الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ولا يجب إلا في مال جاهلي يعلم أن مثله لا يضرب في الإسلام ; لأن الظاهر أنه لم يملكه مسلم إلى أن وجده ، وإن كان من ضرب الإسلام كالدراهم الأحدية وما عليه اسم المسلمين فهو لقطة ، وإن كان يمكن أن يكون من مال المسلمين ويمكن أن يكون من مال الجاهلية ، بأن لا يكون عليه علامة لأحد فالمنصوص : أنه لقطة ; لأنه يحتمل الأمرين فغلب حكم الإسلام ، ومن أصحابنا من قال : هو ركاز ; لأن الموضع الذي وجد فيه موات يشهد بأنه ركاز ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال أصحابنا رحمهم الله : الكنز الموجود في الموات ونحوه مما سبق ثلاثة أقسام ( أحدها ) : يعلم أنه من ضرب الجاهلية بأن يكون عليه اسم لملك من ملوكهم ، أو غير ذلك من العلامات ، فهذا ركاز بلا خلاف ، فيجب فيه الخمس والباقي لواجده ( والثاني ) : أن يعلم أنه من ضرب الإسلام بأن يكون عليه اسم ملك من ملوك الإسلام [ ص: 55 ] أو آية أو آيات من القرآن كالدراهم الأحدية بتخفيف الحاء - وهي التي عليها { قل هو الله أحد } - فهذا لا يملكه الواجد بلا خلاف بل يلزمه رده إلى مالكه إن علمه ، وإن لم يعلمه فطريقان ، قطع المصنف والجماهير في كل الطرق بأنه لقطة يعرفه واجده سنة ، ثم يتملكه إن لم يظهر مالكه .

                                      ( الطريق الثاني ) : حكاه إمام الحرمين والبغوي وفيه وجهان ( أصحهما ) : هذا ( والثاني ) : لا يكون لقطة ، بل يحفظه على مالكه أبدا ، حكاه البغوي عن القفال وحكاه إمام الحرمين عن الشيخ أبي علي السنجي ، قال : فعلى هذا يمسكه الواجد أبدا ، وأن للسلطان حفظه في بيت المال كسائر الأموال الضائعة ، فإن رأى الإمام حفظه أبدا فعل ، وإن رأى اقتراضه لمصلحة فعل ما سنذكره في الأموال الضائعة إن شاء الله تعالى ، وعلى هذا الوجه لا يملكه الواجد بحال .

                                      وقال أبو علي : والفرق بينه وبين اللقطة : أن اللقطة تسقط من مالكها في مضيعة ، فجوز الشرع لواجدها تملكها بعد التعريف ترغيبا للناس في أخذها وحفظها ، وأما الكنز المذكور فمحرز بالدفن غير مضيع ، فأشبه الإبل الممتنعة من السباع إذا وجدها في الصحراء ، فإنه لا يجوز أخذها للتملك .

                                      قال أبو علي : وهذا نظير من طيرت الريح ثوبا إلى داره أو حجره ، فإنه لا يملكه بالتعريف ، وقد خالف أبو علي غيره في هذا الاستشهاد ، وقال : الثوب المذكور لقطة يعرف ويملك ، والمذهب ما سبق عن الأصحاب : أن الكنز المذكور لقطة . قال إمام الحرمين : ولو انكشفت الأرض عن الكنز بسيل ونحوه ، فما أدري ما يقول أبو علي فيه ، وهذا المال البارز ضائع ، قال : واللائق بقياسه أن لا يثبت التقاطه للتملك اعتبارا بأصل الوضع ، كما حكينا عنه في مسألة الثوب ، هذا كلام الإمام ، وقد جزم صاحب " الحاوي " ، وصرح : بأن ما ظهر بالسيل فوجده إنسان كان ركازا [ ص: 56 ] قطعا ، قال : ولو رآه ظاهرا وشك هل أظهره السيل أم كان ظاهرا بغير السيل ، فهل هو لقطة ؟ أم ركاز ؟ فيه الخلاف الذي سنذكره إن شاء الله تعالى فيما إذا شك هل هو دفن إسلام ؟ أم جاهلية ؟ والله أعلم .

                                      ( القسم الثالث ) : أن لا يكون في الموجود علامة يعلم أنه من دفن الإسلام أو من الجاهلية ، بأن لا يكون عليه علامة أصلا ، أو يكون عليه علامة وجدت مثلها في الجاهلية والإسلام أو كان حليا أو إناء ، ففيه خلاف حكاه جماعة قولين ، وآخرون وجهين ، وحكاه المصنف وآخرون قولا ووجها ، والصواب : قولان نقل المصنف أحدهما عن نص الشافعي ، وكذا نقله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبغوي وآخرون .

                                      ونقل ابن الصباغ وآخرون عن نص الشافعي في " الأم : " أنه ركاز ، وقال صاحب " الحاوي " : قال أصحابنا البصريون : يكون ركازا ، وحكوه عن نص الشافعي ، واتفق الأصحاب على أن الأصح أنه لقطة ، وبه قطع السرخسي في " الإملاء " والجرجاني في " التحرير " وآخرون ، وصححه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبغوي والمصنف والباقون ; لأنه مملوك ، فلا يستباح إلا بيقين . وعن الشيخ أبي علي السنجي هنا روايتان حكاهما الرافعي ( أحدهما ) : موافقة الأصحاب في كونه لقطة ( والثانية ) : على وجهين ( أحدهما ) : هذا ( والثاني ) : أنه مال ضائع كما قال في القسم الثاني .

                                      قال الرافعي : واعلم أن الحكم مدار على كونه من دفن الجاهلية لا أنه من ضربهم ، فقد يكون من ضربهم ويدفنه مسلم بعد أن وجده وأخذه وملكه ، وهذا الذي قاله الرافعي تفريع على الأصح من هذين القولين أن الكنز الذي لا علامة فيه يكون لقطة ، فأما إذا قلنا بالقول الآخر : إنه ركاز فالحكم مدار على ضرب الجاهلية ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية