الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4058 (2) باب العين حق، والسحر حق، واغتسال العائن

                                                                                              [ 2128 ] عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا.

                                                                                              رواه مسلم (2188) (42) والترمذي (2062).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (2) ومن باب: العين حق، والسحر حق، واغتسال العائن

                                                                                              (قوله: العين حق ) أي: ثابت موجود، لا شك فيه. وهذا قول علماء الأمة، ومذهب أهل السنة . وقد أنكرته طوائف من المبتدعة، وهم محجوجون بالأحاديث النصوص الصريحة، الكثيرة الصحيحة، وبما يشاهد من ذلك في الوجود. فكم من رجل أدخلته العين القبر! وكم من جمل ظهير أحلته القدر! لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ولا يلتفت إلى معرض عن الشرع والعقل، يتمسك في إنكار ذلك باستبعاد ليس له أصل، فإنا نشاهد من خواص الأحجار، وتأثير السحر، [ ص: 566 ] وسموم الحيوانات ما يقضى منها العجب، ويتحقق أن كل ذلك فعل مسبب كل سبب. ولا يلتفت أيضا إلى قول من قال من المثبتين للعين: إن العائن تنبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك، أو يفسد، كما تنبعث قوة سمية من الأفعى والعقرب تتصل باللديغ فتهلكه; لأنا نقول لهؤلاء: إن كنتم تريدون بالقوة أن هناك معنى يقتضي ذلك الضرر بذاته، وأن ذلك ليس فعلا لله تعالى فذلك كفر; لأنه جحد لما علم من الشرع والعقل من أنه لا خالق إلا الله عز وجل، ولا فاعل على الحقيقة إلا هو. وإن كان يريد بذلك أن الله تعالى هو الفاعل للسبب والمسبب; فهو الحق الصريح، غير أن إطلاق لفظ القوة في هذا المعنى ليس بحسن عند المتشرعين ولا صحيح.

                                                                                              و(قوله: ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ) هذا إغياء في تحقيق إصابة العين، ومبالغة فيه تجري مجرى التمثيل، لا أنه يمكن أن يرد القدر شيء، فإن القدر عبارة عن سابق علم الله تعالى ونفوذ مشيئته، ولا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وإنما هذا خرج مخرج قولهم: لأطلبنك ولو تحت الثرى. أو: لو صعدت إلى السماء، ونحوه مما يجري هذا المجرى، وهو كثير.

                                                                                              و(قوله: وإذا استغسلتم فاغسلوا ) هذا خطاب لمن يتهم بأنه عائن، فيجب عليه ذلك، ويقضى عليه به إذا طلب منه ذلك، لا سيما إذا خيف على المعين الهلاك. وهذا الغسل هو الذي سماه في بعض طرق حديث سهل بن حنيف : بالوضوء، وذلك أن عامر بن ربيعة نظر إلى سهل متجردا فقال: ما رأيت كاليوم [ ص: 567 ] ولا جلد عذراء! فوعك سهل مكانه، فأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لعامر : (علام يقتل أحدكم أخاه! ألا بركت! إن العين حق، توضأ له) فتوضأ عامر .

                                                                                              وفي الطريق الأخرى زيادة كيفية الغسل قال: فغسل وجهه، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، فصب عليه.

                                                                                              وصفته عند العلماء: أن يؤتى بقدح من ماء، ولا يوضع القدح بالأرض، فيأخذ منه غرفة، فيتمضمض بها، ثم يمجها في القدح، ثم يأخذ منه ما يغسل به وجهه، ثم يأخذ بشماله ما يغسل به كفه اليمنى، ثم بيمينه ما يغسل به كفه اليسرى، وبشماله ما يغسل به مرفقه الأيمن، ثم بيمينه ما يغسل به مرفقه الأيسر، ولا يغسل ما بين المرفقين والكفين، ثم قدمه اليمنى، ثم اليسرى، ثم ركبته اليمنى، ثم اليسرى على الصفة والرتبة المتقدمة، وكل ذلك في القدح، ثم داخلة الإزار، وهو الطرف الذي يلي حقوه الأيمن. وقد ذكر بعضهم أن داخلة الإزار يكنى به عن الفرج. وجمهور العلماء على ما قلناه. فإذا استكمل هذا صبه خلفه من على رأسه. هكذا نقل أبو عبد الله المازري ، وقال: هذا المعنى لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه.

                                                                                              قال القاضي عياض : وبه قال الزهري ، وأخبر: أنه أدرك العلماء يصفونه، ويستحسنه علماؤنا، ومضى به العمل، وزاد أن غسل وجهه إنما هو صبة واحدة بيده اليمنى، وكذلك سائر أعضائه، وليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء، وغسل داخلة الإزار هو إدخاله وغسله في القدح، ثم يقوم الذي يأخذ القدح، فيصبه على رأس المعين من ورائه على جميع جسده، يستغفله به. وقيل: يغسله بذلك، ثم يكفأ الإناء على ظهر الأرض.

                                                                                              وقد روي عن ابن شهاب : أنه بدأ بغسل الوجه قبل المضمضة، وأنه لا يغسل [ ص: 568 ] القدمين جميعهما، بل أطرافهما من عند أصول أصابعه. وقيل في داخلة الإزار: الموضع الذي تمسه داخلة الإزار. وقيل: أراد وركه; إذ هو معقد الإزار.

                                                                                              وقد روي في حديث سهل : أن العائن غسل صدره مع ما ذكره، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أمره فحسا من الماء حسوات. والمعتمد على ما رواه مالك . والله تعالى أعلم.

                                                                                              وفي حديث سهل من الفقه أبواب، فمنها: جبر العائن على الوضوء المذكور، على الوجه المذكور. وقيل: لا يجبر، وأن من اتهم بأمر أحضر للحاكم، وكشف عن أمره. وأن العين قد تقتل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (علام يقتل أحدكم أخاه؟!) وأن الدعاء بالبركة يذهب أثر العين بإذن الله تعالى. وأن أثر العين إنما هو عن حسد كامن في القلب. وأن من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعا لضرره. قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته، وإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، وكف أذاه عن الناس. وفيه جواز النشر والتطبب بها.

                                                                                              فرع: لو انتهت إصابة العائن إلى أن يعرف بذلك ويعلم من حاله أنه كلما تكلم بشيء معظما له، أو متعجبا منه أصيب ذلك الشيء، وتكرر ذلك بحيث يصير ذلك عادة، فما أتلفه بعينه غرمه. وإن قتل أحدا بعينه عامدا لقتله قتل به، كالساحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرا. وأما عندنا فيقتل على كل حال، قتل بسحره أو لا; لأنه كالزنديق. وسيأتي.




                                                                                              الخدمات العلمية