الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ) سبب نزولها أنه لما نزل : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم ) الآية أشفقوا منها ، ثم تقرر الأمر على أن ( قالوا سمعنا وأطعنا ) فرجعوا إلى التضرع والاستكانة ، فمدحهم الله وأثنى عليهم ، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم ، وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم ، فجمع لهم ، تعالى ، التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر ، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى ، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والجلاء ، إذ ( قالوا سمعنا وعصينا ) وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله ، أعاذنا الله تعالى من نقمه ، انتهى هذا ، وهو كلام ابن عطية .

وظهر بسبب النزول مناسبة هذه الآية لما قبلها ، ولما كان مفتتح هذه السورة بذكر الكتاب المنزل ، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بما وصفوا به من الإيمان بالغيب ، وبما أنزل إلى الرسول وإلى من قبله ، كان مختتمها أيضا موافقا لمفتتحها .

وقد تتبعت أوائل السور المطولة فوجدتها يناسبها أواخرها ، بحيث لا يكاد ينخرم منها شيء ، وسأبين ذلك إن شاء الله في آخر كل سورة سورة ، وذلك من أبدع الفصاحة ، حيث يتلاقى آخر الكلام [ ص: 364 ] المفرط في الطول بأوله ، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم ، يكون أحدهم آخذا في شيء ، ثم يستطرد منه إلى شيء آخر ، ثم إلى آخر ، هكذا طويلا ، ثم يعود إلى ما كان آخذا فيه أولا ، ومن أمعن النظر في ذلك سهل عليه مناسبة ما يظهر ببادئ النظر أنه لا مناسبة له ، فبين تعالى في آخر هذه السورة أن أولئك المؤمنين هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم .

قال المروزي : ( آمن الرسول ) قال الحسن ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وابن عباس في رواية : أن هاتين الآيتين لم ينزل بهما جبريل ، وسمعهما - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج بلا واسطة ، والبقرة مدنية إلا هاتين الآيتين . وقال ابن عباس في رواية أخرى ، وابن جبير ، والضحاك ، وعطاء : إن جبريل نزل عليه بهما بالمدينة ، وهي رد على من يقول : إن شاء الله في إيمانه ؛ لأن الله تعالى شهد بإيمان المؤمنين ، فالشك فيه شك في علم الله تعالى ، انتهى كلامه .

والألف واللام في ( الرسول ) هي للعهد ، وهو رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد كثر في القرآن تسميته من الله بهذا الاسم الشريف ، وما أنزل إليه من ربه شامل لجميع ما أنزل إليه من الله تعالى : من العقائد ، وأنواع الشرائع ، وأقسام الأحكام في القرآن ، وفي غيره ، آمن بأن ذلك وحي من الله وصل إليه ، وقدم الرسول لأن إيمانه هو المتقدم وإيمان المؤمنين متأخر عن إيمانه ، إذ هو المتبوع وهم التابعون في ذلك .

وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت عليه ، قال : يحق له أن يؤمن . والظاهر أن يكون قوله : ( والمؤمنون ) معطوفا على قوله : ( الرسول ) ويؤيده قراءة علي ، وعبد الله ( وآمن المؤمنون ) فأظهر الفعل الذي أضمره غيره من القراء ، فعلى هذا يكون ( كل ) لشمول الرسول والمؤمنين ، وجوزوا أن يكون الوقف تم عند قوله : ( من ربه ) ويكون ( المؤمنون ) مبتدأ ، و ( كل ) مبتدأ ثان لشمول المؤمنين خاصة ، و ( آمن بالله ) جملة في موضع خبر ( كل ) والجملة من : ( كل ) وخبره ، في موضع خبر المؤمنين ، والرابط لهذه الجملة بالمبتدأ الأول محذوف ، وهو ضمير مجرور تقديره : كل منهم آمن ، كقولهم : السمن منوان بدرهم ، يريدون : منه بدرهم ، والإيمان بالله هو : التصديق به ، وبصفاته ، ورفض الأصنام ، وكل معبود سواه . والإيمان بملائكته هو اعتقاد وجودهم ، وأنهم عباد الله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم ، والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمنهم كتاب الله ، وما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ، والإيمان برسله هو التصديق بأن الله أرسلهم لعباده .

وهذا الترتيب في غاية الفصاحة ؛ لأن الإيمان بالله هي المرتبة الأولى ، وهي التي يستبد بها العقل ؛ إذ وجود الصانع يقر به كل عاقل ، والإيمان بملائكته هي المرتبة الثانية ؛ لأنهم كالوسائط بين الله وعباده ، والإيمان بالكتب هو الوحي الذي يتلقنه الملك من الله ، يوصله إلى البشر ، هي المرتبة الثالثة ، والإيمان بالرسل الذين يقتبسون أنوار الوحي فهم متأخرون في الدرجة عن الكتب ، هي المرتبة الرابعة وقد تقدم الكلام على شيء من هذا الترتيب في قوله : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله ) وقيل : الكلام في عرفان الحق لذاته ، وعرفان الخير للعمل به ، واستكمال القوة النظرية بالعلم والقوة العملية ، بفعل الخيرات ، والأولى أشرف ، فبدئ بها ، وهو : الإيمان المذكور ، والثانية هي المشار إليها بقوله : ( سمعنا وأطعنا ) وقيل : للإنسان مبدأ وحال ومعاد ، فالإيمان إشارة إلى المبدأ ، و ( سمعنا وأطعنا ) إشارة إلى الحال ، و ( غفرانك ) وما بعده إشارة إلى المعاد .

وقرأ حمزة والكسائي ( : وكتابه ) على التوحيد ، وباقي السبعة ( وكتبه ) على الجمع ، فمن وحد أراد كل مكتوب ، سمي المفعول بالمصدر ، كقولهم : نسج اليمن أي : منسوجه ، قال أبو علي : معناه أن هذا الإفراد ليس كإفراد المصادر ، وإن أريد بها الكثير ، كقوله : ( وادعوا ثبورا كثيرا ) ولكنه ، كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة ، نحو : كثر الدينار والدرهم ، ومجيئها بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة ، ومن الإضافة ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ ص: 365 ] وفي الحديث : منعت العراق درهمها وقفيزها يراد به : الكثير ، كما يراد بما فيه لام التعريف ، انتهى ملخصا ، ومعناه أن المفرد المحلى بالألف واللام يعم أكثر من المفرد المضاف .

وقال الزمخشري : وقرأ ابن عباس ( وكتابه ) يريد القرآن ، أو الجنس ، وعنه : الكتاب أكثر من الكتب ، فإن قلت : كيف يكون الواحد أكثر من الجمع ؟ قلت : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس ، والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها ، لم يخرج منه شيء ، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع ، انتهى كلامه ، وليس كما ذكر ؛ لأن الجمع إذا أضيف أو دخلته الألف واللام الجنسية صار عاما ، ودلالة العام دلالة على كل فرد فرد ، فلو قال : أعتقت عبيدي ، يشمل ذلك كل عبد عبد ، ودلالة الجمع أظهر في العموم من الواحد ، سواء كانت فيه الألف واللام أم الإضافة ، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد إلا بقرينة لفظية ، كأن يستثنى منه ، أو يوصف بالجمع ، نحو : ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ) وأهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، أو قرينة معنوية نحو : نية المؤمن أبلغ من عمله ، وأقصى حاله أن يكون مثل الجمع العام إذا أريد به العموم ، وحمل على اللفظ في قوله : ( آمن ) فأفرد كقوله : ( قل كل يعمل على شاكلته ) .

وقرأ يحيى بن يعمر ( وكتبه ورسله ، بإسكان التاء والسين ، وروي ذلك عن نافع ، وقرأ الحسن ( ورسله ) بإسكان السين ، وهي رواية عن أبي عمرو وقرأ عبد الله ( وكتابه ولقائه ورسله )

( لا نفرق بين أحد من رسله ) قرأ الجمهور بالنون ، وقدره : يقولون لا نفرق ، ويجوز أن يكون التقدير : يقول لا نفرق ؛ لأنه يخبر عن نفسه ، وعن غيره ، فيكون : يقول ، على اللفظ ، ويقولون ، على المعنى بعد الحمل على اللفظ ، وعلى كلا التقديرين فموضع هذا المقدر نصب على الحال ، وجوز الحوفي وغيره أن يكون خبرا بعد خبر لـ ( كل ) .

وقرأ ابن جبير ، وابن يعمر ، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ، ويعقوب ، ونص رواية أبي عمرو ( ولا يفرق ) بالياء على لفظ ( كل ) قال هارون : وهي في مصحف أبي ، وابن مسعود ( لا يفرقون ) حمل على معنى ( كل ) بعد الحمل على اللفظ ، والمعنى : أنهم ليسوا كاليهود والنصارى يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، والمقصود من هذا الكلام إثبات النبوة ، وهو ظهور المعجزة على وفق الدعوى ، فاختصاص بعض دون بعض متناقض ، لا ما ادعاه بعضهم من أن المقصود هو عدم التفضيل بينهم ، و ( أحد ) هنا هي المختصة بالنفي ، وما أشبهه ؟ فهي للعموم ، فلذلك دخلت ( من ) عليها كقوله تعالى : ( فما منكم من أحد عنه حاجزين ) والمعنى بين آحادهم ، قال الشاعر :


إذا أمور الناس ديكت دوكا لا يرهبون أحدا رأوكا



قال بعضهم : و ( أحد ) قيل : إنه بمعنى جميع ، والتقدير : بين جميع رسله ، ويبعد عندي هذا التقدير ؛ لأنه لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل ، والمقصود بالنفي وهذا ؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل ، بل البعض ، وهو محمد ، فثبت أن التأويل الذي ذكره باطل ، بل معنى الآية : لا يفرق بين أحد من رسله وبين غيره في النبوة ، انتهى ، وفيه بعض تلخيص ، ولا يعني من فسرها : بجميع ، أو قال : هي في معنى الجميع ، إلا أنه يريد بها العموم نحو : ما قام أحد ، أي : ما قام فرد فرد من الرجال مثلا ، ولا فرد فرد من النساء ، لا أنه نفى القيام عن الجميع ، فيثبت لبعض ، ويحتمل عندي أن يكون مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : لا يفرق بين أحد من رسله وبين أحد ، فيكون ( أحد ) هنا بمعنى واحد ، لا أنه اللفظ الموضوع للعموم في النفي ، ومن حذف المعطوف : ( سرابيل تقيكم الحر ) أي : والبرد ، وقول الشاعر :


فما كان بين الخير لو     جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل



[ ص: 366 ] أي : بين الخير وبيني فحذف ، وبيني لدلالة المعنى عليه .

( وقالوا سمعنا وأطعنا ) أي : سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، ولا يراد مجرد السماع ، بل القبول والإجابة ، وقدم ( سمعنا ) على ( وأطعنا ) لأن التكليف طريقه السمع ، والطاعة بعده ، وينبغي للمؤمن أن يكون قائلا هذا دهره .

( غفرانك ربنا ) أي : من التقصير في حقك ، أو لأن عبادتنا ، وإن كانت في نهاية الكمال ، فهي بالنسبة إلى جلالك تقصير .

( وإليك المصير ) إقرار بالمعاد ، أي : وإلى جزائك المرجع ، وانتصاب ( غفرانك ) على المصدر ، وهو من المصادر التي يعمل فيها الفعل مضمرا ، التقدير عند سيبويه : اغفر لنا غفرانك ، قال السجاوندي : ونسبه ابن عطية للزجاج ، وقال الزمخشري : ( غفرانك ) منصوب بإضمار فعله ، يقال : غفرانك لا كفرانك ، أي : نستغفرك ولا نكفرك ، فعلى التقدير الأول : الجملة طلبية ، وعلى الثاني : خبرية .

واضطرب قول ابن عصفور فيه ، فمرة قال : هو منصوب بفعل يجوز إظهاره ، ومرة قال : هو منصوب يلتزم إضماره ، وعده مع : سبحان الله ، وأخواتها ، وأجاز بعضهم انتصابه على المفعول به ، أي : نطلب أو نسأل غفرانك ، وجوز بعضهم الرفع فيه على أن يكون مبتدأ ، أي : غفرانك بغيتنا .

و ( المصير ) اسم مصدر من صار يصير ، وهو مبني على : مفعل ، بكسر العين ، وقد اختلف النحويون في بناء المفعل مما عينه ياء نحو : ( يبيت ، ويعيش ، ويحيض ، ويقيل ، ويصير ، فذهب بعضهم إلى أنه كالصحيح ، نحو : يضرب ، يكون للمصدر بالفتح ، وللمكان والزمان نحو : ( وجعلنا النهار معاشا ) أي : عيشا ، فيكون : المحيض بمعنى الحيض ، والمصير بمعنى الصيرورة ، على هذا شاذا ، وذهب بعضهم إلى التخيير في المصدر بين أن تبنيه على مفعل بكسر العين ، أو مفعل بفتحها ، وأما الزمان والمكان فبالكسر ، ذهب إلى ذلك الزجاج ، ورده عليه أبو علي ، وذهب بعضهم إلى الاقتصار على السماع ، فحيث بنت العرب المصدر على مفعل أو مفعل اتبعناه ، وهذا المذهب أحوط .

( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ظاهره أنه استئناف ، خبر من الله تعالى أخبر به أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب والجوارح إلا ما هو في وسع المكلف ، ومقتضى إدراكه وبنيته ، وانجلى بهذا أمر الخواطر الذي تأوله المسلمون في قوله : ( إن تبدوا ) الآية ، وظهر تأويل من يقول : إنه لا يصح تكليف ما لا يطاق ، وهذه الآية نظير ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ( فاتقوا الله ما استطعتم ) .

وقال الزمخشري : أي : ما يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقها ، ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود ، وهذا إخبار عن عدله ورحمته ، لقوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة ، وقيل : هذا من كلام الرسول والمؤمنين ، أي : وقالوا : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) والمعنى : أنهم لما قالوا : ( سمعنا وأطعنا ) قالوا : كيف لا نسمع ذلك ، ولا نطيع ؟ وهو تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا ؟ والوسع دون المجهود في المشقة ، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان .

وانتصابه على أنه مفعول ثان لـ ( يكلف ) وقال ابن عطية : يكلف ، يتعدى إلى مفعولين ، أحدهما محذوف تقديره : عبادة أو شيئا ، انتهى ، فإن عنى أن أصله كذا ، فهو صحيح ؛ لأن قوله : ( إلا وسعها ) استثناء مفرغ من المفعول الثاني ، وإن عنى أنه محذوف في الصناعة ، فليس كذلك ، بل الثاني هو ( وسعها ) نحو : ما أعطيت زيدا إلا درهما ، ونحو : ما ضربت إلا زيدا ، هذا في الصناعة هو المفعول ، وإن كان أصله : ما أعطيت زيدا شيئا إلا درهما ، وما ضربت أحدا إلا زيدا .

وقرأ ابن أبي عبلة : ( إلا وسعها ) جعله فعلا ماضيا ، وأولوه على إضمار : ما الموصولة ، وعلى هذا يكون الموصول المفعول الثاني ليكلف ، كما أن ( وسعها ) في قراءة الجمهور هو المفعول الثاني ، وفيه ضعف من حيث حذف الموصول دون أن يدل عليه موصول آخر يقابله ، كقول حسان :

[ ص: 367 ]

فمن يهجو رسول الله منكم     ويمدحه وينصره سواء



أي : ومن ينصره ، فحذف : من ، لدلالة : من المتقدمة ، وينبغي أن لا يقاس حذف الموصول ؛ لأنه وصلته كالجزء الواحد ، ويجوز أن يكون مفعول ( يكلف ) الثاني محذوفا ، لفهم المعنى ، ويكون ( وسعها ) جملة في موضع الحال ، التقدير : لا يكلف الله نفسا شيئا إلا وسعها ، أي : وقد وسعها ، وهذا التقدير أولى من حذف الموصول .

قال ابن عطية : وهذا يشير إلى قراءة ابن أبي عبلة ، فيه تجوز لأنه مقلوب ، وكان وجه اللفظ : إلا وسعته ، كما قال : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) ( وسع كل شيء علما ) ولكن يجيء هذا من باب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وفمي في الحجر ، انتهى .

وتكلم ابن عطية هنا في تكليف ما لا يطاق ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين ، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه غير واقع .

( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) أي : ما كسبت من الحسنات واكتسبت من السيئات ، قاله السدي ، وجماعة المفسرين ، لا خلاف في ذلك ، والخواطر ليست من كسب الإنسان ، والصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد ، والقرآن ناطق بذلك ، قال الله تعالى : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) ، وقال : ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) وقال : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ) وقال : ( بغير ما اكتسبوا ) .

ومنهم من فرق فقال : الاكتساب أخص من الكسب ؛ لأن الكسب ينقسم إلى كسب لنفسه ولغيره ، والاكتساب لا يكون إلا لنفسه ، يقال : كاسب أهله ، ولا يقال : مكتسب أهله ، قال الشاعر :


ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة

وقال الزمخشري : ينفعها ما كسبت من خير ، ويضرها ما اكتسبت من شر ، لا يؤاخذ غيرها بذنبها ولا يثاب غيرها بطاعتها ، فإن قلت : لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب ؟ قلت : في الاكتساب اعتمال ، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس ، وهي منجذبة إليه ، وأمارة به ، كانت في تحصيله أعمل وأجد ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه ، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال ، انتهى كلامه .

وقال ابن عطية : وكرر فعل الكسب ، فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام ، كما قال : ( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) هذا وجه ، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف ، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة ؛ إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ، ويتخطاه إليها ، فيحسن في الآية مجيء التصريفين احترازا لهذا المعنى ، انتهى كلامه .

وحصل من كلام الزمخشري ، وابن عطية : أن الشر والسيئات فيها اعتمال ، لكن الزمخشري قال : إن سبب الاعتمال هو اشتهاء النفس وانجذابها إلى ما تريده ، وابن عطية قال : إن سبب ذلك هو أنه متكلف ، خرق حجاب نهي الله تعالى ، فهو لا يأتي المعصية إلا بتكلف ، ونحا السجاوندي قريبا من منحى ابن عطية ، وقال : الافتعال الالتزام ، وشره يلزمه ، والخير يشرك فيه غيره بالهداية والشفاعة .

والافتعال : الانكماش ، والنفس تنكمش في الشر ، انتهى ، وجاء : في الخير باللام ؛ لأنه مما يفرح به ويسر ، فأضيف إلى ملكه ، وجاء : في الشر ، بعلى من حيث هو أوزار وأثقال ، فجعلت قد علته وصار تحتها يحملها ، وهذا كما تقول : لي مال وعلي دين .

التالي السابق


الخدمات العلمية