما وفي كل وقت، كما كانوا يتبركون ببزاقه، ونخامته، ويدلكون بذلك وجوههم، ويتطيبون بعرقه، ويقتتلون على وضوئه، ولم يرو قط عن واحد منهم بطريق صحيح أنه قبل له يدا ولا رجلا، فصح ما قلناه، والله ولي التوفيق.




                                                                                              الخدمات العلمية