الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
" وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما يتذكرون " .

لما نزلهم منزلة من لا يعلم ضرب مثلا لهم وللمؤمنين ، فمثل الذين يجادلون في أمر البعث مع وضوح إمكانه مثل الأعمى ، ومثل المؤمنين الذين آمنوا به حال البصير ، وقد علم حال المؤمنين من مفهوم صفة أكثر الناس لأن الأكثرين من الذين لا يعلمون يقابلهم أقلون يعلمون .

والمعنى : لا يستوي الذين اهتدوا والذين هم في ضلال ، فإطلاق الأعمى والبصير استعارة للفريقين اللذين تضمنهما قوله ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

ونفي الاستواء بينهما يقتضي تفضيل أحدهما على الآخر كما قدمنا في قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين الآية في سورة النساء ، ومن المتبادر أن الأفضل هو صاحب الحال الأفضل وهو البصير إذ لا يختلف الناس في أن البصر أشرف من العمى في شخص واحد ، ونفي الاستواء بدون متعلق يقتضي العموم في متعلقاته ، لكنه يخص بالمتعلقات التي يدل عليها سياق الكلام وهي آيات الله ودلائل صفاته ، ويسمى مثل هذا العموم العموم العرفي ، وتقدم نظيرها في سورة فاطر .

وقوله والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء زيادة بيان لفضيلة أهل الإيمان بذكر فضيلتهم في أعمالهم بعد ذكر فضلهم في إدراك أدلة إمكان البعث ونحوه من أدلة الإيمان .

والمعنى : وما يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئون ، أي في أعمالهم كما يؤذن بذلك قوله وعملوا الصالحات ولا المسيء ، وفيه إيماء إلى [ ص: 178 ] اختلاف جزي الفريقين وهذا الإيماء إدماج للتنبيه على الثواب والعقاب .

والواو في قوله والذين آمنوا عاطفة الجملة على الجملة بتقدير : وما يستوي الذين آمنوا .

والواو في قوله ولا المسيء عاطفة المسيء على الذين آمنوا عطف المفرد على المفرد ، فالعطف الأول عطف المجموع مثل قوله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن .

وإنما قدم ذكر الأعمى على ذكر البصير مع أن البصر أشرف من العمى بالنسبة لذات واحدة ، والمشبه بالبصير أشرف من المشبه بالأعمى إذ المشبه بالبصير المؤمنون ، فقد ذكر تشبيه الكافرين مراعاة لكون الأهم في المقام بيان حال الذين يجادلون في الآيات إذ هم المقصود بالموعظة .

وأما قوله والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء فإنما رتب فيه ذكر الفريقين على عكس ترتيبه في التشبيه بالأعمى والبصير اهتماما بشرف المؤمنين .

وأعيدت لا النافية بعد واو العطف على النفي ، وكان العطف مغنيا عنها فإعادتها لإفادتها تأكيد نفي المساواة ومقام التوبيخ يقتضي الإطناب ، ولذلك تعد ( لا ) في مثله زائدة كما في مغني اللبيب ، وكان الظاهر أن تقع لا قبل الذين آمنوا ، فعدل عن ذلك للتنبيه على أن المقصود عدم مساواة المسيء لمن عمل الصالحات ، وأن ذكر الذين آمنوا قبل المسيء للاهتمام بالذين آمنوا ولا مقتضي للعدول عنه بعد أن قضي حق الاهتمام بالذين سيق الكلام لأجل تمثيلهم ، فحصل في الكلام اهتمامان .

وقريب منه ما في سورة فاطر في أربع جمل : اثنتين قدم فيهما جانب تشبيه الكافرين ، واثنتين قدم فيهما تشبيه جانب المؤمنين ، وذلك قوله تعالى وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات .

( وقليلا ) حال من ( أكثر الناس ) في قوله تعالى قبله [ ص: 179 ] ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وما في قوله ما يتذكرون مصدرية وهي في محل رفع على الفاعلية .

وهذا مؤكد لمعنى قوله ولكن أكثر الناس لا يعلمون لأن قلة التذكر تئول إلى عدم العلم ، والقلة هنا كناية عن العدم وهو استعمال كثير ، كقوله تعالى فقليلا ما يؤمنون ، ويجوز أن تكون على صريح معناها ويكون المراد بالقلة عدم التمام ، أي لا يعلمون فإذا تذكروا تذكروا تذكرا لا يتمنونه فينقطعون في أثنائه عن التعمق إلى استنباط الدلالة منه فهو كالعدم في عدم ترتب أثره عليه .

وقرأ الجمهور " يتذكرون " بياء الغيبة جريا على مقتضى ظاهر الكلام ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف تتذكرون بتاء الخطاب على الالتفات ، والخطاب للذين يجادلون في آيات الله .

وكون الخطاب لجميع الأمة من مؤمنين ومشركين وأن التذكر القليل هو تذكر المؤمنين فهو قليل بالنسبة لعدم تذكر المشركين بعيد عن سياق الرد ولا يلاقي الالتفات .

التالي السابق


الخدمات العلمية