الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أوطان الرواة وبلدانهم

997 - وضاعت الأنساب في البلدان فنسب الأكثر للأوطان      998 - وإن يكن في بلدتين سكنا
فابدأ بالأولى وبثم حسنا      999 - ومن يكن من قرية من بلدة
ينسب لكل وإلى الناحية      1000 - وكملت بطيبة الميمونه
فبرزت من خدرها مصونه      1001 - فربنا المحمود والمشكور
إليه منا ترجع الأمور      1002 - وأفضل الصلاة والسلام
على النبي سيد الأنام

( أوطان الرواة وبلدانهم ) وهو مهم جليل يعتنى به كثير من علماء الحديث ، لا سيما وربما يتبين منه الراوي المدلس وما في السند من إرسال خفي ، ويزول به توهم ذلك ، وقد استشكل بعض الحفاظ رواية يونس بن محمد المؤدب عن الليث ; لاختلاف بلديهما ، وسأل المزي : أين سمع منه ؟ فقال : لعله في الحج ثم قال : بل [ ص: 400 ] في بغداد حين دخول الليث لها في الرسلية ، ويتميز به أحد المتفقين من الآخر ، كما تقدم في سابع أقسام المتفق والمفترق ، ومن مظانه ( الطبقات ) لابن سعد ، كما قال ابن الصلاح ، و ( تواريخ البلدان ) ، وأحسن ما ألف فيه وأجمعه ( الأنساب ) لابن السمعاني ، وفي مختصره لابن الأثير فوائد مهمة ، وكذا للرشاطي ( الأنساب ) ، واختصره المجد الحنفي .

( و ) قد كانت العرب إنما ينسبون إلى الشعوب والقبائل والعمائر والعشائر والبيوت ، قال الله تعالى : ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) [ الحجرات : 13 ] . والعجم إلى رساتيقها ; وهي القرى وبلدانها ، وبنو إسرائيل إلى أسباطها ، فلما جاء الإسلام وانتشر الناس في الأقاليم والمدن والقرى ( ضاعت ) كثيرا ( الأنساب ) العربية المشار إليها ( في البلدان ) المتفرقة ، ( فنسب الأكثر ) من المتأخرين منهم ، كما كانت العجم تنتسب ( للأوطان ) ; جمع وطن وهو محل الإنسان من بلدة أو ضيعة أو سكة ، وهي الزقاق أو نحوها ، وهذا وإن وقع في المتقدمين أيضا فهو قليل ، كما أنه يقع في المتأخرين أيضا النسبة إلى القبائل بقلة .

ثم إنه لا فرق فيمن ينتسب إلى محل بين أن يكون أصليا منه أو نازلا فيه ، بل ومجاورا له ، كما صرح به شيخنا ; ولذلك تعدد النسبة بحسب الانتقال ، ولا حد للإقامة المسوغة للنسبة بزمن ، وإن ضبطه ابن المبارك بأربع سنين ، فقد توقف فيه ابن كثير حيث قال : وقال بعضهم : إنما يسوغ الانتساب إلى البلد إذا قام فيه أربع سنين فأكثر . ثم قال : وفيه نظر . بل قال البلقيني : إنه قول ساقط [ ص: 401 ] لا يقوم عليه دليل ، فإذا أردت نسبة من يكون من أراد المجاورة لنابلس قلت : النابلسي . وهو نوع من التدليس .

( وإن يكن في بلدتين سكنا ) بأن انتقل من الشام إلى العراق أو من دمشق إلى مصر ، وأردت نسبته إليهما ( فابدأبـ ) البلدة ( الأولى ) بالنقل ، ( وبثم ) في الثانية المنتقل إليها ( حسنا ) أي : حسن الإتيان فيها بثم ، فيقال : الشامي ثم العراقي أو الدمشقي ثم المصري ، وجمعهما أحسن مما لو اقتصر على أحدهما .

( ومن يكن ) من الرواة ( من قرية ) كداريا ( من ) قرى ( بلدة ) كدمشق ( ينسب ) جوازا ( لكل ) من القرية والبلدة ، بل ( وإلى الناحية ) التي منها تلك البلدة ، وتسمى الإقليم أيضا ; كالشام فيقال فيه : الداري أو الدمشقي أو الشامي ، لكن خصه البلقيني بما إذا كان اسم المدينة يطلق على الكل ، وإنه إذا لم يكن كذلك فالأقرب منعه ، فإن الانتساب إنما وضع للتعارف وإزالة الإلباس .

وإن أريد الجمع بين الثلاثة فهو مخير بين الابتداء بالأعم فيقول : الشامي الدمشقي الداري ، أو بالقرية التي هو منها فيقول : الداري الدمشقي الشامي ; إذ المقصود التعريف والتمييز ، وهو حاصل بكل منهما ، نعم إن كان أحدهما أوضح في ذلك ، فهو أولى ، ثم إنه ربما تقع الزيادة على الثلاثة فيقال لمن سكن الخصوص مثلا - قرية من قرى منية بني خصيب - : الخصوصي المناوي الصعيدي المصري ، وإنما كان كذلك باعتبار أن الناحية قد تكون فوقها ناحية أخرى أوسع دائرة منها بأن تتناول تلك الناحية المخصوصة وغيرها من النواحي ، وباعتبار ذلك يقع التعدد لأزيد من هذا أيضا . إذا علم هذا فقد تقع النسبة أيضا إلى الصنائع ; كالخياط ، وإلى الحرف كالبزاز ، وتقع ألقابا ; كخالد بن مخلد الكوفي [ ص: 402 ] القطواني ، وكان يغضب منها ، ويقع في كلها الاتفاق والاشتباه كالأسماء . فائدة : الشعوب : القبائل العظام ، وقيل : الجماع التي تجمع متفرقات البطون ، واحدها شعب ، والقبائل البطون ، وهي كما قال الزجاج للعرب كالأسباط لبني إسرائيل ، بل يقال لكل ما جمع على شيء واحد قبيل ; أخذا من قبائل الشجرة ، وهي غصونها ، أو من قبائل الرأس ، وهي أعضاؤها ، سميت بذلك ; لاجتماعها ، والعمائر جمع عمارة بالكسر والفتح ، قيل : الحي العظيم يمكنه الانفراد بنفسه ، وهي فوق البطن ، والبيوت جمع بيت ، ومنه قول العباس في النبي صلى الله عليه وسلم : حتى احتوى بيتك المهيمن من خندف علياء ، تحتها النطق أراد شرفه ، فجعله في أعلى خندف بيتا ، ولهم الأسرة ، والبطن ، والجذم والجماع ، والجمهور ، والحي ، والرهط ، والذرية ، والعترة ، والعشيرة ، والفخذ والفصيلة مما لشرحه وبيان مراتبه غير هذا المحل .

( وكملت ) بتثليث الميم ، والفتح أفصح ، أي : المنظومة في يوم الخميس ثالث جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وسبعمائة مع الإحاطة بأن ما اقتصر عليه في أصلها ، ليس حصرا لفنونها ; ولذا أدرجت في شرحها ما كان مناسبا لها من الزوائد مما وقع في كلام بعض الأئمة ، أو أفرد بالتأليف جملة كالصالح عند قوله في [ ص: 403 ] الحسن : ذكرت فيه ما صح أو قارب أو يحكيه . والمضعف في آخر الضعيف والمحفوظ في الشاذ ، والمعروف في المنكر ، والمطروح في آخر الموضوع ، والمبدل والمركب والمنقلب في المقلوب ، والمشهور والوجه في كون المتواتر من مباحثنا في المشهور ، وأسباب الحديث في غريب الحديث ، وتوالي رواية فقهاء ونحوهم في المسلسل ، والمحكم في آخر مختلف الحديث ، وجمع من التابعين ، أو من الصحابة في الأقران ، ومشتركين في التسمية أو ما اتفق اسم راويه مع اسم أبيه وجده فصاعدا ، أو اسمه واسم أبيه مع اسم جده وأبي جده ، أو اسمه واسم أبيه وجده وجد أبيه مع شيخه في ذلك كله ، أو اسم شيخ الراوي مع اسم تلميذه - وكلها في المسلسل - أو اسم أبيه مع اسم شيخه في حال كونهما مهملين في المتفق ، أو كنية اسم أبيه أو كنية زوجته ، وكلاهما في الكنى ، والتأريخ في التأريخ وغير ذلك مما يدرك بالتحقيق له ، بل من أتقن توضيح النخبة لشيخنا مع اختصاره رأى زائدا على ذلك مما أكثر كله يمكن أن يكون قسما أو فرعا مما ذكر كما بان مما أثبته منه ( بطيبة ) بفتح المهملة ثم تحتانية ساكنة بعدها موحدة وهاء تأنيث ، كشيبة اسم من أربعين فأكثر أو أقل للمدينة النبوية ، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، اقتصر عليه من بينها تيمنا وتبركا ، ويقال لها أيضا : طابة . كما جاء معا في صحيح البخاري عن أبي حميد الساعدي كل واحد في طريق ، ولمسلم عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه رفعه إن الله تعالى سمى المدينة طابة ، وفي لفظ عند أبي عوانة والطيالسي في مسنده ، كانوا يسمون المدينة [ ص: 404 ] يثرب فسماها النبي صلى الله عليه وسلم طابة ، ولا تنافي بين الراويتين ، وهما تأنيث طيب وطاب ، لغتان بمعنى ، واشتقاقهما إما من الطيب الذي هو الرائحة الحسنة لما يشاهد من طيب تربتها وحيطانها وهوائها ; ولذا قال بعض العلماء : وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية ; لأن من أدام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة ، لا تكاد توجد في غيرها ، زاد غيره : أو لطيبها لساكنها أو لطيب العيش بها ، والحاصل أن كل ما بها من تراب وجدر وعيش ومنزل وسائر ما يضاف إليها طيب لأهل السنة ، ولله تبارك وتعالى در القائل :

إذا لم تطب في طيبة عند طيب     به طيبة طابت فأين تطيب

أو من الطيب بالتشديد ، الطاهر بالمهملة لخلوصها من الشرك وطهارتها ( الميمونه ) يعني المباركة بدعائه صلى الله عليه وسلم لها بالبركة ، حتى كان من جملتها - مما هو مشاهد - ما يحمله الحجيج خصوصا زمن الموسم من تمرها إلى جميع الآفاق ، بحيث يفوق غلات الأمصار ، ويفضل لأهلها بعد ذلك ما يقوم بهم قوتا وبيعا وإهداء إلى زمن التمر وزيادة .

( فبرزت ) أي : خرجت المنظومة إلى الناس بالمدينة الشريفة ( من خدرها ) بكسر المعجمة ثم مهملتين ، أولهما ساكنة ، والثانية مكسورة ، أي : سترها ، ( مصونه ) بفتح الميم وضم المهملة ، لم تزل صيانتها ببروزها ، وكذا برز شرح الناظم عليها بعد فراغه من تصنيفه في يوم السبت تاسع عشر شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وسبعمائة بالخانقاه الطشتمرية خارج القاهرة ، وانتفع الناس بهما ، وسارا لأكثر الأقطار مع كونه غير واف بتمام الغرض كما العادة جارية به لشارحي تصانيفهم غالبا ، وذلك غير خادش في جلالته واختصره مع ذلك الشمس بن [ ص: 405 ] عمار المالكي ، وما علمت عليها لسواه شرحا ; ولذا انتدبت بشرحي هذا ، وجاء بحمد الله بديعا كما أسلفته في ( آداب طالب الحديث ) وكمل ، سائلا من الله تعالى دوام النفع به في شهر رمضان أيضا من سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة ، فبينهما مائة وإحدى عشرة سنة ( فربنا ) سبحانه وتعالى ( المحمود والمشكور ) على ذلك كله ( إليه منا ترجع الأمور ) كلها كما نطق به الكتاب والسنة ، ( وأفضل الصلاة والسلام على النبي ) المخبر عن الله عز وجل بالوحي وغيره ، ولا ينطق عن الهوى ، سيدنا محمد ( سيد الأنام ) كلهم ، ووسيلتنا وسندنا وذخرنا في الشدائد والنوازل صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا آمين ، آمين ، آمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية