الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب صيام يوم عاشوراء

                                                                                                                                                                                                        1896 حدثنا أبو عاصم عن عمر بن محمد عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء إن شاء صام [ ص: 287 ] [ ص: 288 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 287 ] [ ص: 288 ] قوله : ( باب صيام يوم عاشوراء ) أي : ما حكمه . وعاشوراء بالمد على المشهور ، وحكي فيه القصر ، وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي وأنه لا يعرف في الجاهلية ، ورد ذلك عليه ابن دحية بأن ابن الأعرابي حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء ، وبقول عائشة إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وهذا الأخير لا دلالة فيه على رد ما قال ابن دريد . واختلف أهل الشرع في تعيينه ، فقال الأكثر : هو اليوم العاشر ، قال القرطبي : عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم ، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة ؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها ، فإن قيل : يوم عاشوراء فكأنه قيل : يوم الليلة العاشرة ، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة ، فصار هذا اللفظ علما على اليوم العاشر ، وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا وضاروراء وساروراء ودالولاء ، من الضار والسار والدال ، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر ، وهذا قول الخليل وغيره : وقال الزين بن المنير : الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم ، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية ، وقيل : هو اليوم التاسع ، فعلى الأول فاليوم مضاف لليلته الماضية ، وعلى الثاني هو مضاف لليلته الآتية ، وقيل : إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذا من أوراد الإبل ، كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا وردنا عشرا بكسر العين ، وكذلك إلى الثلاثة ، وروى مسلم من طريق الحكم بن الأعرج : " انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه فقلت : أخبرني عن يوم عاشوراء ، قال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما . قلت : أهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصومه؟ قال : نعم " وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو اليوم التاسع ، لكن قال الزين بن المنير : قوله : " إذا أصبحت من تاسعه فأصبح " يشعر بأنه أراد العاشر ؛ لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهو الليلة العاشرة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ويقوي هذا الاحتمال ما رواه مسلم أيضا من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع . فمات قبل ذلك " فإنه ظاهر في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم العاشر وهم بصوم التاسع فمات قبل ذلك ، ثم ما هم به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر ، إما احتياطا له وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح ، وبه يشعر بعض روايات مسلم ، ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا : " صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود ، صوموا يوما قبله أو يوما بعده " وهذا كان في آخر الأمر ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان ، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما ثبت في الصحيح ، فهذا من ذلك ، فوافقهم أولا وقال : نحن أحق بموسى منكم ، ثم أحب مخالفتهم فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوم بعده خلافا لهم ، ويؤيده رواية الترمذي من طريق أخرى بلفظ : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصيام عاشوراء يوم العاشر وقال بعض أهل العلم : [ ص: 289 ] قوله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم : لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع يحتمل أمرين : أحدهما : أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع ، والثاني : أراد أن يضيفه إليه في الصوم ، فلما توفي - صلى الله عليه وسلم - قبل بيان ذلك كان الاحتياط صوم اليومين ، وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب : أدناها أن يصام وحده ، وفوقه أن يصام التاسع معه ، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر ، والله أعلم . ثم بدأ المصنف بالأخبار الدالة على أنه ليس بواجب ، ثم بالأخبار الدالة على الترغيب في صيامه .

                                                                                                                                                                                                        الحديث الأول : حديث ابن عمر أورده من رواية عمر بن محمد أي : ابن زيد بن عبد الله بن عمر عن عم أبيه سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، وقد أخرجه مسلم عن أحمد بن عثمان النوفلي عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه ، وصرح بالتحديث في جميع إسناده .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء إن شاء صام ) كذا وقع في جميع النسخ من البخاري مختصرا ، وعند ابن خزيمة في صحيحه عن أبي موسى عن أبي عاصم بلفظ : " إن اليوم يوم عاشوراء فمن شاء فليصمه ومن شاء فليفطره " وعند الإسماعيلي قال : " يوم عاشوراء من شاء صامه ومن شاء أفطره " وفي رواية مسلم " ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء فقال كان يوما يصومه أهل الجاهلية ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه " وقد تقدم في أول كتاب الصيام من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر بلفظ : صام النبي - صلى الله عليه وسلم - عاشوراء وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك فيحمل حديث سالم على ثاني الحال التي أشار إليها نافع في روايته ، ويجمع بين الحديثين بذلك .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية