الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( صم بكم عمي فهم لا يرجعون ) جموع كثرة على وزن فعل ، وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا ، نحو : أحمر وحمراء ، أو انفرد المانع في الخلقة ، نحو : عذل ورتق . فإن كان الوصف مشتركا لكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء ، وذلك نحو : رجل آلى وامرأة عجزاء ، لم ينقس فيه فعل بل يحفظ فيه . والصمم : داء يحصل في الأذن يسد العروق فيمنع من السمع ، وأصله من الصلابة ، قالوا : قناة صماء ، وقيل : أصله السد ، وصممت القارورة : سددتها . والبكم : آفة تحصل في اللسان تمنع من الكلام ، قاله أبو حاتم ، وقيل : الذي يولد أخرس ، وقيل : الذي لا يفهم الكلام ولا يهتدي إلى الصواب ، فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان . والعمى : ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات ، والفعل منها على فعل بكسر العين ، واسم الفاعل على أفعل ، وهو قياس الآفات والعاهات . والرجوع ، إن لم يتعد ، فهو بمعنى : العود ، وإن تعدى فبمعنى : الإعادة . وبعض النحويين يقول : إنها تضمن معنى صار فتصير من باب كان ، ترفع الاسم وتنصب الخبر . قال الزمخشري : لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بذكر ضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيان ، ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن ، والغائب بأنه مشاهد ، وفيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامح الآبي ، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين [ ص: 76 ] وفي سائر كتبه أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلام الأنبياء والحكماء ، فقال الله - تعالى - : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) ، ومن سور الإنجيل سور الأمثال ، انتهى كلامه .

ومثلهم : مبتدأ ، والخبر في الجار والمجرور بعده ، والتقدير كائن كمثل ، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر . وقال ابن عطية : الخبر الكاف ، وهي على هذا اسم ، كما هي في قول الأعشى :


أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل



انتهى .

وهذا الذي اختاره وبدأ به غير مختار ، وهو مذهب أبي الحسن ، يجوز أن تكون الكاف اسما في فصيح الكلام ، وتقدم أنا لا نجيزه إلا في ضرورة الشعر ، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر الوجه الذي اختاره ، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في قوله : فصيروا مثل : ( كعصف مأكول ) . وحمله على ذلك ، والله أعلم ، أنه لما تقرر عنده أن المثل والمثل بمعنى ، صار المعنى عنده على الزيادة ، إذ المعنى تشبيه المثل بالمثل ، لا بمثل المثل ، والمثل هنا بمعنى القصة والشأن ، فشبه شأنهم ووصفهم بوصف المستوقد نارا ، فعلى هذا لا تكون الكاف زائدة . وفي جهة المماثلة بينهم وبين الذي استوقد نارا وجوه ذكروها ، الأول : أن مستوقد النار يدفع بها الأذى ، فإذا انطفأت عنه وصل الأذى إليه ، كذلك المنافق يحقن دمه بالإسلام ويبيحه بالكفر . الثاني : أنه يهتدي بها ، فإذا انطفأت ضل ، كذلك المنافق يهتدي بالإسلام ، فإذا اطلع على نفاقه ذهب عنه نور الإسلام وعاد إلى ظلمة كفره . الثالث : أنه إذا لم يمدها بالحطب ذهب ضوؤها ، كذلك المنافق ، إذا لم يستدم الإيمان ذهب إيمانه . الرابع : أن المستضيء بها نوره من جهة غيره لا من جهة نفسه ، فإذا ذهبت النار بقي في ظلمة ، كذلك المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد قلبه كان نور إيمانه كالمستعار . الخامس : أن الله شبه إقبالهم على المسلمين بالإضاءة وعلى المشركين بالذهاب ، قاله مجاهد . السادس : شبه الهدى الذي باعوه بالنور الذي حصل للمستوقد ، والضلالة المشتراة بالظلمات . السابع : أنه مثل ضربه الله للمنافق لأنه أظهر الإسلام فحقن به دمه ومشى في حرمته وضيائه ثم سلبه في الآخرة عند حاجته إليه ، روي معناه عن الحسن ، وهذه الأقاويل على أن ذلك نزل في المنافقين ، وهو مروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل . وروي عن ابن جبير وعطاء ومحمد بن كعب ويمان بن رئاب ، أنها في اليهود ، فتكون في المماثلة إذ ذاك وجوه ذكروها ، الأول : أن مستوقد النار يستضيء بنورها ويتأنس وتذهب عنه وحشة الظلمة ، واليهود لما كانوا يبشرون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستفتحون به على أعدائهم ويستنصرون به فينصرون ، شبه حالهم بحال المستوقد النار ، فلما بعث وكفروا به ، أذهب الله ذلك النور عنهم . الثاني : شبه نار حربهم التي شبوها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنار المستوقد ، وإطفاءها بذهاب النور الذي للمستوقد . الثالث : شبه ما كانوا يتلونه في التوراة من اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفته وصفة أمته ودينه وأمرهم باتباعه بالنور الحاصل لمن استوقد نارا ، فلما غيروا اسمه وصفته وبدلوا التوراة وجحدوا أذهب الله عنهم نور ذلك الإيمان ، وتقدم الكلام على الذي ، وتقدم قول الفارسي في أنه يجري مجرى من في الإفراد والجمع ، وقول الأخفش أنه مفرد في معنى الجمع ، والذي نختاره أنه مفرد لفظا وإن كان في المعنى نعتا لما تحته أفراد ، فيكون التقدير كمثل الجمع الذي استوقد نارا كأحد التأويلين في قوله :


وإن الذي حانت بفلج دماؤهم



ولا يحمل على المفرد لفظا ومعنى بجمع الضمير في ذهب الله بنورهم ، وجمعه في دمائهم . وأما من زعم أن الذي هنا هو الذين وحذفت النون لطول الصلة ، فهو خطأ لإفراد الضمير في العلة ، ولا يجوز الإفراد للضمير لأن المحذوف كالملفوظ به . ألا ترى جمعه في قوله [ ص: 77 ] تعالى : ( وخضتم كالذي خاضوا ) على أحد التأويلين ، وجمعه في قول الشاعر :


يا رب عبس لا تبارك في أحد     في قائم منهم ولا فيمن قعد

إلا الذي قاموا بأطراف المسد

وأما قول الفارسي : إنها مثل من ، ليس كذلك لأن الذي صيغة مفرد وثني وجمع بخلاف من ، فلفظ من مفرد مذكر أبدا وليس كذلك الذي ، وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى : ( وخضتم كالذي خاضوا ) ، وأعل لتسويغ ذلك بأمرين ، قال : أحدهما : أن الذي لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة ، واستطالته بصلته حقيق بالتخفيف ، ولذلك نهكوه بالحذف ، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ، وهذا الذي ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام ، وإن كان قد تقدمه إليه بعض النحويين خطأ ؛ لأنه لو كانت اللام بقية الذي لكان لها موضع من الإعراب ، كما كان للذي ، ولما تخطى العامل إلى أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها ، ويجاز وصلها بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أو حذفت ، قال : والثاني : إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون ، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة ، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهن سواء ؟ انتهى . وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون صحيح من حيث اللفظ ، وأما من حيث المعنى فليس كذلك ، بل هو مثله من حيث المعنى ، ألا ترى أنه لا يكون واقعا إلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من الذكورية والعقل ؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين من جهة أنه لا يكون إلا جمعا لمذكر عاقل ، ولكنه لما كان مبنيا التزم فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثر العرب ، وهذيل أتت بصيغة الجمع فيه بالواو والنون رفعا والياء والنون نصبا وجرا ، وكل العرب التزمت جمع الضمير العائد عليه من صلته كما يعود على الجمع المذكر العاقل ، فدل هذا كله على أن ما ذكره ليس بمسوغ لأن يوضع الذي موضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من إرادة الجمع أو النوع ، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية