الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 395 ] 4- باب: ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة المائدة

قد زعم قوم أنه ليس في المائدة منسوخ .

" فأخبرنا محمد بن أبي منصور ، قال: أبنا علي بن أيوب ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا محمد بن بشار ، قال أبنا عبد الرحمن ، قال: أبنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن شراحيل ، قال: " المائدة ليس فيها منسوخ قال ابن بشار : وأبنا ابن أبي عدي ، قال: أبنا ابن عون ، قال: قلت للحسن : " نسخ من المائدة شيء ؟ قال: لا ، وقد ذهب الأكثرون إلى أن في المائدة منسوخا ونحن نذكر ذلك .

[ ص: 396 ] ذكر الآية الأولى: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام الآية .

اختلف المفسرون في هذه الآية ، هل هي محكمة أم منسوخة ؟ على قولين: أحدهما: أنها محكمة ولا يجوز استحلال الشعائر ولا الهدي قبل أوان ذبحه ، ثم اختلفوا في القلائد ، فقال بعضهم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر ، وقال آخرون منهم: كانت الجاهلية تقلد من شجر الحرم ، فقيل لهم: لا تستحلوا أخذ القلائد من الحرم ، ولا تصدوا القاصدين إلى البيت .

والقول الثاني: أنها منسوخة ، ثم في المنسوخ منها ثلاثة أقوال: أحدها: قوله: ولا آمين البيت الحرام ، فإن هذا اقتضى جواز إقرار المشركين على قصدهم البيت ، وإظهارهم شعائر الحج ، ثم نسخ هذا بقوله: فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ، وبقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما .

[ ص: 397 ] " أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا عمر بن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال أبنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال: " نسخ منها آمين البيت الحرام نسخها قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقال: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر .

وقال: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا .

والثاني: أن المنسوخ منها تحريم الشهر الحرام ، وتحريم الآمين للبيت إذا كانوا مشركين ، وهدي المشركين ، إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

والثالث: أن جميعها منسوخ .

" أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا يعقوب بن سفيان ، قال: أبنا أبو صالح ، [ ص: 398 ] قال: أبنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام ، قال: كان المشركون يحجون البيت الحرام ، ويهدون الهدايا ويحرمون حرمة المشاعر ، وينحرون في حجهم ، فأنزل الله عز وجل: لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام أي لا تستحلوا قتالا فيه ، ولا آمين البيت الحرام ، يقول: من توجه قبل البيت ، ثم أنزل الله ، فقال: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا يزيد ، قال: أبنا سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال: " نسخت هذه الآية لا تحلوا شعائر الله نسختها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم قال أحمد : وأبنا عبد الرزاق ، قال: أبنا معمر ، عن قتادة " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ، قال: هي منسوخة ، كان [ ص: 399 ] الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر ، فلم يعرض له أحد ، فإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد ، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ، ولا عند البيت الحرام ، فنسخها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أخبرنا ابن الحصين ، قال: أبنا ابن غيلان ، قال: أبنا أبو بكر الشافعي ، قال: أبنا إسحاق بن الحسن ، قال: أبنا أبو حذيفة النهدي ، قال: أبنا سفيان الثوري ، عن بيان ، عن الشعبي ، قال: " لم ينسخ من المائدة غير آية واحدة يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام نسختها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .

وفصل الخطاب في هذا أنه لا يمكن القول بنسخ جميع الآية ، فإن شعائر الله أعلام متعبداته ، ولا يجوز القول بنسخ هذا إلا أن يعني [ ص: 400 ] به: لا تستحلوا نقض ما شرع فيه المشركون من ذلك ، فعلى هذا يكون منسوخا ، وكذلك الهدي والقلائد ، وكذلك الآمون للبيت فإنه لا يجوز صدهم إلا أن يكونوا مشركين ، وأما الشهر الحرام فمنسوخ الحكم على ما بينا في قوله: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه .

فأما قوله: وإذا حللتم فاصطادوا فلا وجه لنسخه ، وأما قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم فمنسوخ بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وباقي الآية محكم بلا شك.

[ ص: 401 ] ذكر الآية الثانية: قوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدهما: أنها اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب على الإطلاق ، وإن علمنا أنهم قد أهلوا عليها بغير اسم الله ، أو أشركوا معه غيره ، وهذا مروي عن الشعبي ، وربيعة ، والقاسم بن مخيمرة في آخرين ، وهؤلاء زعموا أنها ناسخة لقوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .

" قال أبو بكر : وأبنا حرمي بن يونس ، قال: أبنا أبي يونس بن محمد ، قال: أبنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، قال: قيل له: " إنهم يذكرون المسيح على ذبائحهم ، قال: قد علم الله ما هم قائلون ، وقد أحل ذبائحهم قال أبو بكر : وأبنا زياد بن أيوب ، قال: أبنا مروان ، قال: أبنا أيوب بن يحيى الكندي ، قال: سألت الشعبي ، عن نصارى نجران ، فقلت: " منهم من يذكروا الله ومنهم من يذكر المسيح ، قال: كل ، وأطعمني [ ص: 402 ] قال أبو بكر : وأبنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب ، قال: أبنا يحيى ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال: " كلوا وإن ذبح للشيطان قال أبو بكر : وأبنا محمود بن خالد ، قال: أبنا الوليد ، قال: أبنا ابن جابر ، قال: سمعت القاسم بن مخيمرة ، يقول: " لا بأس بأكل ما ذبحت النصارى لأعياد كنائسها ، ولو سمعته يقوله: على اسم جرجيس وبولس أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا يعقوب بن سفيان ، قال: أبنا أبو صالح ، قال: حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهم " وما أهل لغير الله به ، ما ذبح اليهود والنصارى أحل لكم ذبائحهم على كل حال قال أبو بكر ، وأبنا محمد بن بشار ، قال: أبنا يحيى ، قال: أبنا عبد الملك ، عن عطاء ، قال: " إذا ذبح النصراني باسم المسيح فكل [ ص: 403 ] قال أبو بكر : وأبنا عبد الله بن سعيد ، قال: أبنا ابن أبي غنية ، قال: أبنا أبي ، عن الحكم ، قال: " لو ذبح النصراني ، وسمعته يقول: " باسمك اللهم المسيح لأكلت منه ، لأن الله قد أحل لنا ذبائحهم ، وهو يعلم أنهم يقولون ذلك .

والقول الثاني: أن ذلك كان مباحا في أول الأمر ، ثم نسخ بقوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .

والقول الثالث: أنه إنما أبيحت ذبيحة أهل الكتاب ، لأن الأصل أنهم يذكرون اسم الله عليها ، فمتى علم أنهم قد ذكروا غير اسمه لم يؤكل وهذا هو الصحيح عندي ، وممن قال: إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل: علي بن أبي طالب ، وعبد الله ابن عمر ، وعائشة ، وطاؤس والحسن ، وعن عبادة [ ص: 404 ] بن الصامت ، وأبي الدرداء كهذا القول ، وكالقول الأول ، فعلى هذا القول الآية محكمة ، ولا وجه للنسخ .

ذكر الآية الثالثة: قوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم اختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما: أن في الكلام إضمارا تقديره: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ، وهذا قول سعد بن أبي وقاص ، وأبي موسى ، وابن عباس ، والفقهاء .

[ ص: 405 ] والثاني: أنه على إطلاقه ، وأنه يوجب على كل من أراد الصلاة أن يتوضأ سواء كان محدثا أو غير محدث ، وهذا مروي عن جماعة منهم: علي ، وعكرمة ، وابن سيرين ، ثم اختلفوا: هل هذا الحكم باق أم نسخ فذهب أكثرهم إلى أنه باق ، وقال بعضهم: بل هو منسوخ بالسنة وهو حديث بريدة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح بوضوء واحد ، فقال له عمر : صنعت شيئا لم تكن تصنعه ، فقال: عمدا فعلته يا عمر وهذا قول بعيد لما سبق بيانه ، من أن أخبار الآحاد لا تجوز أن تنسخ القرآن ، وإنما يحمل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا على تبيين معنى الآية ، وأن المراد: إذا قمتم وأنتم محدثون ، وإنما كان يتوضأ لكل صلاة لطلب الفضيلة ، [ ص: 406 ] وقد حكى أبو جعفر النحاس ، عن الشافعي ، أنه قال: لو وكلنا إلى الآية لكان على كل قائم إلى الصلاة الطهارة ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات بطهور واحد ، بينها فيكون المعنى: إذا قمتم وقد أحدثتم فاغسلوا ، وقد قال بعضهم: يجوز أن يكون ذلك قد نسخ بوحي لم تستقر تلاوته .

فإنه قد روى أبو جعفر ابن جرير الطبري ، بإسناده ، عن عبد الله بن حنظلة الغسيل رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة ، فشق ذلك عليه ، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث " ذكر الآية الرابعة: قوله تعالى: فاعف عنهم واصفح ، اختلف العلماء هل هذا منسوخ أم محكم على قولين : [ ص: 407 ] أحدهما: أنه منسوخ ، قاله الأكثرون ، ولهم في ناسخه ثلاثة أقوال: أحدها: آية السيف .

" أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا ابن أيوب ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا أحمد بن محمد ، قال: حدثت عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما " فاعف عنهم وإن تعفوا وتصفحوا ، ونحو هذا من القرآن نسخ كله بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم والثاني: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال بنا عبد الرزاق ، قال: أبنا معمر ، عن قتادة " فاعف عنهم واصفح ، قال: نسختها قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر .

[ ص: 408 ] والثالث: وإما تخافن من قوم خيانة .

والقول الثاني: أنه محكم ، قال بعض المفسرين: نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد ، فغدروا وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وأظهره الله عليهم ، ثم أنزل هذه الآية ، ولم تنسخ ، قال ابن جرير : يجوز أن يعفي عنهم في غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا ، ولم يمتنعوا من أداء الجزية ، والإقرار بالصغار فلا يتوجه النسخ .

[ ص: 409 ] ذكر الآية الخامسة: قوله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا ، هذه الآية محكمة عند الفقهاء ، واختلفوا هل هذه العقوبة على الترتيب أم على التخيير ، فمذهب أحمد بن حنبل في جماعة أنها على الترتيب ، وأنهم إذا قتلوا وأخذوا المال ، أو قتلوا ولم يأخذوا قتلوا وصلبوا ، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا ، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإن لم يأخذوا المال نفوا ، وقال مالك : الإمام مخير في إقامة أي الحدود شاء سواء قتلوا أم لم يقتلوا ، أخذوا المال أو لم يأخذوا ، [ ص: 410 ] وقد ذهب بعض مفسري القرآن ممن لا فهم له ، أن هذه الآية منسوخة بالاستثناء بعدها ، وقد بينا فساد هذا القول في مواضع .

ذكر الآية السادسة: قوله تعالى: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم اختلفوا في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا ، إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم ثم نسخ ذلك ، بقوله: فاحكم بينهم بما أنزل الله ، فلزمه الحكم وزال التخيير ، روى هذا المعنى أبو سليمان الدمشقي بأسانيده ، عن [ ص: 411 ] ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، وقد روى أيضا عن الزهري ، وعمر بن عبد العزيز .

" وقد أخبرنا ابن الحصين ، قال: أبنا أبو طالب بن غيلان ، قال: أبنا أبو بكر الشافعي ، قال: أبنا يحيى بن آدم ، عن الأشجعي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، قال: نسختها فاحكم بينهم بما أنزل الله .

أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، قال: نسختها فاحكم بينهم بما أنزل الله

[ ص: 412 ] قال أحمد : وأبنا هشيم ، قال: أبنا أصحابنا منهم: منصور ، وغيره عن الحكم ، عن مجاهد في قوله: " فاحكم بينهم بما أنزل الله ، قال: نسخت ما قبلها ، قوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال أحمد : وأبنا وكيع ، قال: أبنا سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة ، قال: نسخ قوله: " فاحكم بينهم قوله: فاحكم بينهم أو أعرض قال أحمد : وأبنا حسين ، عن شيبان ، عن قتادة " فاحكم بينهم بما أنزل الله ، قال: أمر الله نبيه ، أن يحكم بينهم بعدما كان رخص له أن يعرض عنهم إن شاء ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها .

وحكى أبو جعفر النحاس ، عن أبي حنيفة ، وأصحابه ، قالوا: إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام فليس له أن يعرض عنهم ، غير أن أبا حنيفة ، قال: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل ، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم ، وقال أصحابه: بل يحكم ، قال: وقال الشافعي : لا خيار للإمام إذا تحاكموا إليه ، قال النحاس : وقد ثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة .

[ ص: 413 ] والقول الثاني: أنها محكمة وأن الإمام ونوابه في الحكم مخيرون ، وإذا ترافعوا إليهم إن شاءوا حكموا بينهم وإن شاءوا أعرضوا عنهم .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا هشيم ، قال: أبنا مغيرة ، عن إبراهيم ، والشعبي ، في قوله: " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، قالا: إذا ارتفع أهل الكتاب إلى حاكم المسلمين ، فإن شاء أن يحكم بينهم ، وإن شاء أن يعرض عنهم ، وإن حكم ، حكم بما في كتاب الله " قال أحمد : وأبنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال: " إن شاء حكم ، وإن شاء لم يحكم أخبرنا المبارك بن علي ، قال أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا المثنى بن أحمد ، قال: أبنا عمرو بن خالد ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير " [ ص: 414 ] فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، جعله الله في ذلك على الخيرة ، إما أن يحكم وإما أن يتركهم فلا يحكم بينهم قال أبو بكر : وأبنا عبد الله بن محمد بن خلاد ، قال: أبنا يزيد ، قال: أبنا مبارك ، عن الحسن ، قال: " إذا ارتفع أهل الذمة إلى حاكم من حكام المسلمين ، فإن شاء حكم بينهم ، وإن شاء رفعهم إلى حكامهم ، فإن حكم بينهم حكم بالعدل ، وبما أنزل الله " .

وهذا مروي عن الزهري ، وبه قال: أحمد بن حنبل وهو الصحيح ، لأنه لا تنافي بين الآيتين من جهة أن أحدهما خيرت بين الحكم وتركه ، والأخرى ثبتت كيفية الحكم إذا كان .

ذكر الآية السابعة: قوله تعالى: ما على الرسول إلا البلاغ [ ص: 415 ] اختلف المفسرون فيها على قولين: أحدهما: أنها محكمة وأنها تدل على أن الواجب على الرسول التبليغ وليس عليه الهدي .

والثاني: أنها تتضمن الاقتصار على التبليغ دون الأمر بالقتال ، ثم نسخت بآية السيف والأول أصح .

ذكر الآية الثامنة: قوله تعالى: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم للعلماء فيها قولان: أحدهما: أنها منسوخة: قال أرباب هذا القول هي تتضمن كف الأيدي عن قتال الضالين فنسخت ، ولهم في ناسخها قولان: أحدهما: آية السيف .

والثاني: أن آخرها نسخ أولها ، قال أبو عبيد القاسم بن سلام : ليس في القرآن آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه ، وموضع المنسوخ منها إلى قوله: لا يضركم من ضل ، والناسخ قوله: إذا اهتديتم والهدى هاهنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

[ ص: 416 ] قلت: وهذا الكلام إذا حقق لم يثبت .

والقول الثاني: أنها محكمة ، قال الزجاج : معناها إنما ألزمكم الله أمر أنفسكم لا يؤاخذكم بذنوب غيركم ، قال: وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف ، لأن المؤمن إذا تركه وهو مستطيع له ، فهو ضال وليس بمهتد .

قلت: وهذا القول هو الصحيح وأنها محكمة ويدل على إحكامها أربعة أشياء .

أحدها: أن قوله: عليكم أنفسكم يقتضي إغراء الإنسان بمصالح نفسه ، ويتضمن الإخبار بأنه لا يعاقب بضلال غيره ، وليس مقتضى ذلك أن لا ينكر على غيره ، وإنما غاية الأمر أن يكون ذلك مسكوتا عنه فيقف على الدليل .

والثاني: أن الآية تدل على وجوب الأمر بالمعروف ، لأن قوله عليكم أنفسكم أمر بإصلاحها وأداء ما عليها ، وقد ثبت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فصار من جملة ما على الإنسان في نفسه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وقد دل على ما قلنا قوله: إذا اهتديتم ، وإنما يكون الإنسان مهتديا إذا امتثل أمر الشرع ، ومما أمر الشرع به الأمر بالمعروف ، وقد روي عن ابن مسعود ، والحسن ، وأبي العالية ، أنهم قالوا في هذه الآية: قولوا ما قبل منكم فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم .

[ ص: 417 ] " أخبرنا ابن الحصين ، قال: أبنا ابن المذهب ، قال: أبنا أحمد بن جعفر ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا هاشم بن القاسم ، قال أبنا زهير يعني: ابن معاوية ، قال: أبنا إسماعيل بن أبي خالد ، قال: أبنا قيس ، قال: " قام أبو بكر رضي الله عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى آخر الآية وأنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر ، ولا يغيرونه أوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه والثالث: أن الآية قد حملها قوم على أهل الكتاب إذا أدوا الجزية ، فحينئذ لا يلزمون بغيرها ، فروى أبو صالح ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 418 ] كتب إلى حجر ، وعليهم منذر بن ساوي يدعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا فليؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من العرب ، واليهود والنصارى والمجوس ، فأقروا بالجزية وكرهوا الإسلام ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية " ، فلما قرءوا الكتاب أسلمت العرب ، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية ، فقال المنافقون: عجبا لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ، وقد قبل من مجوس هجر ، وأهل الكتاب الجزية ، فهلا أكرههم على الإسلام وقد ردها على إخواننا من العرب ، فشق ذلك على المسلمين فنزلت هذه الآية .

والرابع: أنه لما عابهم في تقليد آبائهم بالآية المتقدمة ، أعلمهم بهذه الآية أن المكلف إنما يلزمه حكم نفسه ، وأنه لا يضره ضلال [ ص: 419 ] من ضل إذا كان مهتديا ، حتى يعلموا أنه لا يلزمهم من ضلال آبائهم شيء من الذم والعقاب ، وإذا تلمحت هذه المناسبة بين الآيتين لم يكن الأمر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هاهنا مدخل ، وهذا أحسن الوجوه في الآية .

ذكر الآية التاسعة: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم الإشارة بهذا إلى الشاهدين الذين يشهدان على الموصي في السفر والناس في قوله: ذوا عدل منكم قائلان: أحدهما: من أهل دينكم وملتكم .

" أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، قال: أبنا أبو الفضل بن خيرون ، وأبو طاهر الباقلاوي ، قالا: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أحمد بن كامل ، قال: حدثني محمد بن سعد ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " ذوا عدل منكم أي: من أهل [ ص: 420 ] الإسلام " .

وهذا قول ابن مسعود وشريح ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وابن سيرين ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وأبي مخلد ، ويحيى بن يعمر ، والثوري ، وهو قول أصحابنا .

والثاني: أن معنى قوله منكم أي: من عشيرتكم وقبيلتكم ، وهم مسلمون أيضا ، قاله الحسن ، وعكرمة ، والزهري ، والسدي ، وعن عبيدة كالقولين ، فأما قوله أو آخران من غيركم ، فقال ابن عباس ليست ، أو ، للتخير إنما المعنى: أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم وفي قوله: من غيركم قولان: [ ص: 421 ] أحدهما: من غير ملتكم ودينكم ، قاله أرباب القول الأول .

والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم ، وهم مسلمون أيضا ، قاله أرباب القول الثاني والقائل بأن المراد شهادة المسلمين من القبيلة أو من غير القبيلة ، لا يشك في إحكام هذه الآية ، فأما القائل بأن المراد بقوله: أو آخران من غيركم أهل الكتاب إذا شهدوا على الوصية في السفر فلهم فيها قولان: أحدهما: أنها محكمة والعمل على هذا عندهم باق ، وهو قول ابن عباس ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وابن سيرين ، وقتادة ، والشعبي ، والثوري ، وأحمد بن حنبل .

والثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم وهو قول زيد بن أسلم ، وإليه يميل أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، قالوا: وأهل الكفر ليسوا بعدول ، والأول أصح ، لأن هذا موضع ضرورة فجاز [ ص: 422 ] كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض ، والنفاس ، والاستهلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية