الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون

                          [ ص: 283 ] قوله - تعالى - : وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب بيان لحال طائفة أخرى من أهل الكتاب ، والجمهور على أن المراد بهذا الفريق بعض علماء اليهود الذين كانوا حوالي المدينة وإن كان التشنيع عليهم يتناول كل من كان على شاكلتهم منهم ومن غيرهم . ويروون عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أن هذا الفريق هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف أحد زعمائهم الملحين في عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيذائه والإغراء به ، غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته ; يوهمون الناس أنه من التوراة ، وهذا العمل ينبئ بفساد اعتقادهم وعدم استمساكهم بكتابهم . وذلك أنهم جعلوا الدين جنسية وصار الانتصار له عندهم عبارة عن مقاومة من لم يكن من جنسهم وإن كان أقرب منهم إلى ما جاء في كتابهم ، بل إنهم يخرجون عن كتابهم ويحرفونه لمقاومة الغريب ، ويعدون ذلك انتصارا له ، وهكذا يفعل أشباههم من المسلمين اليوم ، فقد يعدون من أنصار الدين والمتعصبين له من لا معرفة له بعقائده وأصوله ولا بفروعه إلا ما هو مشهور عن العامة ، ولا هو يعمل بما يعلم من ذلك - وإنما يعدونه كذلك إذا هو عادى من لا يعدون من المسلمين ولو بسبب سياسي أو دنيوي لا علاقة له بالإسلام ، بل يعدون من أنصار الدين من يطعن في بعض المصلحين من المسلمين لمخالفتهم ما عليه العامة والمقلدون فيما يعدونه من الإسلام لأنهم اعتادوه لا لأن كتاب الله جاء به . وقد يحرفون القرآن بالتأويل لتأييد تقاليدهم وبدعهم أو يعرضون عنه اعتذارا بأنهم غير مطالبين بأخذ دينهم منه بل من كلام العلماء .

                          أما لي اللسان بالكتاب فهو فتله للكلام وتحريفه له بصرفه عن معناه إلى معنى آخر وقد وصف - تعالى - بهاليهود في سورة النساء بقوله : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم [ 4 : 46 ] فهذا مثال من لي اللسان بالكلام وإن لم يكن من الكتاب ، ذلك أنهم وضعوا كلمة غير مسمع مكان جملة " لا أسمعت مكروها " الدعائية التي تقال عادة عند ذكر السماع . وكلمة راعنا مكان كلمة " انظرنا " التي يقولها الناس لمن يطلبون معونته ومساعدته وإنما قالوا : غير مسمع لأنها تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى " لا سمعت " وقالوا : راعنا لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها - كما قال المفسرون ، وسيأتي تفصيل ذلك في محله - ومثل هذا ما ورد في كتب الحديث والسير من أنهم كانوا إذا سلموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يضغمون كلمة السلام فيخفون اللام قائلين " السام عليكم " غير مفصحين بالكلمة ، والسام : الموت ، فاللي والتحريف قد كان يكون منهم أحيانا بتغيير في اللفظ وأحيانا بصرفه إلى غير [ ص: 284 ] المعنى المراد منه ، ومنه أن يقرأ القارئ شيئا بالكيفية التي يقرأ بها الكتاب من جرس الصوت وطريقة النغم وإظهار الخشوع ليحسبه السامع من الكتاب فيقبله ، ولا أذكر أن أحدا نبه عليه . ولفظ اللي يتناوله وهو مما يتبادر إلى أذهان الموهمين ، وقد رأينا من المتساهلين في المسلمين من يأتيه مازحا بأن يقرأ من كتاب ما جملا بالتجويد الذي يقرأ به القرآن ليوهم الجاهل أو يختبره . ويروى أن عبد الله بن رواحة أوهم امرأته بمثل ذلك ، وهو مما لا يصدق على صحابي جليل مثله .

                          قال الأستاذ الإمام : هذا اللي هو أن يعطي الناطق للفظ معنى آخر غير المعنى الذي يظهر منه . مثال ذلك الألفاظ التي جاءت على لسان سيدنا عيسى - عليه السلام - ككلمة ابن الله وتسمية الله أبا له وأبا للناس فقد كان ذلك استعمالا مجازيا ، ولواه بعضهم فنقله إلى الحقيقة بالنسبة إلى المسيح وحده أي فهم يفسرون لفظا بغير معناه المراد في الكتاب يوهمون الناس أن الكتاب جاء بذلك كما قال : لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون إنهم كاذبون .

                          أكد الخبر بتعمدهم التحريف وسجل الكذب الصريح عليهم ; كأنه يقول إنهم لا يعرضون ولا يورون وإنما يصرحون بالكذب تصريحا لفرط جراءتهم وعدم خوفهم من الله - تعالى - لأن الدين عندهم رسم ظاهر وجنسية هي مصدر الغرور ; إذ يعتقدون أنهم يغفر لهم جميع ما يجترمون لأنهم من أهل هذا الدين ، ومن سلالة أولئك النبيين ، وهكذا حال الذين اتبعوا سننهم من المسلمين ، يقولون إن المسلم من أهل الجنة حتما ، مهما كانت سيرته سيئة وعمله قبيحا .

                          فإن لم تدركه الشفاعات أدركته المغفرة ، ويعنون بالمسلم من اتخذ الإسلام جنسا له ، وإن لم يصدق عليه ما جاء في الكتاب والأحاديث من صفات المؤمنين الصادقين ، بل صدق عليه ما جاء في وصف الكافرين والمنافقين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية