الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وسهم للمؤلفة وهم ضربان ، مسلمون وكفار ، فأما الكفار فضربان ضرب يرجى خيره ، وضرب يخاف شره ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 180 ] يعطيهم ، وهل يعطون بعده ؟ فيه قولان : ( أحدهما ) : يعطون ; لأن المعنى الذي أعطاهم به النبي صلى الله عليه وسلم قد يوجد بعده .

                                      ( والثاني ) لا يعطون ; لأن الخلفاء رضي الله عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطوهم . وقال عمر رضي الله عنه " إنا لا نعطي على الإسلام شيئا ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " فإذا قلنا : إنهم يعطون فإنهم لا يعطون من الزكاة ; لأن الزكاة لا حق فيها للكفار ، وإنما يعطون من سهم المصالح . أما المسلمون فهم أربعة أضرب : ( أحدها ) قوم لهم شرف فيعطون ليرغب نظراؤهم في الإسلام ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم .

                                      ( والثاني ) قوم أسلموا ، ونيتهم في الإسلام ضعيفة فيعطون لتقوى نيتهم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان بن حرب . وصفوان بن أمية والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن لكل واحد منهم مائة من الإبل . وهل يعطى هذان الفريقان بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فيه قولان : ( أحدهما ) لا يعطون ; لأن الله تعالى أعز الإسلام فأغنى عن التألف بالمال .

                                      ( والثاني ) يعطون ; لأن المعنى الذي به أعطوا قد يوجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ومن أين يعطون ؟ فيه قولان : ( أحدهما ) من الصدقات ; للآية .

                                      ( والثاني ) من خمس الخمس ; لأن ذلك مصلحة ، فكان من سهم المصالح .

                                      ( والضرب الثالث ) قوم يليهم من الكفار إن أعطوا قاتلوهم .

                                      ( الضرب الرابع ) قوم يليهم قوم من أهل الصدقات إن أعطوا جبوا الصدقات وفي هذين الضربين أربعة أقوال : ( أحدها ) يعطون من سهم المصالح ; لأن ذلك مصلحة .

                                      ( والثاني ) من سهم المؤلفة من الصدقات ; للآية .

                                      ( والثالث ) من سهم الغزاة ; لأنهم يغزون .

                                      ( والرابع ) وهو المنصوص أنهم يعطون من سهم الغزاة ومن سهم المؤلفة ، لأنهم جمعوا معنى الفريقين ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم مؤلفة الكفار صحيح مشهور من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم { أعطى صفوان بن أمية من غنائم حنين وصفوان يومئذ كافر ، قال صفوان : لقد أعطاني ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى أنه لأحب الناس [ ص: 181 ] إلي صلى الله عليه وسلم } رواه مسلم وأما الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فرواه البيهقي ، وحديث إعطاء أبي سفيان بن حرب وصفوان والأقرع وعيينة كل واحد منهم مائة من الإبل ، رواه مسلم في صحيحه هكذا ، من رواية رافع بن خديج . أما الزبرقان - فبزاي مكسورة ثم باء موحدة ساكنة ثم راء مكسورة ثم قاف - وهو أحد رؤساء العرب وسادات بني تميم ، والزبرقان لقب له ، واسمه الحصين بن بدر بن امرئ القيس ، كنيته أبو عياش بالشين المعجمة لقب بالزبرقان لحسنه ، وقيل : لصفرة عمامته ، ومنه زبرقت الثوب إذا صفرته ، وكان يلبس عمامة مزبرقة بالزعفران ، وكان يقال له : قمر نجد لحسنه ، أسلم سنة تسع ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرمه وولاه صدقات قومه وأقره عليها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقد بسطت أحواله في التهذيب ، وكذلك أحوال هؤلاء المذكورين ، وكلهم صحابة رضي الله عنهم وسمي هذا الصنف مؤلفة ; لأنهم يتألفون بالعطاء وتستمال به قلوبهم ( أما أحكام الفصل ) فقال أصحابنا : المؤلفة ضربان : مسلمون وكفار ، والكفار صنفان : ( من ) يرجى إسلامه ( ومن ) يخاف شره ، فهؤلاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم كما ذكرنا من الغنائم لا من الزكاة ، وهل يعطون بعده فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : ( أحدهما ) يعطون للحديث ( وأصحهما ) باتفاق الأصحاب وبه قطع جماعة منهم البغوي : لا يعطون ; لما ذكره المصنف رحمه الله ، وأجابوا عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم من خمس الخمس ، وكان ملكا له خالصا يفعل فيه ما شاء بخلاف من بعده ( فإن قلنا ) : يعطون ، أعطوا من مال المصالح ولا يعطون من الزكاة بلا خلاف ، لما ذكره المصنف ، قال الرافعي : وأشار بعضهم إلى أنهم لا يعطون أيضا من المصالح ، إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة .



                                      [ ص: 182 ] وأما المؤلفة المسلمون فأصناف ( صنف ) لهم شرف في قومهم يطلب بتألفهم إسلام نظرائهم ، ( وصنف ) أسلموا ونيتهم في الإسلام ضعيفة فيتألفون لتقوى نيتهم ويثبتوا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي هذين ، وهل يعطون بعده ؟ فيه قولان مشهوران ذكر المصنف دليلهما ( فإن قلنا ) : يعطون فمن أين يعطون ؟ ذكر فيه قولين فحاصله ثلاثة أقوال : ( أصحها ) عند المحققين يعطون من الزكاة من سهم المؤلفة ; للآية .

                                      ( والثاني ) يعطون من المصالح .

                                      ( والثالث ) لا يعطون ، وصححه الشيخ أبو حامد والجرجاني وقطع به سليم الرازي في الكفاية ( والصنف الثالث ) قوم يليهم قوم من الكفار إن أعطوا قاتلوهم ، ويراد بإعطائهم تألفهم على قتالهم .

                                      ( والرابع ) قوم يليهم قوم عليهم زكوات ويمنعونها ، فإن أعطي هؤلاء قاتلوهم وقهروهم على أخذها منهم ، وحملوها إلى الإمام ، وإن لم يعطوا لم يأخذوا منهم الزكوات ، واحتاج الإمام إلى مؤنة ثقيلة لتجهيز من يأخذها ، وهذان الصنفان يعطيان بلا خلاف ، لكن من أين يعطون ؟ فيه الأقوال الأربعة التي ذكرها المصنف بدلائلها ، وجعل الغزالي وطائفة هذه الأقوال أوجها والصواب أنها أقوال : ( أحدها ) من سهم المؤلفة .

                                      ( والثاني ) من المصالح .

                                      ( والثالث ) من سهم الغزاة .

                                      ( والرابع ) قال الشافعي رضي الله عنه : يعطون من سهم المؤلفة وسهم الغزاة . واختلف أصحابنا في المراد بهذا القول الرابع على أربعة أوجه ( أحدها ) أن هذا التفريع على أن من جمع سببين من أسباب الزكاة يعطى بهما .

                                      ( فأما ) إن قلنا بالأصح إنه لا يعطى إلا بأحدهما ، فلا يعطى هؤلاء إلا من أحد السهمين .

                                      ( والثاني ) أنهم يعطون من السهمين جميعا ، سواء أعطينا غيرهم بسببين أم لا لمصلحة في هؤلاء .

                                      ( والثالث ) إن كان التألف لقتال الكفار فمن سهم الغزاة ، وإن كان لأجل الزكوات وقتال مانعيها فمن سهم المؤلفة .

                                      ( والرابع ) يتخير الإمام ، إن شاء أعطاهم من ذا السهم وإن شاء أعطاهم من ذاك ، وحكى الرافعي وجها أن المؤلف لقتال مانعي الزكاة وجمعها يعطى من سهم العاملين . قال الرافعي : أرسل أكثر الأصحاب هذا الخلاف ولم يتعرضوا للأصح منه ، وقال الشيخ أبو حامد وطائفة : الأظهر من القولين في [ ص: 183 ] الصنفين الأولين أنهم لا يعطون ، وقياس هذا أن لا يعطى الصنفان الآخران من الزكاة ; لأن الأولين أحق باسم المؤلفة من الآخرين ; لأن في الآخرين معنى الغزاة والعاملين ، وعلى هذا يسقط سهم المؤلفة من الزكاة ، وقد صار إليه الروياني وجماعة من المتأخرين ولكن الموافق لظاهر الآية ثم لسياق الشافعي والأصحاب إثبات سهم المؤلفة وأنه يستحقه الصنفان الأولان وأنه لا يجوز صرفه إلى الآخرين أيضا وبه أفتى الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية . هذا آخر كلام الرافعي وهذا الذي صححه هو الصحيح ، وهو الصرف إلى الأصناف الأربعة من سهم المؤلفة . والله أعلم . فإن قيل : كيف يعرف كونه مؤلفا ؟ فالجواب : أن صاحب الشامل وغيره من العراقيين قطعوا بأنه لا يقبل قوله أنه من المؤلفة إلا ببينة ; لأنه مما يظهر ، والصحيح ما قاله أبو العباس بن القاص في كتابه التلخيص ، وتابعه عليه الخراسانيون وغيرهم ، أنه إن قال : نيتي في الإسلام ضعيفة قبل قوله ; لأن كلامه يصدقه ، وإن قال : أنا شريف مطاع في قومي لم يقبل قوله إلا ببينة ، ونقل الرافعي هذا التفصيل عن جمهور الأصحاب ، قال : وذكر أبو الفرج عن بعض الأصحاب أنه أطلق مطالبته بالبينة ، وفي صفة هذه البينة كلام نذكره إن شاء الله تعالى في فصل سهم المكاتب ، وهل تكون المرأة من المؤلفة ؟ أم لا يتصور ذلك ؟ فيه وجهان سبق بيانهما في فصل سهم الفقير ( الصحيح ) أنه يتصور .




                                      الخدمات العلمية