الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وفي الشهادة التي يثبت بها رؤية هلال شهر رمضان قولان ، قال في البويطي : لا تقبل إلا من عدلين ، لما روى الحسين بن حريث الجدلي ( جديلة قيس ) قال : { خطبنا أمير مكة الحارث بن حاطب فقال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسك لرؤيته فإن لم نره فشهد شاهدان عدلان نسكنا بشهادتهما } ( وقال ) في القديم والجديد : يقبل من عدل واحد وهو الصحيح ، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : { تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالصيام } ولأنه إيجاب عبادة ، فقبل من واحد احتياطا للفرض ( فإن قلنا ) يقبل من واحد ، فهل يقبل من العبد والمرأة ؟ فيه وجهان : [ ص: 284 ] أحدهما ) يقبل ; لأن ما قبل فيه قول الواحد قبل من العبد والمرأة كإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ( والثاني ) لا يقبل ، وهو الصحيح لأن طريقها طريق الشهادة ، بدليل أنه لا يقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل فلم يقبل من العبد والمرأة كسائر الشهادات ، ولا يقبل في هلال الفطر إلا شاهدان ، لأنه إسقاط فرض ، فاعتبر فيه العدد احتياطا للفرض ، فإن شهد واحد على رؤية هلال رمضان فقبل قوله وصاموا ثلاثين يوما وتغيمت السماء ففيه وجهان ( أحدهما ) أنهم لا يفطرون لأنه إفطار بشاهد واحد ( والثاني ) أنهم يفطرون وهو المنصوص في الأم ، لأنه بينة ثبت بها الصوم فجاز الإفطار باستكمال العدد منها كالشاهدين .

                                      وقوله : إن هذا إفطار بشاهد لا يصح ; لأن الذي ثبت بالشاهد هو الصوم ، والفطر ثبت على سبيل التبع وذلك يجوز كما نقول : إن النسب لا يثبت بقول أربع نسوة ثم ولو شهد أربع نسوة بالولادة ثبتت الولادة وثبت النسب على سبيل التبع للولادة . وإن شهد اثنان على رؤية هلال رمضان فصاموا ثلاثين يوما والسماء مصحية فلم يروا الهلال ففيه وجهان . قال أبو بكر الحداد : لا يفطرون ; لأن عدم الهلال مع الصحو يقين والحكم بالشاهدين ظن ، واليقين يقدم على الظن ، وقال أكثر أصحابنا : يفطرون ; لأن شهادة اثنين يثبت بها الصوم والفطر ، فوجب أن يثبت بها الفطر . وإن غم عليهم الهلال وعرف رجل الحساب ومنازل القمر وعرف بالحساب أنه من شهر رمضان ففيه وجهان . قال أبو العباس : يلزمه الصوم ; لأنه عرف الشهر بدليل فأشبه إذا عرف بالبينة ( والثاني ) أنه لا يصوم ; لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية ومن رأى هلال شوال وحده أفطر وحده ; لقوله صلى الله عليه وسلم { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } ويفطر لرؤيته هلال شوال سرا ، لأنه إذا أظهر الفطر عرض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث الحسين بن حريث صحيح رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي وغيرهم ، وقال الدارقطني والبيهقي : هذا إسناد متصل صحيح وحديث ابن عمر صحيح ، رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم قال الدارقطني : تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة . [ ص: 285 ] وقوله ) حسين بن حريث هكذا وقع في المهذب حريث - بضم الحاء - وهو غلط فاحش وصوابه حسين بن الحارث ، وهذا لا خلاف فيه وهو مشهور في رواية هذا الحديث ، وفي جميع كتب الحديث وكتب الأسماء حسين بن الحارث ( وقوله ) الجدلي ( جديلة قيس ) يعني أنه من بني جديلة قبيلة معروفة من قيس عيلان - بالعين المهملة - احتراز من جديلة طيئ وغيرها ، وقد أوضحت حاله وحال قبيلته في تهذيب الأسماء واللغات ( وقوله ) الحارث بن حاطب هو صحابي مشهور ، وقد أوضحت حاله في التهذيب ، وفي سنن أبي داود وغيره أن عبد الله بن عمر وافقه على رواية هذا الحديث وصدقه فيه .

                                      ( وقوله ) ننسك هو - بضم السين وكسرها - لغتان مشهورتان وهو العبادة ومن قال بالمذهب : أنه لا يثبت الهلال بعدل واحد ، وأجاب عن حديث الحسين بن الحارث بأن النسك ههنا عيد الفطر ، وكذا ترجم له البيهقي وغيره على ثبوت هلال شوال بعدلين .

                                      ( وأما الأحكام ) ففي الفصل مسائل : ( إحداها ) في الشهادة التي يثبت بها هلال رمضان ثلاث طرق ( أصحها ) وأشهرها وبه قطع المصنف والجمهور في المسألة قولان ( أصحهما ) باتفاق الأصحاب يثبت بعدل ، وهو نصه في القديم ، ومعظم كتبه في الجديد ، للأحاديث الصحيحة في ذلك ( منها ) ما ذكره المصنف وغير ذلك ( والثاني ) وهو نصه في البويطي لا يثبت إلا بعدلين .

                                      ( والطريق الثاني ) القطع بثبوته بعدل للأحاديث ( والثالث ) حكاه الماوردي والسرخسي إن ثبتت الأحاديث ثبت بعدل وإلا فقولان ( أحدهما ) يشترط عدلان كسائر الشهور ( والثاني ) يثبت بعدل للاحتياط ، وهذا الطريق محتمل ، ولكن الأحاديث قد ثبتت ، فالحاصل أن المذهب ثبوته بعدل ، قال أصحابنا : فإن شرطنا عدلين فلا مدخل للنساء والعبيد في هذه الشهادة ، ويشترط لفظ الشهادة ويختص بمجلس القاضي ، ولكنها شهادة حسبة لا ارتباط لها بالدعوى ، وإن اكتفينا بعدل فهل هو بطريق الرواية أم بطريق الشهادة ؟ فيه وجهان مشهوران وحكاهما السرخسي قولين .

                                      [ ص: 286 ] قال الدارمي : القائل : شهادة هو أبو علي بن أبي هريرة ، والقائل : رواية هو أبو إسحاق المروزي ، واتفقوا على أن ( أصحهما ) أنه شهادة فعلى هذا لا يقبل فيه العبد والمرأة ، ونص عليه في الأم . قال القاضي أبو الطيب في المجرد : وبهذا قال جميع أصحابنا غير أبي إسحاق ( والثاني ) أنه رواية فيقبل من العبد والمرأة ، وفي اشتراط لفظ الشهادة طريقان ( أحدهما ) يشترط قطعا ( وأصحهما ) وبه قال الجمهور فيه وجهان مبنيان على أنه شهادة أم رواية ؟ إن قلنا : شهادة شرط وإلا فلا . وأما الصبي المميز الموثوق به فلا يقبل قوله إن شرطنا اثنين أو قلنا : شهادة ، وهذا لا خلاف فيه وإن قلنا : رواية فطريقان ( المذهب ) وبه قطع الجمهور لا يقبل قطعا ( والثاني ) فيه وجهان بناء على الوجهين المشهورين في قبول روايته إن قبلناها قبل هذا ، وإلا فلا ، وبهذا الطريق قطع إمام الحرمين . وأما الكافر والفاسق والمغفل فلا يقبل قولهم فيه بلا خلاف ، ولا خلاف في اشتراط العدالة الظاهرة فيمن نقبله .

                                      وأما العدالة الباطنة ، فإن قلنا : يشترط عدلان اشترطت ، وإلا فوجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون ، قالوا : وهما جاريان في رواية المستور ، الحديث ( والأصح ) قبول رواية المستور ، وكذا الأصح قبول قوله هنا والصيام به ، وبهذا قطع صاحب الإبانة والعدة والمتولي ، قال أصحابنا : ولا فرق في كل ما ذكرناه بين كون السماء مصحية أو مغيمة .

                                      ( فرع ) إذا أخبره من يثق به كزوجته وجاريته وصديقه وغيرهم ممن يثق به ويعتقد صدقه أنه رأى هلال رمضان ولم يذكر ذلك عند القاضي ، فقد قطعت طائفة بأنه يلزمه الصوم بقوله ، ممن صرح بوجوب ذلك على المقول له أبو الفضل بن عبدان والغزالي في الإحياء والبغوي وغيرهم . وقال إمام الحرمين وصاحب الشامل : إن قلنا : إنه رواية لزم الصوم بقوله .



                                      ( المسألة الثانية ) هل يثبت هلال رمضان بالشهادة على الشهادة ؟ . فيه طريقان مشهوران حكاهما البغوي وآخرون ( أصحهما ) وبه قطع الأكثرون ، وأشار إليه المصنف ثبوته كسائر الأحكام ( والثاني ) [ ص: 287 ] فيه قولان كالحدود ; لأنه من حقوق الله تعالى التي ليست مالية ، والمذهب الأول ، وقاسه البغوي وآخرون على الزكاة وإتلاف حصر المسجد ونحوها ، فإنه يقبل فيه الشهادة على الشهادة بلا خلاف ، بخلاف الحدود فإنها مبنية على الدرء والإسقاط ، قال البغوي وآخرون : فعلى هذا عدد الفروع مبني على الأصول ، فإن شرطنا العدد في الأصول فحكم الفروع هنا كحكمهم في سائر الشهادات ، فيشترط أن يشهد على شهادة كل واحد شاهدان ، وهل يكفي شهادة رجلين على شهادة شاهدي الأصل جميعا ، فيه القولان المشهوران ( وأصحهما ) يكفي ، وعلى هذا لا مدخل لشهادة النساء والعبيد ، وإن اكتفينا بواحد فإن قلنا : سبيله سبيل الرواية ، فوجهان ( أحدهما ) يكفي واحد كرواية الحديث ( والثاني ) يشترط اثنان ، قال البغوي : هو الأصح لأنه ليس بخبر من كل وجه ، بدليل أنه لا يجوز أن يقول : أخبرني فلان عن فلان أنه رأى الهلال ، فعلى هذا هل يشترط إخبار حرين ذكرين ، أم يكفي امرأتان أو عبدان ، فيه وجهان أصحهما الأول ، وقال الشيخ أبو علي السنجي وإمام الحرمين : الأصح الاكتفاء بواحد عن واحد ، إذا قلنا : إنه رواية ، وبهذا قطع الدارمي ونقل الشيخ أبو علي الإجماع على أنه لا يقبل قول الفرع : حدثني فلان أن فلانا رأى الهلال ، قال إمام الحرمين : والقياس يقتضي قبوله إذا اكتفينا بواحد في الأصل والفرع ، قال : ولا نسلم دعواه الإجماع من نزاع واحتمال ظاهر ، أما إذا قلنا : طريقه طريق الشهادة ، فهل يكفي شهادة واحد على شهادة واحد أم يشترط اثنان ؟ فيه وجهان ، وقطع البغوي باشتراط اثنين وهو الأصح ، وأما شهادة الفرع بحضرة الأصل على شهادته فقطع المصنف وغيره بأنها لا تقبل ، ولا يبعد تخريج خلاف فيه على قولنا : رواية ، كما في رواية الحديث ، والله أعلم .



                                      ( المسألة الثالثة ) إذا قبلنا في هلال رمضان عدلا وصمنا على قوله ثلاثين يوما فلم نر الهلال بعد الثلاثين فهل نفطر ؟ فيه وجهان مشهوران ، أصحهما عند المصنف وجماهير الأصحاب - وهو نصه في الأم - نفطر ( والثاني ) لا نفطر ، لأنه إفطار مبني على قول عدل واحد ، والمذهب الأول لأنها حجة شرعية ثبت بها هلال رمضان فثبت الإفطار بعد [ ص: 288 ] استكمال العدد منها كالشاهدين وأبطل الأصحاب قول الآخر ، قالوا : لأن الذي ثبت بالشاهد إنما هو الصوم وحده ، وأما الفطر فثبت تبعا كما أن شهادة النساء لا تقبل على النسب استقلالا ، ولو شهد أربع نسوة بالولادة ثبتت وثبت النسب تبعا لها بلا خلاف فكذا هنا ، ثم القولان جاريان سواء كانت السماء مصحية أو مغيمة هذا هو المذهب وبه صرح المتولي وآخرون ، وهو مقتضى كلام الأكثرين ، ونقله الرافعي عن مفهوم كلام الجمهور وقال أبو المكارم في العدة : الوجهان إذا كانت مصحية ، فإن كانت مغيمة أفطرنا بلا خلاف لاحتمال وجوده واستتاره بالغيم ، وقال المصنف والقاضي أبو الطيب في المجرد وآخرون : إذا صمنا بشهادة عدل ثلاثين وكانت السماء مغيمة ففي الفطر الوجهان ففرضوا المسألة فيما إذا غيمت ، وجب الفطر قطعا قال : وقيل هما في الغيم والصحو ، والمذهب طردهما في الحالين ، أما إذا صمنا بقول عدلين ثلاثين يوما ولم نر الهلال ، فإن كانت السماء مغيمة أفطرنا بلا خلاف ، وإن كانت مصحية فطريقان ( أحدهما ) نفطر قولا واحدا وهو نص الشافعي في الأم وحرملة ، وبه قطع كثيرون ( وأشهرهما ) وبه قطع المصنف وكثيرون فيه وجهان ( الصحيح ) وقول جمهور أصحابنا المتقدمين نفطر ; لأن أول الشهر ثبت وقد أمرنا بإكمال العدة إذا لم نر الهلال ، وقد أكملنا فوجب الفطر ( والثاني ) لا نفطر ، لأن عدم الرؤية مع الصحو يقين فلا نتركه بقول شاهدين وهو ظن ، وهذا قول أبي بكر بن الحداد حكاه عنه المصنف والأصحاب ، قال إمام الحرمين : هذا مزيف غير معدود من المذهب ، وإنما يجري على مذهب أبي حنيفة ، قال الرافعي : ونقل قول ابن الحداد عن ابن سريج أيضا ، قال : وفرع بعضهم عليه أنه لو شهد اثنان على هلال شوال فأفطرنا ثم لم نر الهلال بعد ثلاثين والسماء مصحية ، قضينا صوم أول يوم أفطرناه ، لأنه بان أنه من آخر رمضان ولكن لا كفارة على من جامع فيه ; لأن [ ص: 289 ] الكفارة على من أثم بالجماع ، وهذا لم يأثم لعذره وأما على المذهب وقول الجمهور فلا قضاء .



                                      ( المسألة الرابعة ) قال المصنف : إذا غم الهلال وعرف رجل الحساب ومنازل القمر ، وعرف بالحساب أنه من رمضان فوجهان ، قال ابن سريج يلزمه الصوم ; لأنه عرف الشهر بدليل ، فأشبه من عرفه بالبينة ، وقال غيره لا يصوم لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية ، وهذا كلام المصنف ووافقه على هذه العبارة جماعة ، وقال الدارمي : لا يصوم بقول منجم ، وقال قوم : يلزم ، قال : فإن صام بقوله فهل يجزئه عن فرضه ؟ فيه وجهان وقال صاحب البيان : إذا عرف بحساب المنازل أن غدا من رمضان أو أخبره عارف فصدقه فنوى وصام بقوله فوجهان ( أحدهما ) يجزئه ، قاله ابن سريج واختاره القاضي أبو الطيب ; لأنه سبب حصل له به غلبة ظن فأشبه ما لو أخبره ثقة عن مشاهدة ( والثاني ) لا يجزئه ; لأن النجوم والحساب لا مدخل لهما في العبادات ، قال : وهل يلزمه الصوم بذلك ، قال ابن الصباغ : وأما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا . وذكر صاحب المهذب أن الوجهين في الوجوب ، هذا كلام صاحب البيان وقطع صاحب العدة بأن الحاسب والمنجم لا يعمل غيرهما بقولهما ، وقال المتولي : لا يعمل غير الحاسب بقوله وهل يلزمه هو الصوم بمعرفة نفسه الحساب ؟ فيه وجهان أصحهما لا يلزمه ، وقال الرافعي : لا يجب بما يقتضيه حساب المنجم عليه ولا على غيره الصوم ، قال الروياني : وكذا من عرف منازل القمر لا يلزمه الصوم به على أصح الوجهين ، وأما الجواز فقال البغوي : لا يجوز تقليد المنجم في حسابه ، لا في الصوم ولا في الفطر ، وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه ؟ فيه وجهان ، وجعل الروياني الوجهين فيما إذا عرف منازل القمر وعلم به وجود الهلال ، وذكر أن الجواز اختيار ابن سريج والقفال والقاضي أبي الطيب ، قال : فلو عرفه بالنجوم لم يجز الصوم به قطعا ، قال الرافعي : ورأيت في بعض المسودات تعدية الخلاف في جواز العمل به إلى غير المنجم ، هذا آخر كلام الرافعي [ ص: 290 ] فحصل في المسألة خمسة أوجه ( أصحها ) لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك لكن يجوز لهما دون غيرهما ولا يجزئهما عن فرضهما ، ( والثاني ) يجوز لهما ويجزئهما ( والثالث ) يجوز للحاسب ولا يجوز للمنجم ( والرابع ) يجوز لهما ويجوز لغيرهما تقليدهما ( والخامس ) يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم ، والله أعلم .



                                      ( المسألة الخامسة ) من رأى هلال رمضان وحده لزمه الصوم ، ومن رأى هلال شوال وحده لزمه الفطر ، وهذا لا خلاف فيه عندنا لقوله صلى الله عليه وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } رواه البخاري ومسلم ، وسبق بيانه ، قال أصحابنا : ويفطر لرؤية هلال شوال سرا لئلا يتعرض للتهمة في دينه وعقوبة السلطان ، قال أصحابنا : ولو رئي رجل يوم الثلاثين من رمضان يأكل بلا عذر ، عزر فلو شهد بعد الأكل أنه رأى الهلال البارحة لم تقبل شهادته ، لأنه متهم في إسقاط التعزير عن نفسه بخلاف ما لو شهد أولا فردت شهادته ، ثم أكل ، لا يعزر لعدم التهمة حال الشهادة ، قال أصحابنا : وإذا رأى هلال رمضان وحده ولم يقبل القاضي شهادته فالصوم واجب عليه كما ذكرنا ، فلو صام وجامع في ذلك اليوم لزمته الكفارة بلا خلاف ; لأنه من رمضان في حقه . هذا تفصيل مذهبنا في المسألتين وهذا الذي ذكرناه من لزوم الصوم برؤيته هلال رمضان وحده ، ووجوب الكفارة لو جامع فيه مذهب عامة العلماء ، وقال عطاء والحسن وابن سيرين وأبو ثور وإسحاق بن راهويه : لا يلزمه قال أبو حنيفة : يلزمه الصوم ، ولكن إن جامع فيه فلا كفارة ، وما ذكرناه من لزوم الفطر لمن رأى هلال شوال ، قال به أكثر العلماء ، وقال مالك والليث وأحمد : لا يجوز له الأكل فيه . دليلنا في المسألتين الحديث ; ولأن يقين نفسه أبلغ من الظن الحاصل بالبينة ، والله أعلم .



                                      ( المسألة السادسة ) لا يثبت هلال شوال ولا سائر الشهور غير هلال رمضان إلا بشهادة رجلين حرين عدلين ، لحديث الحارث بن حاطب السابق قريبا ، وقياسا على باقي الشهادات التي ليست مالا ، ولا المقصود [ ص: 291 ] منها المال ، ويطلع عليها الرجال غالبا ، مع أنه ليس فيه احتياط للعبادة بخلاف هلال رمضان ، هذا مذهبنا وبه قال العلماء كافة إلا أبا ثور فحكى أصحابنا عنه أنه يقبل في هلال شوال عدل واحد كهلال رمضان ، وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وطائفة من أهل الحديث ، قال إمام الحرمين : قال صاحب التقريب : لو قلت بما قاله أبو ثور لم أكن مبعدا وقال الدارمي : هلال ذي الحجة هل يثبت بما يثبت به هلال رمضان ؟ أم لا يثبت إلا بعدلين ؟ فيه وجهان ، وهذا شاذ ضعيف . والله أعلم .



                                      ( فرع ) إذا قلنا يثبت هلال رمضان بقول واحد ، فإنما ذلك في الصوم خاصة فأما الطلاق والعتق وغيرهما مما علق على رمضان فلا يقع به بلا خلاف ، وكذا لا يحل الدين المؤجل إليه ولا تنقضي العدة ولا يتم حول الزكاة والجزية والدية المؤجلة وغير ذلك من الآجال بلا خلاف ، بل لا بد في كل ما سوى الصيام من شهادة رجلين عدلين كاملي العدالة ظاهرا وباطنا ، وممن صرح بهذا المتولي والبغوي والرافعي وآخرون .



                                      ( فرع ) قال المتولي : لو شهد عدل بإسلام ذمي مات لم تقبل شهادته وحده في إثبات إرث قريبه المسلم منه ، وحرمان قريبه الكافر بلا خلاف ، وهل تقبل في الصلاة عليه ؟ فيه وجهان بناء على القولين في صوم رمضان بقول عدل واحد وجزم القاضي حسين في فتاويه بأنه لا يقبل ذكره في آخر كتاب الصيام والردة . .



                                      ( فرع ) قال صاحب الشامل والبيان وغيرهما وهذا لفظ صاحب البيان قال الشافعي : وإن عقد رجل عنده أن غدا من رمضان في يوم الشك فصام ، ثم بان أنه من رمضان أجزأه قال : قال أصحابنا : أراد الشافعي بذلك إذا أخبره برؤية الهلال من يثق بخبره من رجل أو امرأة أو عبد فصدقه ، وإن لم يقبل الحاكم شهادته ، ونوى الصوم وصام ثم بان أنه من رمضان أجزأه ; لأنه نوى الصوم بظن وصادفه فأشبه البينة ، قال البندنيجي : وكذا لو أخبره صبي عاقل فأما إذا صام اتفاقا من غير مستند فوافق فإنه لا يجزئه بلا خلاف .



                                      [ ص: 292 ] ( فرع ) لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان ، ولم ير الناس الهلال ، فرأى إنسان النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له : الليلة أول رمضان لم يصح الصوم بهذا المنام لا لصاحب المنام ولا لغيره ، ذكره القاضي الحسين في الفتاوى وآخرون من أصحابنا ونقل القاضي عياض الإجماع ، عليه وقد قررته بدلائله في أول شرح صحيح مسلم ، ومختصره أن شرط الراوي والمخبر والشاهد أن يكون متيقظا في حال التحمل ، وهذا مجمع عليه ، ومعلوم أن النوم لا تيقظ فيه ، ولا ضبط ، فترك العمل بهذا المنام لاختلال ضبط الراوي لا للشك في الرؤية فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي } والله تعالى أعلم .



                                      فرع في مذاهب العلماء في هلال رمضان . ذكرنا أن مذهبنا ثبوته بعدلين بلا خلاف ، وفي ثبوته بعدل خلاف ، الصحيح ثبوته ، وسواء أصحت السماء أو غيمت ، وممن قال : يثبت بشاهد واحد عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وآخرون ، وممن قال : يشترط عدلان عطاء وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والليث وابن الماجشون وإسحاق بن راهويه وداود وقال الثوري : يشترط رجلان أو رجل وامرأتان ، كذا حكاه ابن المنذر ، وقال أبو حنيفة : إن كانت السماء مغيمة ثبت بشهادة واحد ، ولا يثبت رمضان إلا باثنين ، قال : وإن كانت مصحية ، لم يثبت رمضان بواحد ولا باثنين ، ولا يثبت إلا بعدد الاستفاضة ، واحتج لأبي حنيفة بأنه يبعد أن ينظر الجماعة الكبيرة إلى مطلع الهلال وأبصارهم صحيحة ، ولا مانع من الرؤية ، ويراه واحد أو اثنان دونهم ، واحتج من شرط اثنين بحديث الحارث بن حاطب ، وهو صحيح وسبق بيانه واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر قال : { تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام ، [ ص: 293 ] وأمر الناس بصيامه } وهو صحيح كما سبق بيانه قريبا ، حيث ذكر المصنف .

                                      وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال - يعني رمضان - فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله ، قال : نعم ، قال : أتشهد أن محمدا رسول الله قال : نعم ، قال : يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا } رواه أبو داود وهذا لفظه والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم أبو عبيد الله في المستدرك وغيرهم ، وقال الحاكم : وهو حديث صحيح ، قال الترمذي وغيره : وقد روي مرسلا عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر ابن عباس ، وكذا ورواه أبو داود من بعض طرقه مرسلا ، قال أبو داود والترمذي : ورواه جماعة مرسلا ، وكذا ذكره البيهقي من طرق موصولا ومن طرق مرسلا ، وطرق الاتصال صحيحة ، وقد سبق مرات أن المذهب الصحيح أن الحديث إذا روي مرسلا ومتصلا احتج به ، لأن مع من وصله زيادة وزيادة الثقة مقبولة ، وقد حكم الحاكم بصحته كما سبق ، فهذان الحديثان هما العمدة في المسألة .

                                      ( وأما ) حديث طاوس عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم قالا : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على هلال رمضان ، وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين } رواه البيهقي وضعفه ، قال : وهذا مما لا ينبغي أن يحتج به قال : وفي الحديثين السابقين كفاية ، ثم روى البيهقي بإسناده ما رواه الشافعي في المسند وغيره بإسناده الصحيح إلى فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم : " أن رجلا شهد عند علي رضي الله عنه على رؤية هلال رمضان فصام ، وأحسبه قال : وأمر الناس بالصيام ، وقال : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان " ، ( والجواب ) عما احتج به أبو حنيفة من وجهين ( أحدهما ) أنه مخالف للأحاديث الصحيحة ، فلا يعرج عليه ( والثاني ) أنه يجوز أن يراه بعضهم دون جمهورهم لحسن نظره أو غير ذلك ، وليس [ ص: 294 ] هذا ممتنعا وهذا لو شهد برؤيته اثنان أو واحد وحكم به حاكم لم ينقض بالإجماع ، ووجب الصوم بالإجماع ، ولو كان مستحيلا لم ينفذ حكمه ووجب نقضه ، والجواب عما احتج به الآخرون أن المراد بقوله : ننسك هلال شوال جمعا بين الأحاديث ، أو محمول على الاستحباب والاحتياط ، ولا بد من أحد هذين التأويلين للجمع بين الأحاديث ، وحكى الماوردي عن بعض الشيعة أنهم أسقطوا حكم الأهلة ، واعتمدوا العدد ; للحديث السابق عن الصحيحين { شهرا عيد لا ينقصان } " وبالحديث المروي { صومكم يوم نحركم } ودليلنا عليهم الأحاديث المذكورة هنا مع الأحاديث السابقة { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } والأحاديث المشهورة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الشهر تسع وعشرون } أي قد يكون تسعا وعشرين ، وفي روايات { الشهر هكذا ، وهكذا ، وهكذا ، وأشار بأصبعه العشر ، وحبس الإبهام في الثالثة } رواه البخاري ومسلم .

                                      وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا ، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين } رواه البخاري بلفظه ومسلم بمعناه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : { ما صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين } رواه أبو داود والترمذي .

                                      وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { ما صمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمت معه ثلاثين } رواه الدارقطني ، وقال إسناده حسن صحيح وعن أبي هريرة مثله رواه ابن ماجه ، ( والجواب ) عن { شهرا عيد لا ينقصان } أي لا ينقص أجرهما أو لا ينقصان في سنة واحدة معا غالبا ، وقد سبق هذان التأويلان فيه مع غيرهما .

                                      ( والجواب ) عن حديث { صومكم يوم نحركم } أنه ضعيف بل منكر باتفاق الحفاظ وإنما الحديث الصحيح في هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الصوم يوم تصومون [ ص: 295 ] والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون } رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن ورواه أبو داود بإسناد حسن ولفظه { الفطر يوم تفطرون } وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس } رواه الترمذي وقال : هو حديث حسن صحيح ، والله تعالى أعلم .



                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أنه لا تقبل شهادة النساء في هلال رمضان ، وحكاه ابن المنذر عن الليث وابن الماجشون المالكي ، ولم يحك عن أحد قبولها .




                                      الخدمات العلمية