الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( وأما المضبب بالفضة فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال : إن كان قليلا للحاجة لم يكره لما روى أنس رضي الله عنه " { أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشفة سلسلة من فضة } " وإن كان للزينة كره ; لأنه غير محتاج إليه ، ولا يحرم لما روى أنس قال : " { كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة ، وقبيعة سيفه فضة وما بين ذلك حلق الفضة } " وإن كان كثيرا للحاجة كره لكثرته ، ولم يحرم للحاجة . وإن كان كثيرا للزينة حرم لقول ابن عمر : لا يتوضأ ولا يشرب من قدح فيه حلقة من فضة أو ضبة من فضة ، وعن عائشة رضي الله عنها : " أنها نهت أن تضبب الأقداح بالفضة " ومن أصحابنا من قال : يحرم في موضع الشرب ; لأنه يقع الاستعمال به ، ولا يحرم فيما سواه ; لأنه لا يقع به الاستعمال ، ومنهم من قال : يكره ولا يحرم لحديث أنس في سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 313 ] الشرح ) قد جمعت هذه القطعة جملا من الأحاديث واللغات والأحكام يحصل بيانها بمسألتين : ( إحداهما ) : حديث القدح صحيح رواه البخاري إلا أنه وقع في المهذب فاتخذ مكان " الشفة " هو تصحيف ، والصواب ما في صحيح البخاري وغيره فاتخذ مكان للشعب بفتح الشين المعجمة وإسكان العين وبعدها باء موحدة ، والمراد بالشعب الشق والصدع ، وقوله : انكسر معناه انشق كما جاء في رواية انصدع والمراد أنه شد الشق بخيط فضة فصارت صورته صورة سلسلة ، وفي رواية للبخاري فسلسله بفضة . قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - : وقوله فاتخذ ، يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المتخذ وليس كذلك ، بل أنس هو المتخذ ، ففي رواية قال أنس : فجعلت مكان الشعب سلسلة . وهذا الذي قاله أبو عمرو قد أشار إليه البيهقي وغيره ، وفي رواية للبخاري عن عاصم قال : رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك فكان قد انصدع فسلسله بفضة ، وقد أوضحت ذلك مع طرق الحديث في جامع السنة . والله أعلم . وأما الحديث الآخر فحسن ، روى أبو داود والترمذي منه : " { كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة } " قال الترمذي : هو حديث حسن ، وروى محمد بن سعد كاتب الواقدي في الطبقات القدر المذكور في المهذب كله بالطريق الذي رواه منه أبو داود والترمذي فجميع الحديث على شرط أبي داود والترمذي فهو حديث حسن . والقبيعة بفتح القاف وكسر الباء الموحدة وهي التي تكون على رأس قائم السيف وطرف مقبضه ، والحلق بفتح الحاء وكسرها لغتان مشهورتان واللام فيهما مفتوحة جمع حلقة بإسكان اللام ، وحكى الجوهري فتحها أيضا في لغة رديئة ، والمشهور إسكانها ، ونعل السيف ما يكون في أسفل غمده من حديد أو فضة ونحوهما . وأما الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما فصحيح رواه البيهقي وغيره بإسناد صحيح ، لكن لفظه : " كان ابن عمر لا يشرب في قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضة ، " وأما الأثر عن عائشة رضي الله عنها فحسن رواه الطبراني والبيهقي بمعناه . والله أعلم . وأما أنس فهو أبو حمزة أنس بن مالك بن النضر الأنصاري النجاري [ ص: 314 ] بالنون والجيم المدني ثم البصري خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، وتوفي بالبصرة ودفن بها سنة ثلاث وتسعين وهو ابن مائة وثلاث سنين ، وكان أكثر الصحابة أولادا لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له بكثرة المال والولد والبركة ، وهو من أكثر الصحابة رواية . وأما ابن عمر فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي ، أسلم مع أبيه بمكة قديما ، شهد الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة وما بعده من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي بمكة سنة ثلاث وسبعين وهو ابن ثلاث وثمانين وقيل أربع ، ومناقب ابن عمر وأنس مشهورة ذكرت جملا منها في تهذيب الأسماء . وبالله التوفيق .

                                      والمسألة الثانية في الأحكام : قال الشافعي - رحمه الله - في المختصر : ( وأكره المضبب بالفضة لئلا يكون شاربا على فضة ) ، وللأصحاب في المسألة أربعة أوجه : حكى المصنف ثلاثة بدلائلها : ( أحدها ) : إن كان قليلا للحاجة لم يكره ، وإن كان للزينة كره ، وإن كان كثيرا حرم ، وإن كان للحاجة كره . ( والوجه الثاني ) : إن كان في موضع الاستعمال كموضع فم الشارب حرم ، وإلا فلا .

                                      ( والثالث ) : يكره ولا يحرم بحال .

                                      ( والرابع ) : حكاه الشيخ أبو محمد الجويني يحرم بكل حال لما ذكرناه عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم ، وأصح هذه الأوجه الأول وهو الأشهر عند العراقيين وقطع به كثيرون منهم أو أكثرهم وصححه الباقون منهم ممن قطع به الشيخ أبو حامد والمحاملي والماوردي والشيخ نصر المقدسي ونقله القاضي أبو الطيب عن الداركي ومتأخري الأصحاب ، قال : وحملوا نص الشافعي عليه .

                                      ( والوجه الثاني ) هو قول أبي إسحاق المروزي حكاه عنه القاضي أبو الطيب . والقائل لا يحرم بحال هو أبو علي الطبري وغيره ، كذا قاله القاضي أبو الطيب ، وعلى هذا الوجه الأول وهو الصحيح المختار ذكرنا أن القليل للزينة يكره ، وحكى الخراسانيون وجها على هذا أنه يحرم ، وحكى الماوردي وجها أنه لا يكره .

                                      ( فرع ) في بيان الحاجة والقلة في قولهم إن كان قليلا للحاجة أما الحاجة فقال الأصحاب : المراد بها غرض يتعلق بالتضبيب سوى الزينة ، [ ص: 315 ] كإصلاح موضع الكسر ونحوه ، ولا يتجاوز به موضع الكسر إلا بقدر ما يستمسك به ، قال أصحابنا : ولا يشترط العجز عن التضبيب بنحاس وحديد وغيرهما ، هكذا صرح به ابن الصباغ والمتولي والغزالي والروياني وصاحب البيان وغيرهم ، وذكر إمام الحرمين احتمالين لنفسه : أحدهما : هذا . والثاني : معناها أن يعدم ما يضبب به غير الذهب والفضة .

                                      وأما ضبط القليل والكثير ففيه ثلاثة أوجه : ( أحدها ) : وهو المشهور في طريقتي العراق وخراسان أن الكثير هو الذي يستوعب جزءا من أجزاء الإناء بكماله كأعلاه أو أسفله أو شفته أو عروته أو شبه ذلك ، والقليل ما دونه ، وبهذا قطع الفوراني والمتولي والبغوي وصاحبا العدة والبيان وغيرهم . واستدل له الإمام أبو الحسن إلكيا الهراسي صاحب إمام الحرمين في كتابه ( زوايا المسائل ) بأنه إذا استوعبت الفضة جزءا كاملا خرج عن أن يكون تابعا للإناء ، وخرج الإناء عن أن يكون إناء نحاس أو حديد مثلا ، بل يقال إناء مركب من نحاس وفضة ، لكون جزء من أجزائه المقصودة بكماله فضة ، بخلاف ما إذا لم يستوعب جزءا بكماله فإنه يقع مغمورا تابعا ، ولا يعد الإناء بسببه مركبا من فضة ونحاس ، وهذا استدلال حسن . والوجه الثاني : أن الرجوع في القلة والكثرة إلى العرف ، قاله الروياني وحكاه الرافعي وأشار إلى اختياره واستحسانه ، ودليله أن ما أطلق ولم يحد رجع في ضبطه إلى العرف كالقبض في البيع والحرز في السرقة وإحياء الموات ونظائرها . والثالث : وهو اختيار إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما أن الكثير ما يلمع للناظر على بعد ، والقليل ما لا يلمع ، ومرادهم ما لا يخرج عن الاعتدال والعادة في رقته وغلظه ، وأنكر إمام الحرمين الوجه الأول ، وضعفه ، ثم اختار هذا الثالث ، وهذا الذي اختاره فيه ضعف ، والمختار الرجوع إلى العرف ، والوجه المشهور حسن متجه أيضا ، ومتى شككنا في الكثرة فالأصل الإباحة . والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا ضبب الإناء تضبيبا جائزا فله استعماله مع وجود غيره من الآنية التي لا فضة فيها ، وهذا لا خلاف فيه ، صرح به إمام الحرمين وغيره .



                                      [ ص: 316 ] فروع تتعلق بالفصلين السابقين في الأواني : ( أحدها ) : قال أصحابنا : لو شرب بكفيه وفي أصبعه خاتم فضة لم يكره ، وكذا لو صب الدراهم في إناء وشرب منه أو كان في فمه دنانير ودراهم فشرب لم يكره ، ولو أثبت الدراهم في الإناء بمسامير للزينة قال المتولي والروياني وصاحب العدة : هو كالضبة للزينة ، وقطع القاضي حسين بجوازه .



                                      ( الثاني ) : لو اتخذ إناء من ذهب أو فضة وطلاه بنحاس داخله وخارجه فوجهان مشهوران في تعليق القاضي حسين والتتمة والتهذيب والعدة والبيان وغيرها : أصحهما لا يحرم ، قالوا : وهما مبنيان على أن الذهب والفضة حرام لعينهما أم للخيلاء ؟ إن قلنا لعينهما حرم وإلا فلا ، وقال إمام الحرمين : إن غشى ظاهره ففيه الوجهان ، وإن غشى ظاهره وداخله فالذي أراه القطع بجواز استعماله ; لأنه إناء نحاس أدرج فيه ذهب مستتر ، وبهذا الذي قاله الإمام جزم الغزالي في البسيط وقال : لا خلاف فيه ، ولو اتخذ إناء من نحاس وموهه بذهب أو فضة قال إمام الحرمين والغزالي في البسيط والرافعي وغيرهم : إن كان يتجمع منه شيء بالنار حرم استعماله ، وإلا فوجهان بناء على المعنيين . والأصح لا يحرم ، قاله في الوسيط والوجيز ، وأطلق القاضي حسين والبغوي والمتولي وصاحبا العدة والبيان الوجهين ولم يفرقوا بين المستهلك وما يتجمع منه شيء . والصواب حمل كلامهم على المستهلك كما صرح به إمام الحرمين وتابعوه ، وقد جزم الماوردي والجرجاني بأنه إذا غشي جميعه بالفضة حرم استعماله . والله أعلم .



                                      ( الثالث ) : لو كان له قدح عليه سلسلة فضة قطع القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وصاحب العدة بجوازه ، وزاد المتولي والبغوي فقالا : لو اتخذ لإنائه حلقة أو سلسلة فضة أو رأسا - جاز ; لأنه منفصل عن الإناء لا يستعمله ، هذا كلام هؤلاء الأئمة ، وينبغي أن يجعل كالتضبيب ، ويجيء فيه التفصيل والخلاف .



                                      ( الرابع ) : إذا قلنا بطريقة الخراسانيين : إن المضبب بذهب كالمضبب بفضة فهل يسوى بينهما في التفصيل في الصغر والكبر على ما سبق ؟ ، قال الرافعي : [ ص: 317 ] لم يتعرض الأكثرون لذلك ، وعن الشيخ أبي محمد أنه ينبغي أن لا يسوى ; لأن الخيلاء في قليل الذهب كالخيلاء في كثير الفضة ، وأقرب ضابط له تعتبر قيمة ضبة الذهب إذا قومت بفضة ، قال الرافعي : وقياس الباب أن لا فرق ، وهذا الذي قاله الرافعي هو الصحيح ; لأن مأخذ المسألة أن بعض الإناء كالإناء أم لا ؟ والله أعلم .



                                      ( الخامس ) : لو اضطر إلى استعمال إناء ولم يجد إلا ذهبا أو فضة جاز استعماله حال الضرورة ، وصرح به إمام الحرمين والغزالي وجماعات والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في المضبب بالفضة . قد ذكرنا تفصيل مذهبنا فيه ، ونقل القاضي عياض أن جمهور العلماء من السلف والخلف على كراهة الضبة والحلقة من الفضة ، قال : وجوزهما أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق إذا لم يكن فمه على الفضة في الشرب ، هذا كلام القاضي ، والمعروف عن أحمد كراهة المضبب .




                                      الخدمات العلمية