الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) مفهوم الشرط يقتضي امتناع الاستيثاق بالرهن ، وأخذه في الحضر ، وعند وجدان الكاتب ؛ لأنه تعالى علق جواز ذلك على وجود [ ص: 355 ] السفر وفقدان الكاتب ، وقد ذهب مجاهد ، والضحاك : إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر ، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك ، ونقل عنهما أنهما لا يجوزان الارتهان إلا في حال السفر ، وجمهور العلماء على جواز الرهن في الحضر ، ومع وجود الكاتب ، وأن الله تعالى ذكر السفر على سبيل التمثيل للإعذار ؛ لأنه مظنة فقدان الكاتب ، وإعواز الإشهاد ، فأقام التوثق بالرهن مقام الكتابة والشهادة ، ونبه بالسفر على كل عذر ، وقد يتعذر الكاتب في الحضر ، كأوقات الاشتغال والليل . وقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهن درعه في الحضر ، فدل ذلك على أن الشرط لا يراد مفهومه .

وقرأ الجمهور ( كاتبا ) على الإفراد . وقرأ أبي ، ومجاهد ، وأبو العالية ( كتبا ) على أنه مصدر ، أو جمع كاتب ، كصاحب وصحاب ، ونفي الكاتب يقتضي نفي الكتابة ، ونفي الكتابة يقتضي أيضا نفي الكتب .

وقرأ ابن عباس والضحاك ( كتابا ) على الجمع اعتبارا بأن كل نازلة لها كاتب ، وروي عن أبي العالية ( كتبا ) جمع كتاب ، وجمع اعتبارا بالنوازل أيضا .

وقرأ الجمهور ( فرهان ) جمع رهن نحو : كعب وكعاب . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ( فرهن ) بضم الراء والهاء ، وروي عنهما تسكين الهاء ، وقرأ بكل واحدة منهما جماعة غيرهما ، فقيل : هو جمع رهان ، ورهان جمع رهن ، قاله الكسائي ، والفراء : وجمع الجمع لا يطرد عند سيبويه ، وقيل : هو جمع رهن ، كسقف ، ومن قرأ بسكون الهاء فهو تخفيف من رهن ، وهي لغة في هذا الباب ، نحو : كتب في كتب ، واختاره أبو عمرو بن العلاء وغيره ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لا أعرف الرهان إلا في الخيل لا غير ، وقال يونس : الرهن والرهان عربيان ، والرهن في الرهن أكثر ، والرهان في الخيل أكثر ، انتهى . وجمع فعل على فعل قليل ، ومما جاء فيه رهن قول الأعشى :


آليت لا يعطيه من أبنائنا رهنا فيفسدهم كرهن أفسدا



وقال بكسر رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء ، وقياسه : أفعل ، فكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل ، انتهى ، والظاهر من قوله : ( مقبوضة ) اشتراط القبض ، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن ، وقبض وكيله ، وأما قبض عدل يوضع الرهن على يديه ، فقال الجمهور به . وقال عطاء ، وقتادة ، والحكم ، وابن أبي ليلى : ليس بقبض ، فإن وقع الرهن بالإيجاب والقبول ، ولم يقع القبض ، فالظاهر من الآية أنه لا يصح إلا بالقبض ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وقالت المالكية : يلزم الرهن بالعقد ، ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن ، فالقبض عند مالك شرط في كمال فائدته ، وعند أبي حنيفة والشافعي شرط في صحته ، وأجمعوا على أنه لا يتم إلا بالقبض .

واختلفوا في استمراره ، فقال مالك : إذا رده بعارية أو غيرها بطل ، وقال أبو حنيفة : إن رده بعارية أو وديعة لم يبطل ، وقال الشافعي : يبطل برجوعه إلى يد الراهن مطلقا .

والظاهر من اشتراط القبض أن يكون المرهون ذاتا متقومة يصح بيعها وشراؤها ، ويتهيأ فيها القبض أو التخلية ، فقال الجمهور : لا يجوز رهن ما في الذمة ، وقالت المالكية : يجوز ، وقال الجمهور : لا يصح رهن الغرر ، مثل : العبد الآبق ، والبعير الشارد ، والأجنة في بطون أمهاتها ، والسمك في الماء ، والثمرة قبل بدو صلاحها ، وقال مالك : لا بأس بذلك .

واختلفوا في رهن المشاع ، فقال مالك ، والشافعي : يصح فيما يقسم وفيما لا يقسم . وقال أبو حنيفة : لا يصح مطلقا . وقال الحسن بن صالح : يجوز فيما لا يقسم ، ولا يجوز فيما يقسم .

ومعنى ( على سفر ) أي : مسافرين ، وقد تقدم الكلام على مثله في آية الصيام ، ويحتمل قوله : ( ولم تجدوا ) أن يكون معطوفا على فعل الشرط ، فتكون الجملة في موضع جزم ، ويحتمل أن تكون الواو للحال ، فتكون الجملة في موضع نصب ، ويحتمل أن يكون معطوفا على خبر كان ، فتكون الجملة في موضع نصب ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر ، وارتفاع ( فرهان ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : [ ص: 356 ] فالوثيقة رهان مقبوضة .

( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) أي : إن وثق رب الدين بأمانة الغريم ، فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن ، فليؤد الغريم أمانته ، أي : ما ائتمنه عليه رب المال ، وقرأ أبي ( فإن أومن ) رباعيا مبنيا للمفعول ، أي : آمنه الناس ، هكذا نقل هذه القراءة عن أبي الزمخشري ، وقال السجاوندي . وقرأ أبي : فإن ائتمن ، افتعل من الأمن ، أي : وثق بلا وثيقة صك ، ولا رهن . والضمير في ( أمانته ) يحتمل أن يعود إلى رب الدين ، ويحتمل أن يعود إلى الذي اؤتمن ، والأمانة : هو مصدر أطلق على الشيء الذي في الذمة ، ويحتمل أن يراد به نفس المصدر ، ويكون على حذف مضاف ، أي : فليؤد دين أمانته ، واللام في ( فليؤد ) للأمر ، وهو للوجوب ، وأجمعوا على وجوب أداء الديون ، وثبوت حكم الحاكم به ، وجبره الغرماء عليه ، ويجوز إبدال همزة ( فليؤد ) واوا نحو : يوجل ويوخر ويواخذ ، لضمة ما قبلها .

وروى أبو بكر عن عاصم ( الذي اؤتمن ) برفع الألف ، ويشير بالضمة إلى الهمزة ، قال ابن مجاهد : وهذه الترجمة غلط . وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم ، وفي الإشارة والإشمام المذكورين نظر .

وقرأ ابن محيصن ، وورش بإبدال الهمزة ياء ، كما أبدلت في بئر وذئب ، وأصل هذا الفعل أؤتمن ، بهمزتين : الأولى همزة الوصل ، وهي مضمومة . والثانية : فاء الكلمة ، وهي ساكنة ، فتبدل هذه واوا لضمة ما قبلها ، ولاستثقال اجتماع الهمزتين ، فإذا اتصلت الكلمة بما قبلها رجعت الواو إلى أصلها من الهمزة ، لزوال ما أوجب إبدالها ، وهي همزة الوصل ، فإذا كان قبلها كسرة جاز إبدالها ياء لذلك .

وقرأ عاصم في شاذه ( اللذتمن ) بإدغام التاء المبدلة من الهمزة قياسا على اتسر ، في الافتعال من اليسر ، قال الزمخشري : وليس بصحيح ؛ لأن التاء المنقلبة عن الهمزة في حكم الهمزة ، واتزر عامي ، وكذلك ريا في رؤيا ، انتهى كلامه .

وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح ، وأن اتزر عامي يعني : أنه من إحداث العامة ، لا أصل له في اللغة ، قد ذكره غيره ، أن بعضهم أبدل وأدغم ، فقال : اتمن واتزر ، وذكر أن ذلك لغة رديئة ، وأما قوله : وكذلك ريا في رؤيا ، فهذا التشبيه إما أن يعود إلى قوله : واترز عامي ، فيكون إدغام ريا عاميا ، وإما أن يعود إلى قوله : فليس بصحيح ، أي : وكذلك إدغام ريا ، ليس بصحيح . وقد حكى الإدغام في ريا الكسائي .

( وليتق الله ربه ) أي : عذاب الله في أداء ما ائتمنه رب المال ، وجمع بين قوله : ( الله ربه ) تأكيدا لأمر التقوى في أداء الدين كما جمعهما في قوله : ( وليملل الذي عليه الحق ) فأمر بالتقوى حين الإقرار بالحق ، وحين أداء ما لزمه من الدين ، فاكتنفه الأمر بالتقوى حين الأخذ وحين الوفاء .

( ولا تكتموا الشهادة ) هذا نهي تحريم ، ألا ترى إلى الوعيد لمن كتمها ؟ وموضع النهي حيث يخاف الشاهد ضياع الحق ، وقال ابن عباس : على الشاهد أن يشهد حيث ما استشهد ، ويخبر حيث ما استخبر ، ولا تقل : أخبر بها عن الأمير ، بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي .

وقرأ السلمي ( ولا يكتموا ) بالياء على [ ص: 357 ] الغيبة . ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) كتم الشهادة هو إخفاؤها بالامتناع من أدائها ، والكتم من معاصي القلب ؛ لأن الشهادة علم قام بالقلب ، فلذلك علق الإثم به ، وهو من التعبير بالبعض عن الكل ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ وآكد ، ألا ترى أنك تقول : أبصرته عيني ؟ وسمعته أذني ؟ ووعاه قلبي ؟ فأسند الإثم إلى القلب ؛ إذ هو متعلق الإثم ، ومكان اقترافه ، وعنه يترجم اللسان ، ولئلا يظن أن الكتمان من الآثام المتعلقة باللسان فقط ، وأفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها ، لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ، وقراءة الجمهور ( آثم ) اسم فاعل من : أثم قلبه ، و ( قلبه ) مرفوع به على الفاعلية ، و ( آثم ) خبر : إن ، وجوز الزمخشري أن يكون ( آثم ) خبرا مقدما ، و ( قلبه ) مبتدأ ، والجملة في موضع خبر إن ، وهذا الوجه لا يجيزه الكوفيون .

وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون - يعني : آثم - ابتداء و ( قلبه ) فاعل يسد مسد الخبر ، والجملة خبر إن ، انتهى . وهذا لا يصح على مذهب سيبويه وجمهور البصريين ؛ لأن اسم الفاعل لم يعتمد على أداة نفي ولا أداة استفهام ، نحو : أقائم الزيدان ؟ وأقائم الزيدون ؟ وما قائم الزيدان ؟ لكنه يجوز على مذهب أبي الحسن ؛ إذ يجيز : قائم الزيدان ؟ فيرفع الزيدان باسم الفاعل دون اعتماد على أداة نفي ولا استفهام ، قال ابن عطية : ويجوز أن يكون ( قلبه ) بدلا على بدل بعض من كل ، يعني : أن يكون بدلا من الضمير المرفوع المستكن في ( آثم ) والإعراب الأول هو الوجه .

وقرأ قوم ( قلبه ) بالنصب ، ونسبها ابن عطية إلى ابن أبي عبلة ، وقال : قال مكي : هو على التفسير ، يعني التمييز ، ثم ضعف من أجل أنه معرفة ، والكوفيون يجيزون مجيء التمييز معرفة ، وقد خرجه بعضهم على أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به ، نحو قولهم : مررت برجل حسن وجهه ومثله ما أنشد الكسائي - رحمه الله تعالى :


أنعتها إني من نعاتها     مدارة الأخفاف مجمراتها
غلب الذفار وعفر نياتها     كوم الذرى وادقة سراتها



وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين جائز ، وعلى مذهب المبرد ممنوع ، وعلى مذهب سيبويه جائز في الشعر لا في الكلام ، ويجوز أن ينتصب على البدل من اسم إن بدل بعض من كل ، ولا مبالاة بالفصل بين البدل والمبدل منه بالخبر ؛ لأن ذلك جائز ، وقد فصلوا بالخبر بين الصفة والموصوف ، نحو : زيد منطلق العاقل ، نص عليه سيبويه ، مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد ، فأحرى في البدل ؛ لأن الأصح أن العامل فيه هو غير العامل في المبدل منه .

ونقل الزمخشري وغيره : أن ابن أبي عبلة قرأ ( أثم قلبه ) بفتح الهمزة والثاء والميم وتشديد الثاء ، جعله فعلا ماضيا ، و ( قلبه ) بفتح الباء نصبا على المفعول بـ ( أثم ) أي : : جعله آثما .

( والله بما تعملون عليم ) بما تعملون عام في جميع الأعمال ، فيدخل فيها كتمان الشهادة [ ص: 358 ] وأداؤها على وجهها ، وفي الجملة توعد شديد لكاتم الشهادة ؛ لأن علمه بها يترتب عليه المجازاة ، وإن كان لفظ العلم يعم الوعد والوعيد ، وقرأ السلمي ( بما يعملون ) بالياء جريا على قراءته ( ولا يكتموا ) بالياء على الغيبة .

وقد تضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة التجنيس المغاير في قوله : ( إذا تداينتم بدين ) وفي قوله : ( وليكتب بينكم كاتب ) وفي قوله : ( ولا يأب كاتب أن يكتب ) وفي قوله : ( ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) وفي قوله : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) وفي قوله : ( اؤتمن أمانته ) ، والتجنيس المماثل في قوله : ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها ) والتأكيد في قوله : ( إذا تداينتم بدين ) وفي قوله : ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) إذ يفهم من قوله : ( تداينتم ) قوله : ( بدين ) ومن قوله : ( فليكتب ) قوله : ( كاتب ) ، والطباق في قوله : ( أن تضل إحداهما فتذكر ) لأن الضلال هنا بمعنى النسيان ، وفي قوله : ( صغيرا أو كبيرا ) والتشبيه في قوله : ( أن يكتب كما علمه الله ) .

والاختصاص في قوله : ( كاتب بالعدل ) وفي قوله : ( فليملل وليه بالعدل ) وفي قوله : ( أقسط عند الله وأقوم للشهادة ) وفي قوله : ( تجارة حاضرة تديرونها بينكم ) .

والتكرار في قوله : ( فاكتبوه ، وليكتب ، و أن يكتب كما علمه الله فليكتب ، ولا يأب كاتب ) ، وفي قوله : ( وليملل الذي عليه الحق ، فإن كان الذي عليه الحق ) كرر الحق للدعاء إلى اتباعه ، وأتى بلفظة على ؛ للإعلام أن لصاحب الحق مقالا واستعلاء ، وفي قوله : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) ، وفي قوله : ( واتقوا الله ويعلمكم الله والله ) .

والحذف في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا ) حذف متعلق الإيمان ، وفي قوله : ( مسمى ) أي : بينكم فليكتب الكاتب ، أن يكتب الكتاب كما علمه الله الكتابة والخط ، فليكتب كتاب الذي عليه الحق ما عليه من الدين ، وليتق الله ربه في إملائه سفيها في الرأي أو ضعيفا في البينة ، أو لا يستطيع أن يمل هو لخرس أو بكم فليملل الدين وليه على الكاتب ، واستشهدوا إذا تعاملتم من رجالكم المعينين للشهادة المرضيين ، فرجل مرضي وامرأتان مرضيتان من الشهداء المرضيين فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة ، ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة أو من أدائها عند الحاكم إذا ما دعوا ، أي : دعائهم صاحب الحق للتحمل ، أو للأداء إلى أجله المضروب بينكم ، ذلكم الكتاب أقسط وأقوم للشهادة المرضية أن لا ترتابوا في الشهادة ، تديرونها بينكم ، ولا تحتاجون إلى الكتب والإشهاد فيها ، وأشهدوا إذا تبايعتم شاهدين ، أو رجلا وامرأتين ، ولا يضار كاتب ولا شهيد أي : صاحب الحق ، أو لا يضار صاحب الحق كاتبا ولا شهيدا ، ثم حذف وبني للمفعول ، وأن تفعلوا الضرر ، واتقوا عذاب الله ، ويعلمكم الله الصواب ، وإن كنتم على سبيل سفر ولم تجدوا كاتبا يتوثق بكتابته ، فالوثيقة رهن ، أمن بعضكم بعضا ، فأعطاه مالا بلا إشهاد ولا رهن ، أمانته من غير حيف ولا مطل ، وليتق عذاب الله ، ولا تكتموا الشهادة عن طالبها .

وتلوين الخطاب ، وهو الانتقال من الحضور إلى الغيبة ، في قوله : ( فاكتبوه وليكتب ) ومن الغيبة إلى الحضور في قوله : ( ولا يأب كاتب ، وأشهدوا ) ، ثم انتقل إلى الغيبة بقوله : ( ولا يضار ) ، ثم إلى الحضور بقوله : ( ولا تكتموا الشهادة ) ، ثم إلى الغيبة بقوله : ( ومن يكتمها ) ، ثم إلى الحضور بقوله : ( بما تعملون ) .

والعدول من فاعل إلى فعيل ، في قوله : ( شهيدين ) ، ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) .

والتقديم والتأخير في قوله : ( فليكتب ) ، ( وليملل ) ، أو الإملال ، بتقديم الكتابة قبل ، ومن ذلك : ( ممن ترضون من الشهداء ) ، التقدير : واستشهدوا ممن ترضون ، ومنه وأشهدوا إذا تبايعتم .

انتهى ما لخصناه مما ذكر في هذه الآية . من أنواع الفصاحة . وفيها من التأكيد في حفظ الأموال في المعاملات ما لا يخفى من الأمر بالكتابة للمتداينين ، ومن الأمر للكاتب بالكتابة بالعدل ، ومن النهي عن الامتناع من الكتابة ، ومن أمره ثانيا بالكتابة ، ومن الأمر لمن عليه الحق بالإملال إن أمكن ، أو لوليه إن لم يمكنه ، ومن الأمر [ ص: 359 ] بالاستشهاد ، ومن الاحتياط في من يشهد وفي وصفه ، ومن النهي للشهود عن الامتناع من الشهادة إذا ما دعوا إليها ، ومن النهي عن الملل في كتابة الدين وإن كان حقيرا ، ومن الثناء على الضبط بالكتابة ، ومن الأمر بالإشهاد عند التبايع ، ومن النهي للكاتب والشاهد عن ضرار من يشهد له ويكتب ، ومن التنبيه على أن الضرار في مثل هذا هو فسوق ، ومن الأمر بالتقوى ، ومن الإذكار بنعمة التعلم ، ومن التهديد بعد ذلك ، ومن الاستيثاق في السفر وعدم الكاتب بالرهن المقبوض ، ومن الأمر بأداء أمانة من لم يستوثق بكاتب وشاهد ورهن ، ومن الأمر لمن استوثق بتقوى الله المانعة من الإخلال بالأمانة ، ومن النهي عن كتم الشهادة ، ومن التنبيه على أن كاتمها مرتكب الإثم ، ومن التهديد آخرها بقوله : ( والله بما تعملون عليم ) فانظر إلى هذه المبالغة والتأكيد في حفظ الأموال وصيانتها عن الضياع ، وقد قرنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنفوس والدماء ، فقال : " من قتل دون ماله فهو شهيد " وقال : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم " . ولصيانتها والمنع من إضاعتها ، ومن التبذير فيها كان حجر الإفلاس ، وحجر الجنون ، وحجر الصغر ، وحجر الرق ، وحجر المرض ، وحجر الارتداد .

( لله ما في السماوات وما في الأرض ) قال الشعبي ، وعكرمة : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها ، ورواه مجاهد ومقسم عن ابن عباس ، قال مقاتل ، والواقدي : نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين .

ومناسبتها ظاهرة ؛ لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم ، ذكر ما انطوى عليه الضمير ، فكتمه أو أبداه ، فإن الله يحاسبه به ، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة ، ولما علق الإثم بالقلب ذكر هنا الأنفس ، فقال : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ) وناسب ذكر هذه الآية خاتمة لهذه السورة ؛ لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع من : دلائل التوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والصلاة ، والزكاة ، والقصاص ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، والحيض ، والطلاق ، والعدة ، والخلع ، والإيلاء ، والرضاعة ، والربا ، والبيع ، وكيفية المداينة ، فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السماوات وما في الأرض ، فهو يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته .

ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس ، وما تنطوي عليه من النيات ، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة ، نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخرة بقوله : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) فصفة الملك تدل على القدرة الباهرة ، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير ، فحصل‌ بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين ، وغاية الوعيد للعاصين .

والظاهر في : اللام ، أنها للملك ، وكان ملكا له ؛ لأنه تعالى هو المنشئ له ، الخالق ، وقيل : المعنى لله تدبير ما في السماوات وما في الأرض ، وخص السماوات والأرض ؛ لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات ، وقدم السماوات لعظمها ، وجاء بلفظ : ما ، تغليبا لما لا يعقل على من يعقل ؛ لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان ، لا يعقل ، وأجناس ذلك كثيرة ، وأما العاقل فأجناسه قليلة ؛ إذ هي ثلاثة : إنس ، وجن ، وملائكة .

التالي السابق


الخدمات العلمية