الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 324 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - باب السواك ( السواك سنة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { السواك مطهرة للفم مرضاة للرب } " ويستحب في ثلاثة أحوال : ( أحدها ) : عند القيام للصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك } " .

                                      ( والثاني ) : عند اصفرار الأسنان لما روى العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { استاكوا ، لا تدخلوا علي قلحا } " . والثالث : عند تغير الفم وذلك قد يكون من النوم وقد يكون بالأزم ، وهو ترك الأكل ، وقد يكون بأكل شيء يتغير به الفم لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : " { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك } " وإنما استاك ; لأن النائم ينطبق فمه ويتغير ، وهذا المعنى موجود في كل ما يتغير به الفم فوجب أن يستحب له السواك ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) في هذه القطعة جمل من الأحاديث والأسماء واللغات والأحكام يحصل بيانها إن شاء الله تعالى بمسائل : ( إحداها ) : حديث عائشة : " { السواك مطهرة للفم مرضاة للرب } " حديث صحيح رواه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة في صحيحه والنسائي والبيهقي في سننهما وآخرون بأسانيد صحيحة ، وذكره البخاري في صحيحه في كتاب الصيام تعليقا فقال : وقالت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم : { السواك مطهرة للفم مرضاة للرب } وهذا التعليق صحيح ; لأنه بصيغة جزم ، وقد ذكرت في علوم الحديث أن تعليقات البخاري إذا كانت بصيغة الجزم فهي صحيحة . والمطهرة بفتح الميم وكسرها لغتان ذكرهما ابن السكيت وآخرون وهي كل إناء يتطهر به ، شبه السواك بها لأنه ينظف الفم . والطهارة : النظافة . وقوله صلى الله عليه وسلم : { مرضاة للرب } قال العلماء : الرب بالألف واللام لا يطلق إلا على الله تعالى بخلاف رب فإنه يضاف إلى المخلوق ، فيقال رب المال ورب الدار ورب الماشية كما قال النبي [ ص: 325 ] صلى الله عليه وسلم في الحديث في ضالة الإبل : { دعها حتى يأتيها ربها } ، وقد أنكر بعضهم إضافة رب إلى الحيوان وهذا الحديث يرد قوله . وقد أوضحت كل هذا بدلائله في آخر كتاب الأذكار . ومما جاء في فضل السواك مطلقا حديث أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أكثرت عليكم في السواك } " رواه البخاري في باب الجمعة والله أعلم .

                                      وأما حديث عائشة : " { صلاة بسواك خير من سبعين بغير سواك } " فضعيف رواه البيهقي من طرق وضعفها كلها وكذا ضعفه غيره ، وذكره الحاكم في المستدرك وقال : هو صحيح على شرط مسلم ، وأنكروا ذلك على الحاكم وهو معروف عندهم بالتساهل في التصحيح ، وسبب ضعفه أن مداره على محمد بن إسحاق وهو مدلس ولم يذكر سماعه ، والمدلس إذا لم يذكر سماعه لا يحتج به بلا خلاف كما هو مقرر لأهل هذا الفن وقوله : أنه على شرط مسلم ليس كذلك فإن محمد بن إسحاق لم يرو له مسلم شيئا محتجا به ، وإنما روى له متابعة ، وقد علم من عادة مسلم وغيره من أهل الحديث أنهم يذكرون في المتابعات من لا يحتج به للتقوية لا للاحتجاج ، ويكون اعتمادهم على الإسناد الأول وذلك مشهور عندهم ، والبيهقي أتقن في هذا الفن من شيخه الحاكم وقد ضعفه والله أعلم . ويغني عن هذا الحديث حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } " رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية للبخاري " مع كل صلاة " وقد غلط بعض الأئمة الكبار فزعم أن البخاري لم يروه وجعله من أفراد مسلم ، وقد رواه البخاري في كتاب الجمعة . وأما حديث العباس فهو ضعيف رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه ثم البيهقي عن العباس ، ورواه البيهقي أيضا عن ابن عباس وإسنادهما ليس بقوي ، قال البيهقي : هو حديث مختلف في إسناده وضعفه أيضا غيره ، ويغني عنه في الدلالة حديث : " { السواك مطهرة للفم } " والله أعلم . وأما حديث عائشة : " إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك " فهو في الصحيحين بهذا اللفظ من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ، لا من [ ص: 326 ] رواية عائشة ، وقيل : إن ذكر عائشة وهم من المصنف وعدوه من غلطه والله أعلم .

                                      المسألة الثانية في لغاته : قال أهل اللغة : السواك بكسر السين ويطلق السواك على الفعل وهو الاستياك وعلي الآلة التي يستاك بها ويقال في الآلة أيضا مسواك بكسر الميم ، يقال : ساك فاه يسوكه سوكا ، فإن قلت : استاك ، لم تذكر الفم . والسواك مذكر نقله الأزهري عن العرب ، قال : وغلط الليث بن المظفر في قوله : إنه مؤنث ، وذكر صاحب المحكم أنه يؤنث ويذكر لغتان ، قالوا : وجمعه سوك بضم السين والواو ككتاب وكتب ويخفف بإسكان الواو ، وقال صاحب المحكم : قال أبو حنيفة : يعني الدينوري الإمام في اللغة : ربما همز فقيل سؤاك ، قال : والسواك مشتق من ساك الشيء إذا دلكه ، وأشار غيره إلى أنه مشتق من التساوك يعني التمايل ، يقال : جاءت الإبل تتساوك أي تتمايل في مشيتها ، والصحيح أنه من ساك إذا دلك ، هذا مختصر كلام أهل اللغة فيه . وهو في اصطلاح الفقهاء استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإذهاب التغير ونحوه والله أعلم . وقوله : " مطهرة للفم مرضاة للرب سبق شرحهما ، وميم الفم مخففة على المشهور ، وفي لغية يجوز تشديدها ، وقد بسطت ذلك في تهذيب الأسماء واللغات ، وقوله : " يستحب في ثلاثة أحوال " كذا هو في المهذب ثلاثة وهو صحيح ، وفي الحال لغتان التذكير والتأنيث فيقال ثلاثة أحوال ، وثلاث أحوال ، وحال حسن ، وحالة حسنة . وقوله : " { صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك } " معناه ثوابها أكثر من ثواب سبعين ، وقوله : لا تدخلوا علي قلحا بضم القاف وإسكان اللام والحاء المهملة جمع أقلح وهو الذي على أسنانه قلح بفتح القاف واللام وهو صفرة ووسخ يركبان الأسنان . قال صاحب المحكم : ويقال فيه أيضا القلاح بضم القاف وتخفيف اللام ويقال قلح الرجل بفتح القاف وكسر اللام وأقلح . وقوله : وقد يكون بالأزم وهو ترك الأكل ، الأزم بفتح الهمزة وإسكان الزاي وأصله في اللغة الإمساك وذكره الشافعي وتأوله أصحابنا . تأويلين [ ص: 327 ] أحدهما : الجوع ، والثاني : السكوت وكلاهما صحيح ، وقول المصنف : " ترك الأكل " كان ينبغي أن يقول : " ترك الأكل والشرب " . وقوله : " يشوص فاه " بضم الشين المعجمة وبالصاد المهملة ، والشوص دلك الأسنان عرضا بالسواك ، كذا قاله الخطابي وغيره ، وقيل : الغسل وقيل : التنقية ، وقيل غير ذلك ، والصحيح الأول والله أعلم .

                                      المسألة الثالثة : العباس هو العباس بن عبد المطلب أبو الفضل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمام نسبه في رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاث ، توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين ، وقيل أربع وثلاثين ، وكان أشد الناس سمعا .

                                      المسألة الرابعة في الأحكام : فالسواك سنة ليس بواجب ، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا ما حكى الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا عن داود أنه أوجبه ، وحكى صاحب الحاوي أن داود أوجبه ولم يبطل الصلاة بتركه ، قال : وقال إسحاق بن راهويه . هو واجب فإن تركه عمدا بطلت صلاته . وهذا النقل عن إسحاق غير معروف ولا يصح عنه ، وقال القاضي أبو الطيب والعبدري : غلط الشيخ أبو حامد في حكايته وجوبه عن داود ، بل مذهب داود أنه سنة ; لأن أصحابنا نصوا أنه سنة ، وأنكروا وجوبه ولا يلزم من هذا الرد على أبي حامد . واحتج لداود بظاهر الأمر ، واحتج أصحابنا بما احتج به الشافعي في الأم والمختصر بحديث أبي هريرة الذي ذكرناه : " { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } " قال الشافعي - رحمه الله - : لو كان واجبا لأمرهم به ، شق أو لم يشق . قال العلماء في هذا الحديث إن الأمر للوجوب واستدل أصحابنا بأحاديث أخر وأقيسة ، ولا حاجة إلى الإطالة في الاستدلال إذا لم نتيقن خلافا ، والأحاديث الواردة بالأمر محمولة على الندب جمعا بين الأحاديث والله أعلم .

                                      واعلم أن السواك سنة في جميع الأحوال إلا للصائم بعد الزوال ، ويتأكد استحبابه في أحوال ، هكذا قاله أصحابنا . وعبارة المصنف توهم اختصاص الاستحباب بالأحوال الثلاثة المذكورة وليس الحكم كذلك بل هو مستحب [ ص: 328 ] في كل الأحوال لغير الصائم لقوله صلى الله عليه وسلم : " { السواك مطهرة للفم مرضاة للرب } " . وأما الأحوال التي يتأكد الاستحباب فيها فخمسة : أحدها : عند القيام إلى الصلاة ، سواء صلاة الفرض والنفل ، وسواء صلى بطهارة ماء أو تيمم أو بغير طهارة كمن لم يجد ماء ولا ترابا وصلى على حسب حاله ، صرح به الشيخ أبو حامد والمتولي وغيرهما . الثاني : عند اصفرار الأسنان ودليله حديث : " { السواك مطهرة } " وأما احتجاج المصنف له بحديث العباس فلا يصح لأنه ضعيف كما سبق . الثالث : عند الوضوء اتفق عليه أصحابنا ، ممن صرح به صاحبا الحاوي والشامل وإمام الحرمين والغزالي والروياني وصاحب البيان وآخرون ، ولا يخالف هذا اختلاف الأصحاب في أن السواك هل هو من سنن الوضوء أم لا ؟ فإن ذلك الخلاف إنما هو في أنه يعد من سنن الوضوء أم سنة مستقلة عند الوضوء لا منه ، وكذا اختلفوا في التسمية وغسل الكفين ولا خلاف أنهما سنة ، وإنما الخلاف في كونها من سنن الوضوء ، ودليل استحبابه عند الوضوء حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء } " وفي رواية : { لفرضت عليهم السواك مع الوضوء } وهو حديث صحيح رواه ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما وصححاه وأسانيده جيدة ، وذكره البخاري في صحيحه في كتاب الصيام تعليقا بصيغة جزم ، وفيه حديث آخر في الصحيح ذكرته في جامع السنة تركته هنا لطوله . الرابع : عند قراءة القرآن ذكره الماوردي والروياني وصاحب البيان والرافعي وغيرهم . والخامس : عند تغير الفم ، وتغيره قد يكون بالنوم وقد يكون بأكل ما له رائحة كريهة ، وقد يكون بترك الأكل والشرب ، وبطول السكوت ، قال صاحب الحاوي : ويكون أيضا بكثرة الكلام والله أعلم . هذه الأحوال الخمسة التي ذكرها أصحابنا ، وفي صحيح مسلم عن عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك } " والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا أراد أن يصلي صلاة ذات تسليمات كالتراويح والضحى ، وأربع ركعات سنة الظهر أو العصر ، والتهجد ونحو ذلك استحب أن يستاك [ ص: 329 ] لكل ركعتين لقوله صلى الله عليه وسلم : " { لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة أو مع كل صلاة } " وهو حديث صحيح كما سبق .

                                      ( فرع ) قال المزني في المختصر : قال الشافعي - رحمه الله - : أحب السواك للصلوات عند كل حال تتغير فيها الفم . كذا وقع في المختصر " عند " بغير واو ، قال القاضي حسين أخل المزني بالواو ، وكذا قاله غير القاضي ، وهو كما قالوه فقد قاله الشافعي - رحمه الله - في الأم بالواو ، واتفق نص الشافعي - رحمه الله - والأصحاب على أن السواك سنة عند الصلاة ، وإن لم يتغير الفم .

                                      ( فرع ) في أول كتاب النكاح من الترمذي عن أبي أيوب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أربع من سنن المرسلين : الحياء والتعطر والسواك والنكاح } " قال الترمذي : حديث حسن ، هذا كلامه وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وأبو الشمال ، والحجاج ضعيف عند الجمهور ، وأبو الشمال مجهول فلعله اعتضد بطريق آخر فصار حسنا ، وقوله : الحياء هو بالياء لا بالنون وإنما ضبطته لأني رأيت من صحفه في عصرنا وقد سبق بتصحيفه ، وقد ذكر الإمام الحافظ أبو موسى الأصبهاني هذا الحديث في كتابه الاستغناء في استعمال الحناء وأوضحه وقال : هو مختلف في إسناده ومتنه ، يروى عن عائشة وابن عباس وأنس وجد مليح كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : واتفقوا على لفظ الحياء قال : وكذا أورده الطبراني والدارقطني وأبو الشيخ وابن منده وأبو نعيم وغيرهم من الحفاظ والأئمة ، قال : وكذا هو في مسند الإمام أحمد وغيره من الكتب . ومرادي بذكر هذا الفرع بيان أن السواك كان في الشرائع السابقة والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية