الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في كراهية أن تنزى الحمر على الخيل

                                                                                                          1701 حدثنا أبو كريب حدثنا إسمعيل بن إبراهيم حدثنا أبو جهضم موسى بن سالم عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا مأمورا ما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث أمرنا أن نسبغ الوضوء وأن لا نأكل الصدقة وأن لا ننزي حمارا على فرس قال أبو عيسى وفي الباب عن علي وهذا حديث حسن صحيح وروى سفيان الثوري هذا عن أبي جهضم فقال عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس قال وسمعت محمدا يقول حديث الثوري غير محفوظ ووهم فيه الثوري والصحيح ما روى إسمعيل ابن علية وعبد الوارث بن سعيد عن أبي جهضم عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن ابن عباس

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( حدثنا موسى بن سالم أبو جهضم ) مولى آل العباس صدوق من السادسة ( عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ) بن عبد المطلب الهاشمي ثقة من الرابعة .

                                                                                                          قوله : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا مأمورا ) أي بأوامره منهيا عن نواهيه ، أو مأمورا بأن يأمر أمته بشيء وينهاهم عن شيء ، كذا قيل . وقال القاضي : أي مطواعا غير مستبد في الحكم ولا حاكم بمقتضى ميله وتشهيه حتى يخص من شاء بما شاء من الأحكام انتهى . والأظهر أن يقال إنه كان مأمورا بتبليغ الرسالة عموما لقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية ( ما اختصنا ) أي أهل البيت ، يريد به نفسه وسائر أهل بيت النبوة ( دون الناس ) أي متجاوزا عنهم ( إلا بثلات ) أي ما اختصنا بحكم لم يحكم به على سائر أمته ولم يأمرنا بشيء لم يأمرهم به انتهى . إلا بثلاث خصال . ( أمرنا أن نسبغ الوضوء ) بضم أوله أي نستوعب ماءه أو نكمل [ ص: 289 ] أعضاءه قال في المغرب : أي وجوبا لأن إسباغ الوضوء مستحب للكل ( وأن لا ننزي حمارا على فرس ) من أنزى الحمر على الخيل حملها عليه ، ولعله كان هذا نهي تحريم بالنسبة إليهم . وقال القاضي : الظاهر أن قوله : أمرنا إلخ تفصيل للخصال ، وعلى هذا ينبغي أن يكون الأمر أمر إيجاب ، وإلا لم يكن فيه اختصاص لأن إسباغ الوضوء مندوب على غيرهم ، وإنزاء الحمار على الفرس مكروه مطلقا لحديث علي ، والسبب فيه قطع النسل واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير فإن البغلة لا تصلح للكر والفر ولذلك لا سهم له في الغنيمة ولا سبق فيها على وجه ، ولأنه علق بأن لا يأكل الصدقة وهو واجب فينبغي أن يكون قرينة أيضا كذلك ، وإلا لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين ، اللهم إلا أن يفسر الصدقة بالتطوع ، أو الأمر بالمشترك بين الإيجاب والندب . ويحتمل أن المراد به أنه صلى الله عليه وسلم ما اختصنا بشيء إلا بمزيد الحث والمبالغة في ذلك انتهى .

                                                                                                          وفي الحديث رد بليغ على الشيعة حيث زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص أهل البيت بعلوم مخصوصة ، ونظيره ما صح عن علي رضي الله عنه حين سئل : هل عندكم شيء ليس في القرآن ؟ فقال : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يعطى الرجل في كتابه وما في الصحيفة . الحديث .

                                                                                                          قال الطحاوي في شرح الآثار بعد رواية حديث ابن عباس المذكور في الباب ، وحديث علي الذي أشار إليه الترمذي ما لفظه : ذهب قوم إلى هذا فكرهوا إنزاء الحمر على الخيل وحرموا ذلك ومنعوا منه واحتجوا بهذه الآثار ، وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بذلك بأسا وكان من الحجة لهم في ذلك أن ذلك لو كان مكروها لكان ركوب البغال مكروها ; لأنه لولا رغبة الناس في البغال وركوبهم إياها لما أنزئت الحمر على الخيل . ألا ترى أنه لما نهى عن إخصاء بني آدم كره بذلك الخصيان لأن في اتخاذهم ما يحمل من تحضيضهم على إخصائهم ; لأن الناس إذا تحاموا اتخاذهم لم يرغب أهل الفسق في إخصائهم ، ثم ذكر بسنده عن العلاء بن عيسى الذهبي أنه قال : أتي عمر بن عبد العزيز بخصي فكره أن يبتاعه وقال : ما كنت لأعين على الإخصاء ، فكل شيء في ترك كسبه ترك لبعض أهل المعاصي لمعصيتهم فلا ينبغي كسبه ، فلما أجمع على إباحة اتخاذ البغال وركوبها دل ذلك على أن النهي الذي في الآثار الأول لم يرد به التحريم ولكنه أريد به معنى آخر ، ثم ذكر أحاديث ركوبه صلى الله عليه وسلم على البغال ثم قال : فإن قال قائل : فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون . قيل له : قد قال أهل العلم في ذلك معناه أن الخيل قد جاء في ارتباطها واكتسابها وعلفها [ ص: 290 ] الأجر وليس ذلك في البغال . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما ينزو فرس على فرس حتى يكون عنهما ما فيه الأجر ، ويحمل حمارا على فرس فيكون عنهما بغل لا أجر فيه للذين لا يعلمون ، أي لأنهم يتركون بذلك إنتاج ما في ارتباطه الأجر وينتجون ما لا أجر في ارتباطه ، ثم ذكر أحاديث فضل ارتباط الخيل ثم قال : فإن قال قائل : فما معنى اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم بالنهي عن إنزاء الحمير على الخيل ؟ قيل له : لما حدثنا ابن أبي داود قال حدثنا أبو عمر الحوضي ، قال : حدثنا المرجي هو ابن رجاء ، قال حدثنا أبو جهضم ، قال : حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ، قال : ما اختصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بثلاث : أن لا نأكل الصدقة ، وأن نسبغ الوضوء ، وأن لا ننزي حمارا على فرس ، قال : فلقيت عبد الله بن الحسن وهو يطوف بالبيت فحدثته ، فقال : صدق ، كانت الخيل قليلة في بني هاشم فأحب أن تكثر فيهم ، فبين عبد الله بن الحسن بتفسيره هذا المعنى الذي له اختص رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم أن لا تنزءوا الحمار على فرس ، وأنه لم يكن للتحريم ، وإنما كانت العلة قلة الخيل فيهم ، فإذا ارتفعت تلك العلة وكثرت الخيل في أيديهم صاروا في ذلك كغيرهم . وفي اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالنهي عند ذلك دليل على إباحته إياه لغيرهم .

                                                                                                          ولما كان صلى الله عليه وسلم قد جعل في ارتباط الخيل ما ذكرنا من الثواب والأجر وسئل عن ارتباط الحمير فلم يجعل في ارتباطها شيئا والبغال التي هي خلاف الخيل مثلها كان من ترك أن تنتج ما في ارتباطه وكسبه ثواب وأنتج ما لا ثواب في ارتباطه وكسبه من الذين لا يعلمون . فلقد ثبت بما ذكرنا إباحة نتج البغال لبني هاشم وغيرهم ، وإن كان إنتاج الخيل أفضل من ذلك ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين . انتهى كلام الطحاوي مختصرا .

                                                                                                          قلت : في كلام الطحاوي هذا أنظار كما لا يخفى على المتأمل . قال الطيبي : لعل الإنزاء غير جائز والركوب والتزين به جائز إن كان كالصور ، فإن عملها حرام واستعمالها في الفرش والبسط مباح .

                                                                                                          قلت : وكذا تخليل الخمر حرام وأكل خل الخمر جائز على رأي بعض الأئمة .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن علي ) أخرجه أبو داود والطحاوي عنه قال : أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة فركبها ، فقال علي : لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " .

                                                                                                          [ ص: 291 ] قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه النسائي والطحاوي .




                                                                                                          الخدمات العلمية