الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( إذا اشترى للتجارة ما تجب الزكاة في عينه كنصاب السائمة والكرم والنخل نظرت فإن وجد فيه نصاب إحدى الزكاتين دون الأخرى ، كخمس من الإبل لا تساوي مائتي درهم أو أربع من الإبل تساوي مائتي درهم وجبت فيه زكاة ما وجد نصابه ; لأنه وجد سببها ولم يوجد ما يعارضه فوجبت ، وإن وجد نصابهما ففيه طريقان : قال أبو إسحاق : إن سبق حول التجارة بأن يكون عنده نصاب من الأثمان مدة ، ثم اشترى به نصابا من السائمة وجبت زكاة التجارة فيه ، وإن سبق وجوب زكاة العين بأن اشترى نخلا للتجارة فبدا فيها الصلاح قبل أن يحول حول التجارة وجبت زكاة العين ; لأن السابق منهما قد وجد سبب وجوب زكاته ، وليس هناك زكاة تعارضها ، فوجبت كما قلنا فيما وجد فيه نصاب [ ص: 8 ] إحدى الزكاتين دون الأخرى ، وإن وجد سببهما في وقت واحد ، مثل أن يشتري بما تجب فيه الزكاة نصابا من السائمة للتجارة ، ففيه قولان . قال في القديم : تجب زكاة التجارة ; لأنها أنفع للمساكين ; لأنها تزداد بزيادة القيمة فكان إيجابها أولى . وقال في الجديد : تجب زكاة العين ; لأنها أقوى ; لأنها مجمع عليها ، وزكاة التجارة مختلف في وجوبها ; لأن نصاب العين يعرف قطعا ونصاب التجارة يعرف بالظن فكانت زكاة العين أولى . وقال القاضي أبو حامد : في المسألة قولان سواء اتفق حولهما أو سبق حول أحدهما ، والأول أصح .

                                      فإن كان المشترى نخيلا وقلنا بقوله القديم ، قوم النخيل والثمرة وأخرج الزكاة عن قيمتها ، وإن قلنا بقوله الجديد ، لزمه عشر الثمرة ، وهل يقوم النخيل ؟ فيه قولان : أحدهما : لا يقوم ; لأن المقصود هو الثمار وقد أخرجنا عنها العشر . والثاني : يقوم ويخرج الزكاة من قيمتها ; لأن العشر زكاة الثمار . فأما الأصول فلم يخرج زكاتها . فوجب أن تقوم وتخرج عنها الزكاة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) :

                                      قال أصحابنا رحمهم الله تعالى : إذا كان مال التجارة نصابا من السائمة أو الثمر أو الزرع ، لم يجمع فيه بين وجوب زكاتي التجارة والعين بلا خلاف ، وإنما يجب إحداهما . وفي الواجب قولان : ( أصحهما ) وهو الجديد وأحد قولي القديم : تجب زكاة العين ، ( والثاني ) وهو أحد قولي القديم : تجب زكاة التجارة ، ودليل العين أنها أقوى لكونها مجمعا عليها ; ولأنها يعرف نصابها قطعا بالعدد والكيل . وأما التجارة فتعرف ظنا ، ودليل التجارة أنها أنفع للمساكين ، فإنه لا وقص فيها . فإن قلنا : بالعين أخرج السن الواجبة من السائمة ، وبضم السخال إلى الأمات كما سبق في بابه ، وإن قلنا : بالتجارة ، قال البغوي وغيره : يقوم في الثمار الثمرة والنخيل والأرض ، وفي الزرع يقوم الحب والتبن والأرض ، وفي السائمة تقوم مع درها ونسلها وصوفها وما اتخذ من لبنها . وهذا تفريع على أن النتاج مال تجارة ، وفيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى . وعلى هذا القول لا تأثير لنقص النصاب في أثناء الحول تفريعا على الأصح أن نصاب العرض إنما يعتبر في الحول .

                                      ولو اشترى نصابا من السائمة للتجارة ثم اشترى بها عرضا [ ص: 9 ] بعد ستة أشهر مثلا ، فعلى قول اعتبار زكاة التجارة لا ينقطع الحول ، وعلى قول العين ينقطع ويبتدئ حول زكاة التجارة من حين ملك العرض ، وهذان القولان فيما إذا ملك نصاب الزكاتين واتفق الحولان . أما إذا لم يكمل إلا نصاب أحدهما بأن كان المال أربعين شاة وتبلغ قيمتها نصابا من الدراهم والدنانير عند تمام الحول ، أو كان دون أربعين شاة وتبلغ قيمتها نصابا ، فالصحيح وجوب زكاة ما بلغت به نصابا ، وبهذا قطع المصنف والأصحاب في معظم الطرق . وقيل : في وجوبها وجهان حكاه الرافعي وهو غلط ، وإذا قلنا بزكاة العين فنقصت الماشية في أثناء السنة عن نصابها ونقلناها إلى زكاة التجارة فهل يبني حولها على حول العين ؟ أم يستأنف حول التجارة ؟ فيه وجهان كالوجهين فيمن ملك نصاب سائمة لا للتجارة فاشترى به عرض تجارة هل يبني حول التجارة على حول السائمة ؟ ( أصحهما ) يستأنف في الموضعين ، وإذا أوجبنا زكاة التجارة لنقصان الماشية المشتراة للتجارة عن النصاب ثم بلغت نصابا في أثناء الحول بالنتاج ، ولم تبلغ القيمة نصابا في آخر الحول ، فوجهان : ( أصحهما ) : لا زكاة ; لأن الحول انعقد للتجارة فلا يتعين ، ( والثاني ) : ينتقل إلى زكاة العين لإمكانها ، فعلى هذا هل يعتبر الحول من وقت نقص القيمة عن النصاب ؟ أو من وقت تمام النصاب بالنتاج ؟ فيه وجهان حكاهما البغوي وغيره .

                                      وأما إذا كمل نصاب الزكاتين واختلف الحولان بأن اشترى بمتاع التجارة بعد ستة أشهر نصاب سائمة أو اشترى به معلوفة للتجارة ثم أسامها بعد ستة أشهر ، ففيه طريقان حكاهما المصنف والأصحاب : ( أصحهما ) وبه قال القاضي أبو حامد وصححه البغوي والرافعي وآخرون ، وهو نص الشافعي رضي الله عنه أنه على القولين كما لو اتفق حولهما ; ولأن الشافعي رضي الله عنه لم يفرق ; ولأنه فرض المسألة ويبعد اتفاق آخر جزء من حول التجارة مع أول بدو الصلاح . ( والطريق الثاني ) : وبه قال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة وأبو حفص بن الوكيل ، [ ص: 10 ] حكاه عنهما الماوردي وصححه المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب ، وقطع به الجرجاني في " التحرير " أن القولين مخصوصان بما إذا اتفق الحولان . بأن اشترى بعرض للقنية نصاب سائمة للتجارة ، فعلى هذا يقدم أسبقهما حولا ، ففي المثال المذكور يجب زكاة التجارة لسبق حولها . وحجة هذا الطريق : أنه أرفق بالمساكين . فإن قلنا : بطرد القولين فسبق حول التجارة ، فإن غلبنا زكاة التجارة أخذت زكاتها ، وإن غلبنا العين فوجهان حكاهما الرافعي .

                                      ( أحدهما ) : تجب عند تمام حولها ويبطل ما سبق من حول التجارة .

                                      ( وأصحهما ) : تجب زكاة التجارة عند تمام حولها هذا ; لئلا يبطل بعض حولها ويفوت على المساكين . فعلى هذا يستفتح حول زكاة العين بعد انقضاء حول التجارة ، وتجب زكاة العين في جميع الأحوال المستقبلة ، أما إذا اشترى نخيلا للتجارة فأثمرت أو أرضا مزروعة فأدرك الزرع ، وبلغ الحاصل نصابا ، فهل الواجب زكاة التجارة أو العين ؟ فيه قولان .

                                      ( الأصح ) : العين ، فإن لم يكمل أحد النصابين أو كملا واختلف الحولان ففيه التفصيل السابق ، هذا إذا كانت الثمرة حاصلة عند الشرى ، وبدا الصلاح في ملكه ، أما إذا أطلعت بعد الشرى فهذه ثمرة حدثت من شجر التجارة ، وفي ضمها إلى مال التجارة خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى ( والأصح : ) ضمها .

                                      قال إمام الحرمين : فعلى هذا هي كالحاصلة عند الشرى ، وتنزل منزلة زيادة متصلة أو أرباح متحددة في قيمة العرض ، ولا تنزل منزلة ربح ينض ليكون فيها الخلاف المعروف في ضم الربح الناض ، وإن قلنا : ليست مال تجارة ، وجبت زكاة العين فيها ، وتختص زكاة التجارة بالأرض والأشخاص . قال أصحابنا : فإن غلبنا زكاة العين أخرج العشر أو نصفه من الثمار والزروع ، وهل يسقط به زكاة التجارة عن قيمة جذع النخلة [ ص: 11 ] وتبن الزرع ؟ فيه وجهان مشهوران حكاهما الشيخ أبو حامد والمحاملي والماوردي والقاضي أبو الطيب وإمام الحرمين والسرخسي والبغوي والجمهور . وقال المصنف وصاحب " الشامل " : هما قولان ( أصحهما : ) لا يسقط ; لأن المخرج زكاة الثمرة ، وبقي الجذع والتبن بلا زكاة ولا يمكن فيها زكاة العين فوجبت زكاة التجارة ، كما لو كان للتجارة منفردا .

                                      ( والثاني ) : تسقط ; لأن المقصود هو الثمرة والحب ، وقد أخرج زكاتهما ، وفي أرض النخيل والزرع طريقان .

                                      ( أصحهما ) وبه قطع الجمهور : أنه على الوجهين في الجذع .

                                      ( والثاني ) : حكاه البغوي والسرخسي وآخرون من الخراسانيين : تجب الزكاة فيهما وجها واحدا ; لأن الأرض ليست أصلا للثمرة والحب بخلاف الجذع .

                                      . قال إمام الحرمين : ينبغي أن يعتبر ذلك بما يدخل في الأرض المتخللة بين النخيل في المساقاة وما لا يدخل ، فما لا يدخل تجب فيه الزكاة بلا خلاف ، وما يدخل فهو على الطريق ، وهذا الذي قاله الإمام احتمالا لنفسه ، وقد صرح بنقله صاحب " الحاوي " فقال : إذا كان في الأرض بياض غير مشغول بزرع ولا نخل ، وجبت زكاته وجها واحدا ، فإذا أوجبنا زكاة التجارة في الأرض والجذع والتبن ونحوها فلم تبلغ قيمتها نصابا ، فهل تضم قيمة الثمرة والحب إليها لإكمال النصاب ؟ فيه وجهان ، حكاهما البغوي وآخرون . ( أحدهما ) : لا ; لأنه أدى زكاتهما .

                                      ( والثاني ) : تضم لتكميل النصاب في هذه الأشياء لا لإيجاب زكاة أخرى في الثمرة والحب . والأول : أصح . قال الرافعي نقلا عن الأصحاب : وإذا قلنا بزكاة العين فزكاها لا يسقط اعتبار زكاة التجارة عن الثمر والحب في المستقبل ، بل تجب فيها زكاة التجارة في الأحوال المستقبلة ، ويكون ابتداء حول التجارة من وقت إخراج العشر لا من وقت بدو الصلاح ; لأنه يلزمه بعد بدو الصلاح تربية الثمار للمساكين ، فلا يجوز أن يحسب عليه زمن التربية ، فأما إذا غلبنا زكاة التجارة فتقوم الثمرة والجذع ، ويقوم في الزرع [ ص: 12 ] والحب والتبن ، ونقوم الأرض فيهما جميعا ، وسواء اشتراها مزروعة للتجارة أم اشترى بذرا وأرضا للتجارة وزرعه فيها ، في جميع ما ذكرنا ولا خلاف في هذا كله .

                                      ولو اشترى الثمار وحدها للتجارة قبل بدو الصلاح ثم بدا في ملكه جرى القولان في أنه يجب العشر أم زكاة التجارة ؟ قال البغوي والأصحاب : ولو اشترى أرضا للتجارة فزرعها ببذر للقنية ، وجب العشر في الزرع ، وزكاة التجارة في الأرض بلا خلاف فيهما .



                                      ( فرع ) لو اتهب نصابا من السائمة بنية التجارة لزمه زكاة العين إذا تم حولها بلا خلاف ; لأن حول التجارة لا ينعقد بالاتهاب ، واحتج البغوي بهذه المسألة السابقة : أنه إذا اشترى نخيلا أو أرضا مزروعة أو سائمة للتجارة ، فوجب نصاب إحداهما دون الأخرى ، وجبت زكاتها لإمكانها دون الأخرى .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : إذا اشترت المرأة حليا يباح لها لبسه للتجارة ، وجبت فيه الزكاة وإن كانت تلبسه ، كما لو استعمل الرجل دواب التجارة ، ثم إن قلنا : الحلي المباح لا زكاة فيه ، وجبت هنا زكاة التجارة ، بلا خلاف إذا بلغ نصابا ، وإن قلنا : فيه زكاة فهل تجب هنا زكاة التجارة أم العين ؟ فيه القولان : قال صاحب " الحاوي " : تظهر فائدتهما في الصيغة إن قلنا بالتجارة اعتبرت الصيغة وإلا فلا .




                                      الخدمات العلمية