الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    ( فصل )

                    [ ص: 60 ] ومن ذلك : أنه يجوز للحاكم الحكم بشهادة الرجل الواحد إذا عرف صدقه ، في غير الحدود ، ولم يوجب الله على الحكام ألا يحكموا إلا بشاهدين أصلا ، وإنما أمر صاحب الحق أن يحفظ حقه بشاهدين ، أو بشاهد وامرأتين ، وهذا لا يدل على أن الحاكم لا يحكم بأقل من ذلك ، بل قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين ، وبالشاهد فقط .

                    قال ابن عباس رضي الله عنهما : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين } رواه مسلم .

                    وقال أبو هريرة رضي الله عنه : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد } رواه ابن وهب عن سليمان بن هلال عن ربيعة عن سهيل عنه . رواه أبو داود .

                    وقال جابر بن عبد الله : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد } رواه الشافعي عن الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عنه .

                    قال علي بن أبي طالب : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة رجل واحد مع يمين صاحب الحق } . رواه البيهقي من حديث شبابة .

                    حدثنا عبد العزيز الماجشون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عنه ، وقال : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين } . رواه يعقوب بن سفيان في مسنده " .

                    قال المنذري : وقد روي القضاء بالشاهد واليمين من رواية عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وسعد بن عبادة ، والمغيرة بن شعبة ، وجماعة من الصحابة ، وعمرو بن حزم ، والزبيب بن ثعلبة ، وقضى بذلك عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، والقاضي العدل شريح ، وعمر بن عبد العزيز .

                    قال الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد : أن ذلك عندنا هو السنة المعروفة .

                    قال أبو عبيد : وذلك من السنن الظاهرة التي هي أكثر من الرواية والحديث . [ ص: 61 ] قال أبو عبيد : وهو الذي نختاره ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واقتصاصا لأثره ، وليس ذلك مخالفا لكتاب الله عند من فهمه ، ولا بين حكم الله وحكم رسوله اختلاف ، إنما هو غلط في التأويل ، حيث لم يجدوا ذكر اليمين في الكتاب ظاهرا ، فظنوه خلافا .

                    وإنما الخلاف : لو كان الله حظر اليمين في ذلك ، ونهى عنها ، والله تعالى لم يمنع من اليمين ، إنما أثبتها في الكتاب - إلى أن قال : { فرجل وامرأتان } وأمسك .

                    ثم فسرت السنة ما وراء ذلك . وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرة للقرآن ومترجمة عنه ، وعلى هذا أكثر الأحكام . كقوله : { لا وصية لوارث } و : { الرجم على المحصن } .

                    و { النهي عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها } و { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } و { قطع الموارثة بين أهل الإسلام [ ص: 62 ] وأهل الكفر } .

                    و { إيجابه على المطلقة ثلاثا : مسيس الزوج الآخر } في شرائع كثيرة ، لا يوجد لفظها في ظاهر الكتاب . ولكنها سنن شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فعلى الأمة اتباعها ، كاتباع الكتاب .

                    وكذلك الشاهد واليمين لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما ، وإنما في الكتاب : { فرجل وامرأتان } علم أن ذلك إذا وجدتا ، فإذا عدمتا قامت اليمين مقامهما ، كما علم حين مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين أن قوله تعالى : { وأرجلكم } معناه : أن تكون الأقدام بادية . وكذلك لما رجم المحصن في الزنا : علم أن قوله : { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } للبكرين .

                    وكذلك كل ما ذكرنا من السنن على هذا فما بال الشاهد واليمين ترد من بينها ؟ وإنما هي ثلاث منازل في شهادات الأموال ، اثنتان بظاهر الكتاب وواحدة بتفسير السنة له . فالمنزلة الأولى : الرجلان .

                    والثانية : الرجل والمرأتان .

                    والثالثة : الرجل واليمين .

                    فمن أنكر هذه لزمه إنكار كل شيء ذكرناه ، لا يجد من ذلك بدا حتى يخرج من قول العلماء .

                    قال أبو عبيد : ويقال لمن أنكر الشاهد واليمين ، وذكر أنه خلاف القرآن : ما تقول في الخصم يشهد له الرجل والمرأتان ، وهو واجد لرجلين يشهدان له ؟ فإن قالوا : الشهادة جائزة .

                    قيل : ليس هذا أولى بالخلاف ، وقد اشترط القرآن فيه ألا يكون للمرأتين شهادة إلا مع فقد أحد الرجلين ، فإنه [ ص: 63 ] سبحانه قال : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ولم يقل : واستشهدوا شهيدين من رجالكم أو رجلا وامرأتين .

                    فيكون فيه الخيار ، كما جعله في الفدية كما قال تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } ومثل ما جعله في كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم أو تحرير رقبة فهذه أحكام الخيار ، ولم يقل ذلك في آية الدين .

                    ولكنه قال فيها كما قال في آية الفرائض : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } وكذلك الآية التي بعدها فقوله هاهنا : { إن لم يكن } كقوله في آية الشهادة { فإن لم يكونا } كذلك قال في آية الطهور : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } وفي آية الظهار { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } وكذلك في متعة الحج وكفارة اليمين : أن الصوم لا يجزئ الواجد .

                    فأي الحكمين أولى بالخلاف : هذا أم الشاهد واليمين ، الذي ليس فيه من الله اشتراط منع ، إنما سكت عنه ، ثم فسرته السنة ؟ قال أبو عبيد : وقد وجدنا في حكمهم ما هو أعجب من هذا ، وهو قولهم في رضاع اليتيم الذي لا مال له ، وله خال وابن عم موسران : إن الخال يجبر على رضاعه ، لأنه محرم ، وإنما اشترط التنزيل غيره فقال : { وعلى الوارث مثل ذلك } .

                    وقد أجمع المسلمون أن لا ميراث للخال مع ابن العم ، ثم لم نجد هذا الحكم في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من سلف العلماء ، وقد وجدنا الشاهد واليمين في آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غير واحد من الصحابة ومن التابعين .

                    وقال الربيع : قال الشافعي : قال بعض الناس في اليمين مع الشاهد قولا أسرف فيه على نفسه ، قال : أرد حكم من حكم بها ، لأنه خالف القرآن .

                    فقلت له : الله تعالى أمر بشاهدين أو شاهد وامرأتين ؟ قال : نعم ، فقلت : أحتم من الله ألا يجوز أقل من شاهدين ؟ قال : فإن قلته ؟ قلت : فقله .

                    قال : قد قلته .

                    قلت وتحدد في الشاهدين اللذين أمر الله بهما حدا ؟ قال : نعم ، حران مسلمان بالغان عدلان .

                    قلت : ومن حكم بدون ما قلت خالف حكم الله ؟ قال : نعم .

                    قلت له : إن كان كما زعمت ، خالفت حكم الله ، قال : وأين ؟ قلت : أجزت شهادة أهل الذمة ، وهم غير الذين شرط الله أن تجوز شهادتهم .

                    وأجزت شهادة القابلة وحدها على الولادة ، وهذان وجهان أعطيت بهما من جهة الشهادة ، ثم أعطيت بغير شهادة في القسامة وغيرها .

                    قلت : والقضاء باليمين مع الشاهد ليس يخالف حكم الله ، بل هو موافق لحكم الله ، إذ فرض الله تعالى طاعة رسوله ، فإن اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله سبحانه قبلت ، كما قبلت عن رسوله .

                    قال : أفيوجد لهذا نظير في القرآن ؟ قلت : نعم .

                    أمر الله سبحانه في الوضوء بغسل القدمين ، أو مسحهما فمسحنا على الخفين بالسنة .

                    وقال تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي [ ص: 64 ] إلي محرما على طاعم يطعمه } الآية ، فحرمنا نحن وأنت كل ذي ناب من السباع بالسنة .

                    وقال : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } . فحرمنا نحن وأنت الجمع بين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها ، وذكر الرجم ونصاب السرقة ، قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله معنى ما أراد خاصا وعاما .

                    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : القرآن لم يذكر الشاهدين ، والرجل والمرأتين في طرق الحكم التي يحكم بها الحاكم ، وإنما ذكر النوعين من البينات في الطرق التي يحفظ بها الإنسان حقه .

                    فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه . وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله . فليكتب ، وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل . واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } .

                    فأمرهم سبحانه بحفظ حقوقهم بالكتاب وأمر من عليه الحق أن يملي الكاتب ، فإن لم يكن ممن يصح إملاؤه أملى عنه وليه ، ثم أمر من له الحق أن يستشهد على حقه رجلين ، فإن لم يجد فرجل وامرأتان . ثم نهى الشهداء المتحملين للشهادة عن التخلف عن إقامتها إذا طلبوا لذلك . ثم رخص لهم في التجارة الحاضرة : ألا يكتبوها ثم أمرهم بالإشهاد عند التبايع . ثم أمرهم إذا كانوا على سفر - ولم يجدوا كاتبا - أن يستوثقوا بالرهان المقبوضة . كل هذا نصيحة لهم ، وتعليم وإرشاد لما يحفظوا به حقوقهم ، وما تحفظ به الحقوق شيء ، وما يحكم به الحاكم شيء .

                    فإن طرق الحكم أوسع من الشاهدين والمرأتين ، فإن الحاكم يحكم بالنكول واليمين المردودة ، ولا ذكر لهما في القرآن ، فإن كان الحكم بالشاهد الواحد واليمين مخالفا لكتاب الله ، فالحكم بالنكول والرد أشد مخالفة .

                    وأيضا ، فإن الحاكم يحكم بالقرعة بكتاب الله وسنة رسوله الصريحة الصحيحة ، ويحكم بالقافة بالسنة الصريحة الصحيحة التي لا معارض لها ، ويحكم بالقسامة بالسنة الصحيحة الصريحة ، ويحكم بشاهد الحال إذا تداعى الزوجان أو الصانعان متاع البيت والدكان ، ويحكم - عند من أنكر الحكم بالشاهد واليمين - بوجوه الآجر في الحائط فيجعله للمدعي إذا كانت إلى جهته .

                    وهذا كله ليس في القرآن ولا حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه فكيف ساغ الحكم به ، ولم يجعل مخالفا لكتاب الله ؟ ورد ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وغيرهم من الصحابة ويجعل مخالفا لكتاب الله ؟ بل القول ما قاله أئمة الحديث : إن الحكم بالشاهد واليمين : حكم بكتاب الله ، فإنه حق ، والله سبحانه أمر بالحكم بالحق ، فهاتان قضيتان ثابتتان بالنص . [ ص: 65 ]

                    أما الأولى : فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من بعده حكموا به ولا يحكمون بباطل .

                    وأما الثانية : فلقوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } وقوله : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } فالحكم بالشاهد واليمين مما أراه الله إياه قطعا .

                    وقال تعالى : { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم ، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم } وهذا مما حكم به . فهو عدل مأمور به من الله ولا بد .

                    24 - ( فصل )

                    والذين ردوا هذه المسألة لهم طرق : الطريق الأولى : أنها خلاف كتاب الله ، فلا تقبل وقد بين الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وغيرهم - أن كتاب الله لا يخالفها بوجه ، وإنها لموافقة لكتاب الله .

                    وأنكر الإمام أحمد والشافعي على من رد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لزعمه أنها تخالف ظاهر القرآن ، وللإمام أحمد في ذلك كتاب مفرد سماه كتاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم " .

                    والذي يجب على كل مسلم اعتقاده : أنه ليس في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة سنة واحدة تخالف كتاب الله ، بل السنن مع كتاب الله على ثلاث منازل .

                    المنزلة الأولى : سنة موافقة شاهدة بنفس ما شهد به الكتاب المنزل .

                    المنزلة الثانية : سنة تفسر الكتاب ، وتبين مراد الله منه ، وتقيد مطلقه .

                    المنزلة الثالثة : سنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب فتبينه بيانا مبتدأ ولا يجوز رد واحدة من هذه الأقسام الثلاثة وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة .

                    وقد أنكر الإمام أحمد على من قال : " السنة تقضي على الكتاب " فقال : بل السنة تفسر الكتاب وتبينه ، والذي يشهد الله ورسوله به : أنه لم تأت سنة صحيحة واحدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض كتاب الله وتخالفه ألبتة ، كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين لكتاب الله ، وعليه أنزل ، وبه هداه الله ، وهو مأمور باتباعه ، وهو أعلم الخلق بتأويله ومراده ، ولو ساغ رد سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب لردت بذلك أكثر السنن ، وبطلت بالكلية .

                    فما من أحد يحتج عليه بسنة صحيحة [ ص: 66 ] تخالف مذاهبه ونحلته إلا ويمكنه أن يتشبث بعموم آية أو إطلاقها ، ويقول : هذه السنة مخالفة لهذا العموم والإطلاق فلا تقبل .

                    حتى أن الرافضة - قبحهم الله - سلكوا هذا المسلك بعينه في رد السنن الثابتة المتواترة ، فردوا قوله صلى الله عليه وسلم : { لا نورث ما تركنا صدقة } .

                    وقالوا : هذا حديث يخالف كتاب الله ، قال تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم ، للذكر مثل حظ الأنثيين } وردت الجهمية ما شاء الله من الأحاديث الصحيحة في إثبات الصفات بظاهر قوله : { ليس كمثله شيء } .

                    وردت الخوارج ما شاء الله من الأحاديث الدالة على الشفاعة وخروج أهل الكبائر من الموحدين من النار بما فهموه من ظاهر القرآن .

                    وردت الجهمية أحاديث الرؤية - مع كثرتها وصحتها - بما فهموه من ظاهر القرآن في قوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } وردت القدرية أحاديث القدر الثابتة بما فهموه من ظاهر القرآن .

                    وردت كل طائفة ما ردته من السنة بما فهموه من ظاهر القرآن فإما أن يطرد الباب في رد هذه السنن كلها ، وإما أن يطرد الباب في قبولها ولا يرد شيء منها لما يفهم من ظاهر القرآن .

                    أما أن يرد بعضها ويقبل بعضها - ونسبة المقبول إلى ظاهر القرآن كنسبة المردود - فتناقض ظاهر ، وما من أحد رد سنة بما فهمه من ظاهر القرآن إلا وقد قبل أضعافها مع كونها كذلك .

                    وقد أنكر الإمام أحمد والشافعي وغيرهما على من رد أحاديث تحريم كل ذي ناب من السباع [ ص: 67 ] بظاهر قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } الآية .

                    وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من رد سنته التي لم تذكر في القرآن ، ولم يدع معارضة القرآن لها فكيف يكون إنكاره على من ادعى أن سنته تخالف القرآن وتعارضه ؟

                    25 - ( فصل )

                    الطريق الثاني : أن اليمين إنما شرعت في جانب المدعى عليه فلا تشرع في جانب المدعي ، قالوا : ويدل على ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم { البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر } فجعل اليمين من جانب المنكر ، وهذه الطريقة ضعيفة جدا من وجوه . أحدها : أن أحاديث القضاء بالشاهدين واليمين أصح وأصرح وأشهر .

                    وهذا الحديث لم يروه أحد من أهل الكتب الستة .

                    الثاني : أنه لو قاومها في الصحة والشهرة لوجب تقديمها عليه لخصوصها وعمومه .

                    الثالث : أن اليمين إنما كانت في جانب المدعى عليه ، حيث لم يترجح جانب المدعي بشيء غير الدعوى ، فيكون جانب المدعى عليه أولى باليمين ، لقوته بأصل براءة الذمة ، فكان هو أقوى المدعيين باستصحاب الأصل ، فكانت اليمين من جهته .

                    فإذا ترجح المدعي بلوث ، أو نكول ، أو شاهد كان أولى باليمين ، لقوة جانبه بذلك ، فاليمين - مشروعة في جانب أقوى المتداعيين ، فأيهما قوي جانبه شرعت اليمين في حقه بقوته وتأكيده .

                    ولهذا لما قوي جانب المدعين باللوث شرعت الأيمان في جانبهم ، ولما قوي جانب المدعي بنكول المدعى عليه ردت اليمين عليه ، كما حكم به الصحابة ، وصوبه الإمام أحمد ، وقال : ما هو ببعيد ، يحلف ويأخذ .

                    ولما قوي جانب المدعى عليه بالبراءة الأصلية : كانت اليمين في حقه وكذلك الأمناء ، كالمودع والمستأجر والوكيل والوصي : القول قولهم ، ويحلفون ، لقوة جانبهم بالأيمان .

                    فهذه قاعدة الشريعة المستمرة ، فإذا أقام المدعي شاهدا واحدا قوي جانبه ، فترجح على جانب المدعى عليه ، الذي ليس معه إلا مجرد استصحاب الأصل ، وهو دليل ضعيف يدفع بكل دليل يخالفه ، [ ص: 68 ] ولهذا يدفع بالنكول واليمين المردودة واللوث والقرائن الظاهرة ، فدفع بقول الشاهد الواحد ، وقويت شهادته بيمين المدعي . فأي قياس أحسن من هذا وأوضح ؟ مع موافقته للنصوص والآثار التي لا تدفع .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية